النظريات العلمية الثلاث التي مسّت نرجسية الإنسان في نظر فرويد
التمهيـــــــــــد
نعتقد عادة أنّنا كلّما اتبعنا عن أمر ما جهلناه وكلّما اقتربنا منه عرفناه. فمعرفة ما يجري في الكواكب الأخرى أصعب من معرفة ما يجري في كوكبنا ومعرفة ظواهر نسمع عنها في كوكبنا أصعب من معرفة ظواهر نحتكّ بها ونختبرها. ويعني هذا التدرّج أنّنا كلّما قصرت المسافة بين الذّات الدّارسة والموضوع المدروس، كلّما كانت المعرفة أبسط وأدقّ وأصوب. وطبقا لهذا التمشّي فإنّ أوضح موضوع بالنسبة للإنسان هو نفسه باعتبار انعدام المسافة بين الدّارس والمدروس. أو بتعبير آخر وحدة الدّارس والمدروس. وهل يعقل أن لا يحدس الإنسان ما يختلج في نفسه ولا يعي بحقيقة أفكاره ويتيه عن ميوله؟
الإشكاليــــة
فهل صحيح أن أسهل موضوع يمكن أن يعرفه الإنسان هي نفسه؟ هل هناك اعتبارات أخرى تتدخّل في حكم الإنسان على نفسه ولا تتدخّل في معرفته للظواهر الطبيعيّة؟ هل ما يظهر للإنسان على أنّه معرفة لذاته هو مجرّد وعي بالذات وليس معرفة موضوعية؟ وباختصار هل أن أحكام الإنسان في ما يتعلّق به وبمحيطه، هل هي موضوعية؟
التحليـــــــــل
-Iمضمون النظريات العلمية الثلاث التي مسّت نرجسية الإنسان
يعتبر فرويد أن نظرية مركزية الشمس مع كوبرنيك ونظرية التطوّر مع داروين ونظرية التحليل النفسي التي نادى بها هو، قد أهانت الإنسان وفضحت نرجسيّته وبيّنت له أن أحكامه حول نفسه هي مجرّد أوهام. فلا هو يسكن مركز الكون وليس هو محور الوجود وليس هو أهمّ موجود في هذا الكون.
1- نظرية مركزية الشمس مع نيكولا كوبرنيك
فقد بيّن كوبرنيك في كتاب "عن دوران الأجرام السماوية" سنة 15433 أن هناك مجموعة من الكواكب تدور حول الشمس من بينها الأرض وبعض هذه الكواكب لها كواكب أخرى تدور حولها كالقمر الذي يدور حول الأرض. ولو نظرنا للعالم من مكان خارج العالم لرأينا فضاء تسبح فيه كرات تدور حول نفسها وحول بعضها.
مثّلت هذه الاكتشافات صدمة بالنسبة لرجال الكنيسة والعوام الذين يعتقدون بناء على الحواس أن الأرض ثابتة، منبسطة وهي مركز العالم ولا يعقل أن تكون غير ذلك. اعتبر فرويد أن هذا الاكتشاف قد أهان الإنسان الذي ظلّ على امتداد قرون يعتقد أنّه ذو شأن وهو محور العالم وأن الموجودات وجدت من أجله.
2- التطوّرية مع تشارلس داروين
لم تمض بضع سنوات حتّى ظهرت الإهانة الثانية وهذه المرّة جاءت هذه الإهانة من علم الحياة. سنة 1859 أصدر تشارلس داروين كتابه "أصل الأنواع" بيّن فيه بعد حفريات ومقارنات وتشريح أن الإنسان ليس إلاّ حيوانا متطوّرا وهو ينحدر من سلالة القردة. فالقطيعة التي كانت تفصله عن الحيوانات والمكانة التي بوّأته إيّاه الأديان هي مجرّد أوهام. فهو لا يعود إلى الله الكائن العظيم وإنّما إلى قرد هجين. مثّل هذا الاكتشاف صدمة بالنسبة للإنسان. هل يعقل وهو الكائن الذي يتعبّد وينشد الكمال الرّوحي أن يكون أجداده قردة وزواحف وحيوانات برمائية؟
3- التحليل النفسي مع سقموند فرويد
لم يفق الإنسان من صدمة الإهانة الثانية حتّى جاءته الإهانة الثالثة من علم النفس هذه المرّة. فقد اكتشف فرويد أن جوهر الإنسان ليس الوعي وهي الحالة الشعورية التي يكون عليها في حياته اليومية. فالواقع أن الوعي هو المظهر أمّا الجوهر فهو اللاوعي، ناهيك أن الوعي هو في خدمة اللاوعي. واللاوعي هو جملة الرّغبات المكبوتة التي لم تلبّ في الصغر. فهذه الرّغبات تكبت وتخزّن في النفس وتظلّ تؤثّر على الفرد كي تتحقّق حتّى أنّنا نستطيع أن نقول أن حياة الفرد هي استجابة لتلك الرّغبات المكبوتة. وبتعبير أبسط في اللاوعي الذي يتحدّد في الصغر يقع ضبط برنامج حياة الفرد، بحيث تكون بقيّة حياة الفرد هي تنفيذ لذلك البرنامج. ومهمّة الوعي هي تنفيذ الرّغبات اللاواعية. ومن غرائب الأمور أن الوعي ينفّذ بدون وعي ولا يعي أنّه خادم وكيف يعي بما لا يمكن أن يعي به؟ بهذا الشكل يكون فرويد قد قضى على الحرّية وهمّش الوعي، وبالتالي لا معنى للتباهي بقوّة العزيمة وصلابة الإرادة. لقد كذّب فرويد الاعتقاد بأن الإنسان له معرفة واضحة بالأفكار التي تختلج في نفسه. مع فرويد اكتشف الإنسان خطرا آخر هو نفسه. فالإنسان بعد أن فقد مركز العالم مع كوبرنيك وفقد خالقه مع داروين وقف إلى أنّه فقد نفسه مع فرويد. لقد وضعنا فرويد في عالم أين يجب على كلّ واحد منّا أن يتآلف مع عدوّ داخلي لا نستطيع أن يضبط هويّته أو أن يسكته.
-IIموقف الإنسانيين من النظريات العلمية التي مسّت كرامة الإنسان
1- النظريات العلمية التي مسّت كرامة الإنسان ليست نظريات علمية بل هي نظريات فلسفية علمانية
يرى الإنسانيوّن أن على العلوم أن تلتزم بذلك التقسيم الذي وضعه أوغست كونت وهو أن العلم يجيب عن سؤال "كيف" بينما الميتافيزيقا تجيب عن سؤال "لماذا". ولكن الواقع أن بعض النظريات العلمية مثل نظرية كوبرنيك ونظرية داروين ونظرية فرويد تحوّلت من نظريات علمية إلى نظريات علمانية وبذلك تجازوت نطاق الموضوعية إلى الذاتية والدغمائية. فليس من مهمّة العلم أن يتساءل عن مصير الإنسان وعن مكانته في الكون. عندما تقول العلمانية أن المشاكل الفلسفية والأخلاقية ستحلّ يوما ما بالعلم، فهي في الواقع تقضي على الموضوعية العلمية وتزجّ به في فلسفة دغمائية. فكيف لكوبرنيك الذي يعتبر أن الأرض جزء بسيط وضئيل في الكون أن يحكم انطلاقا منه على الكون ويعتبره لامتناهيا؟ وهل أن الحفريات التي قام بها داروين كافية للحكم على تغيرّ بدأ منذ تاريخ سحيق ليس لنا عليه دليل؟ وهل يعقل أن يتنازل الوعي عن عرشه ويحوّل نفسه إلى خادم لكيان لا يعي به؟ لقد زجّ العلم بنفسه في متاهات الفلسفة وتحوّل إلى ايديولوجيا لها مواقف من الحياة العامّة.
2- من المفروض أن تكون مصلحة الإنسان أهمّ من الحقيقة
ثانيا لقد أصبح العلم –كما يتجلّى من خلال الكوبرنيكية والداروينية والتحليل النفسي- في صراع مع المذهب الإنساني والحال أن العلم إمّا أن يكون إنسانيا أو لا يكون. على افتراض أن الإنسان كان يعيش في وهم قبل ظهور هذه النظريات، فإنّ النقّاد يرون أنّه كان يعيش في طمأنية. فبعد الخطاب المطمئن لموسى وعيسى ومحمّد يأتي الخطاب المخيف لكوبرنيك وداروين وفرويد. وكأن مصلحة الإنسان أصبحت آخر ما يهمّ العالم. يجب أن نسأل أيّهما يجب أن يتقدّم الآخر: هل تتقدّم مصلحة الإنسان على الحقيقة أم تتقدّم الحقيقة على مصلحة الإنسان؟ في نظر الإنسانيين على العلم أن يأخذ مصلحة الإنسان فوق كلّ اعتبار. فما قيمة العلم إذا أصبح الإنسان بفعل الحقيقة يشعر بغربته في هذا العالم وكأنّه تائه في صحراء مترامية الأطراف. لقد كان يظنّ أنّ هناك إلها يرعاه وأن هناك معقولية ينبني عليها العالم، فجاءت هذه النظريات فعبثت بكلّ ما هو معقول وأفقدت الحياة الإنسانية معناها. هل تحوّل العلم من خادم للإنسان إلى مهين له. هل العلم نعمة أم نقمة؟
-IIIجنون العظمة كعائق ابستيمولوجي
1- لا تبوح الطبيعة بأسرارها إلاّ لمن تخلّى عن ذاته
يعتبر العلماء أن تقديم مصلحة الإنسان على الحقيقة هو السبب الرئيسي في تأخّر نشأة العلوم. تتجلّى في التعابير الثقافية البدائية وهي السحر والأسطورة الدين، رغبة الإنسان في تكييف الطبيعة لمصلحته دون معرفتها. كان يعتقد أنّه يكفي ليعبدها لتستجيب لطلباته. لقد أدرك الإنسان لاحقا أن الطبيعة لا تبوح بأسرارها لمن يفرض عليها بل لمن يتخلّى عن مواقفه ورغباته وميوله إلاّ من ميل واحد هو أن يعرفها كما هي لا كما يريدها أن تكون. في مراحل المنهج التجريبي (الملاحظة، الافتراض، التجربة، القانون) تأتي التجربة بعد الافتراض ويعني ذلك أن للطبيعة الكلمة النهائية في ما يقترحه في الافتراض. وهذا هو معنى الموضوعية. فالموضوعية هي سبيل الإنسان للسيطرة على الطبيعة. إن الطبيعة لا نسيطر عليها بما هو غريب عنها وإنمّا بما هو فيها، وما هو فيها لن نستخرجه إلا ّ بالموضوعية. فالعلم ليس في صراع مع مصلحة الإنسان كما يدّعي نقّاد العلم ذلك، ولكنّه غيّر منهج خدمة مصلحته، من منهج ذاتي، دغمائي، نرجسي إلى منهج موضوعي، طبيعي، واقعي. فما جدوى أن ننكر انتسابنا إلى القرد إذا كان الأمر كذلك؟ وهل سيتغيّر التاريخ بإنكارنا؟ وما جدوى أن نعتبر أن الأرض هي مركز الكون إذا كان الأمر غير ذلك؟ أليس في رفضنا للحقائق العلمية تمسّكا بالوهم؟ لا يعتبر العالم أن العلم معادي لما هو إنساني ولكن له منهجه الخاصّ في خدمة الإنسان وهذا المنهج هو الموضوعية.
2- النقد المبني على جنون العظمة ليس نقدا علميا
إذا كانت الاكتشافات العلمية تتعارض مع ما يتمنّى الإنسان أن يكون فلا يعني ذلك أن العلم خاطئ. إن الذين عارضوا النظريات العلمية المذكورة سابقا لم يعارضوها بوصفهم علماء ولم ينقدوها من الداخل بل نقدوها بالنظر لما يرونه هم يجب أن يكون. فهم يضعون حدّا لا يمكن للعلم أن يتجاوزه، يسمّونه الكرامة الإنسانية. فكلّما كانت هناك نظرية يفهم منها بالتأويل أنّها تتعارض مع كرامة الإنسان اعتبرت خاطئة ويجب أن تلغى. وقد فهم البعض نظرية التطوّر عند داروين على أنّها لم تأت لتطوّر العلوم بل للقضاء على الأديان. إذا اكتشف العالم حقيقة يفهمها العامّي على أنّها إهانة للإنسان، فلا يعنى ذلك أن العالم يسعى لإهانة الإنسان. إن العلماء في أيّ مجال كان لا شأن لهم بالحطّ من قيمة الإنسان أو الرّفع منها. فالموضوعية العلمية تفرض على العالم أن يكون محايدا بقطع النظر عمّا يحبّ أو يكره. وبقطع النظر عن موقف المتلقّي تهليلا كان أم سبّا وشتما. فما كان يهمّ كوبرينك الأثر النفسي الذي سيشعر به الإنسان عندما يعلم أنّه يسكن في كوكب سابح في الفضاء، وما كان يهمّ داروين أن يستنتج القارئ لكتابه أن لا وجود لآدم وحوّاء وما كان فرويد يهدف إلى إحباط الإنسان وبيان أنّه ألعوبة في يد اللاشعور. العالم يخبر عن الموجود ولا يتدخّل في ايجاده. يكتشف القانون كما هو في الواقع ويصرّح به بقطع النظر عن مواقف المتلقّي منه. العالم يتّخذ الواقع المعيار للحكم بينما العامّي يتّخذ من نفسه المرجع النهائي للحكم. وهذا الاختلاف يذكّرنا بالنزعة السفسطائية المعاصرة لإفلاطون ويتجلّى ذلك في قول بروتاغوراس "الإنسان مقياس كلّ شيء". ولذلك في رفع أفلاطون الحقيقة إلى عالم المثل والنظر إليها على أنّها مستقلّة عن الواقع المادّي وعن الذهن وبالتالي عن الإنسان، هو في الواقع موقف موضوعي يحسب له.
3- مصيبة المتوهّم أنّه لم يدرك أن اكتشاف الحقيقة يتطلّب زمنا ولا بدّ من معايشة الجهل.
إن هذه المقاومة التي تلقاها الثورة العلمية تكشف على أن العلم وهو يعرض اكتشافاته الموضوعية يبدّد بالمقابل جملة من الأوهام يجد الإنسان صعوبة كبيرة في التخلّص منها بعد أن ألفها. فالثورة العلمية ليست كما بيّن توماس كوهن إضافة معلومات جديدة إلى معلومات قديمة، أي ليست حشوا للذهن بمعلومات متراكمة بل هو كنس وتنظيف للذهن. تأتي الحقيقة لتلغي الوهم وتحلّ محلّه ولكن الوهم يتمسّك بالبقاء. وهذا الوضع يذكّرنا بتمسّك مساجين كهف أفلاطون بالبقاء في الكهف وتفضيلهم الظلام على النور.
ولسائل أن يسأل لماذا هناك وهم يعاند، يشقى العالم في القضاء عليه؟
السبب هو أن الإنسان لا يمكن أن يتعايش مع الجهل. فعندما يعجز عن السيطرة على الطبيعة مادّيا وفعليا، فإنّه يستنبط جهازا نظريا وقد لعبت الأسطورة هذا الدور، ويستنبط تقنية وقد لعب السحر هذا الدور من أجل السيطرة على الطبيعة. وعندما يأتي العلم بمعرفة تجريبية وتقنية فعّالة، يتمسّك ذلك الوهم القديم بالبقاء وهنا يشقى العالم في تخليص العامّي منه. كلّ الأوهام تقريبا تتشكّل بتسرّع نتيجة نقص في التجربة ولكن تدريجيا تُؤخذ على أنّها حقائق وتتمسّك بالبقاء. إن اّلإنسان لا يستطيع أن يكون صبورا لاكتشاف الحقائق. فهو يريد أجوبة لكلّ الأسئلة التي يطرحها بلا استثناء. وعندئذ إمّا يستمدّ الإجابة من الواقع أو يستمدّها من نفسه. مصيبة الإنسان أنّه لم يدرك بعد أن اكتشاف الحقائق يتطلّب زمنا ولا بدّ أن يتعلّم كيف يتعايش مع الجهل.
النـقـــــــــــد
يتبيّن لنا من هذه الإهانات الثلاثة أن العلم وإن قدّم حقائق فهو لم يقنع نقّاده بأنّه هو القيمة المطلقة التي يجب أن تحترم. فالعلم يحكم على الظواهر ولكن الحكم على قيمة العلم ليست شأنا علميا. من هنا جاء الاعتراض عليه وهنا بالضبط تظهر قيمة الفلسفة. فمن أوكد واجبات الفلسفة كما دعا لذلك ألتوسار هو رسم خط الفصل بين ما هو ايديولوجي وما هو علمي ومن مهمّة الفلسفة التي تبحث عن الحقيقة الوقوف إلى جانب العلم.
الخاتـمـــــــة
هل يمكن أن نضيف إلى مهمّة الفلسفة إلى جانب الدّفاع عن العلم، تعليم الإنسان التواضع وخاصّة التعايش مع الجهل؟ أليس في حالة انعدام معرفة الحقيقة يكون الجهل أفضل من الخطإ؟