يُستخدم مفهوم الأمن الديني اليوم بشكل واسع في العالم العربي في سياق مواجهة التهديدات التي تشكلها الجماعات المتطرفة والعنيفة مثل داعش وبوكو حرام . حيث يوظف الأمن الديني كسياسة أمنية جديدة لمحاربة الإرهاب تعتمد على مواجهة الخطابات الدينية المتطرفة. لكن سنبين أن هذا المفهوم ليس جديدا وتم تطبيقه في سياقات سابقة ولم يحقق النتائج المتوقعة منه بل بالعكس ساهم تطبيقه في استفحال ظواهر التطرف الديني والإرهاب عوض أن يقلل منها أو يمنعها.
الأمن الديني فكرة توتاليتارية
يطرح دعاة الأمن الديني أن جماعات مثل داعش و بوكو حرام مثلا قبل أن تشكل تهديدا للأمن المادي للأشخاص والممتلكات فهي جماعات تستهدف الأمن الديني والروحي للمجتمعات. ويعتبر هؤلاء أن داعش مثلا لما تقوم بالدعاية لأفكارها المتشددة من أجل إقناع الشبان بالالتحاق بها أو لما تنشر جماعات شيعية أفكارها في وسط شبان في مجتمع ذي غالبية سنية من أجل إقناعهم للالتزام بالمذهب الشيعي أو تنشط جماعات سلفية في الترويج للمذهب الحنبلي في مجتمع أغلبيته من أتباع الإمام مالك أو أن تقوم جماعة انجيلية بالعمل التبشيري في وسط مسلم يشكل هذا في نظرهم مساسا بالوحدة الدينية والمذهبية والانسجام والتماسك الموروث في المجتمع ومن شان هذه النشاطات أن تتسبب في تهديد الأمن الديني للمجتمع.
مفهوم الأمن الديني هو مفهوم مثير للجدل ولا يتوافق مع المفهوم التقليدي للأمن. الحكومة تقليديا وظيفتها الأساسية حفظ أمن الأشخاص والممتلكات ويظهر هذا في عمل الشرطة وهذا الأمن التي تحققه الشرطة هو أمن مادي ملموس ومعروف والجميع يريده. لكن لما نكلف الشرطة بحفظ الأمن الديني في مجتمع إسلامي معناه إننا نطلب من الشرطي القيام بنشاطات غريبة لم يتدرب عليها وليست من مهامه الأصلية كأن نطلب منه “حماية المجتمع من الأفكار الخطيرة” أو السهر على التزام الناس بمذهب فقهي أو كلامي محدد أو محاربة انتشار ” البدع والهرطقات الضارة للمجتمع “. هكذا يصبح الشرطة لديها سجل للجرائم الدينية وسجناء دينيون.
فكرة الأمن الديني ليست جديدة لقد حاول الخليفة المأمون فرض أراء المعتزلة على المجتمع وفشل في ذلك. ولقد عان الإمام احمد مؤسس المذهب الحنبلي نفسه من سياسة المأمون الدينية وسجن بسبب معارضته ذلك.ومن اللافت أن الإمام الجويني الأشعري انتقد سياسية المأمون في فرض العقيدة الاعتزالية واعتبر انه ليست من صلاحيات السلطة أن تفرض أراء دينية محددة.
واليوم هل يمكن أن تنجح الحكومة في تحقيق الأمن الديني المزعوم من خلال السيطرة على المؤسسات الدينية وفرض خطاب ديني رسمي في وسائل الإعلام ومنع دخول الأفكار الجديدة ، الدخيلة، المتشددة والمتطرفة أو الغريبة على المجتمع وذلك من أجل حماية الوحدة المذهبية والدينية التي أصبحت مهددة بفعل انتشار الانترنت حسب ما يزعمون.
لقد حاولت في الماضي الأنظمة الشمولية الشيوعية والنازية والفاشية فرض وحدة فكرية في المجتمع لتحقيق الأمن الفكري من خلال الشرطة : الكاجيبي والغستابو. ماذا كانت النتيجة؟ الملايين من الأرواح زهقت حفاظا على الانسجام وتناغم القيم في المجتمع ومحاربة الأفكار الليبرالية الدخيلة والغريبة على النظام الشمولي والتي كان يرى فيها تهديدا لأمن المجتمع.
الأمن الديني فكرة داعشية
وما نشاهده اليوم من ممارسات يقوم بها تنظيم الدولة (داعش) ما هي إلا محاولة جديدة لتحقيق مفهوم الأمن الديني المزعوم من خلال بناء نظام شمولي إسلامي يخضع فيه الجميع لنفس المعايير الدينية وتسهر شرطة دينية كل الوقت على التزام الناس بمعايير داعش التي يعتبرونها معايير الإسلام الصحيح.لم تدع داعش سوى مهمة حفظ دين الأمة من الضياع من خلال إقامة الخلافة.والنتيجة نراها في الصور المرعبة لممارسات داعش التي تنقلها لنا وسائل الإعلام.
تحقيق الأمن الديني أمر مستحيل
لم تتمكن الحكومات الشيوعية والنازية في الماضي من السيطرة على أفكار الناس .لقد بقيت أفكار الناس وذهبت تلك الأنظمة . لا يمكن أن تحصن الحكومة المجتمع ضد الأفكار الدخيلة. لان الأفكار ليست أمراضا معدية. إن الحكومة لا يمكن أن تكون لها شرطة دينية تحفظ الأمن الديني لان الأمن هو مفهوم فيزيقي فقط وليس روحيا أو فكريا.نحن لا نتصل بالشرطة إلا إذا تعرضت حياتنا أو ممتلكاتنا المادية للخطر. ولو اتصلنا بالشرطة وقلنا لهم أن ” أفكار المجتمع في خطر” سيعتبرها الشرطي مزحة منا أوقد يظن أنه من الأفضل أن نزور طبيبا للصحة العقلية.
ومع ذلك فمن المعقول والمشروع أن يخشى القريب على سلامة قريبه ويخشى الآباء والأمهات على مصير أبناءهم وبناتهم لما يلاحظوا أنهم بدأوا يتغيرون ويتبنون أفكارا دينية متشددة قد تؤثر على حياتهم وتعرضهم للخطر. لا أحد يمكنه أن يتوقع نتائج التحول الذي يحدث للفرد فقد يتحول من الاعتدال إلى التطرف وقد يرجع من التطرف إلى الاعتدال.ماذا تستطيع الشرطة أن تفعل لمنع شخص من تبني أفكار متطرفة؟.الجواب هو لاشيء. الشرطة واجبها حماية الأمن الفيزيقي والمادي للأشخاص والممتلكات هذا ما تعرفه أفضل من المؤسسات الأخرى. لكن المجتمع المدني المستقل هو الذي بإمكانه مواجهة التطرف الديني من خلال الدعوة والنقاش والحوار وغيرها من الوسائل الفكرية. لأن التطرف الديني هو في الأساس أفكار وقناعات يحملها شخص معين فهو وحده القادر على تغيرها من خلال تبني أفكار وقناعات جديدة.