يؤكد برونيسلاو مالينوفسكي أن كل ثقافة
حية هي عبارة عن كيان كلي وظيفي متكامل، على اعتبار أن عملية تفسير العنصر
الثقافي داخل النسق الكلي، لا تتم إلَّا من خلال الأداء الوظيفي. ومن ثمة
يربط مالينوفسكي الثقافة بالاحتياجات الإنسانية -على اعتبار أن هناك علاقة
بين احتياجات الإنسان ككائن حي بيولوجي وبين أساليبه في إشباع هذه
احتياجات (نسق القرابة - نظام التموين - المأوى - وسائل الحماية - الأنشطة
المختلفة - التربية - وسائل حفظ الصحة).
وعادة ما تخضع الثقافة للتغير
أثناء إشباع تلك الاحتياجات. فقد ذكر مرسيا إلياد ضمن مؤلفه (تاريخ
الأديان) أن الأنساق الاجتماعية تحدد عمل الأنساق التقنية التي تقوم
عليها، على اعتبار أن العلاقة القائمة بينهما هي علاقة تفاعل وتأثير.
فالنسق الاجتماعي الذي قد يعيق فعالية الأساليب التقنية، بإمكانه إعادة
سيره الطبيعي عن طريق مصادر جديدة للطاقة. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن هناك
عوامل شتى تؤدي إلى حدوث التغير الثقافي والبيئي معاً، مثل التجديدات
الناتجة عن الانتشار وإعادة التفسير والأخطاء الناجمة عن عملية نقل
الثقافة... وقد حدث الأمر نفسه في عملية التواصل الثقافي بين مناطق مختلفة
بالمغرب؛ شأنه شأن باقي دول العالم، رغم حفاظ كل منطقة على الخصوصيات التي
تميزها عن المنطقة المجاورة. إلى هنا نشير إلى الوقوف بدورنا عند نقطة
الالتقاء بين مالينوفسكي وراد كليف براون الذي يهتم، بدرجة أولى،
بالأنثروبولوجيا الاجتماعية، وهي نقطة التقاء نُدلي بموافقتنا الرأي
اتجاهها، حيث يتم التأكيد على الاتجاه اللا تاريخي للظواهر الثقافية.فكون
سكان المناطق الشرقية (أقصد الرُّحَّل وأنصاف الرُّحَّل) يقطنون الخيام،
ويرتدون الزي الشرقي (على الطراز الوجدي)، ويتقنون زراعة الأرض وجني
الثمار والتقاطها.. في حين تبدو شخصية (هينة) لابسة القفطان الحوزي وتتقن
حرفة النسيج وتقطن بيتاً من طين، على عكس «الولجة» التي تحتفظ بالطراز
الشرقي، فلأن المجتمع الذي يروي هذه الحكاية أو تلك يرسم في ذاكرته
الجمعية، كما في الواقع، صورة للمرأة على شاكلة (الولجة أو هينة). بحسب
انتمائه للبيئة المعينة. وقد سبق لبرونيسلاو مالينوفسكي أن أكد في دراسات
عديدة وجود العلاقة القائمة بين متطلبات الإنسان ككائن حي بيولوجي، وبين
أساليبه في إشباع تلك المتطلبات. وبما أنه لا يمكن تطوير تلك الأساليب
بنفس درجة النمو بين مختلف فئات المجتمع نظراً للاختلاف البيئي، فإن تعدد
الروايات للحكاية الواحدة يؤكد نفسه ما?دامت الحكاية جزءاً من ذلك
المجتمع، وتدخل في نسيجه الثقافي.
هناك طرق عديدة يعتمدها الباحث
الإناسي في المرحلة الميدانية، من ضمنها تاريخ الحياة الذي يكشف عن كيفية
تبلور الثقافة في كليتها في نسق معين، ولا تقل هذه الطريقة أهمية عن نهج
الفهم الذاتي الذي يستند الباحث خلاله إلى بعض المناهج اللغوية، على
اعتبار أن الاتجاه الرئيسي للدراسات الإنسانية الميدانية، يقوم على
الكيفية التي ينظم من خلالها الأفراد، الذين ندرسهم، ثقافاتهم الخاصة
ويصفونها. إلا أن استفادة الإناسيين من المناهج النفسية كانت على مدى
أوسع، من خلال الاستناد إلى اختبارات نفسية عديدة، مثل اختبارات رورشاخ
وموري. وتتم هذه العملية استناداً إلى الإخباريين الذين قد يأتون بمعلومات
خاطئة أو صادقة، لكونهم لا يفهمون مضامين الأسئلة المطروحة عليهم، أو
لديهم الرغبة في إبراز أو إخفاء مكانتهم من خلال تقديم وجهة نظرهم في
مسألة خلافية؛ لذلك كان الإناسيون، أثناء إجراء تلك الاختبارات، يُعيدون
توجيه الأسئلة نفسها إلى أفراد مختلفين، لمعرفة مدى اتساق البيانات
المتحصل عليها مع الجوانب الأخرى للثقافة المعينة؛ إذ غالباً ما تظهر
لهؤلاء الباحثين فروق بين السلوك المثالي والواقعي. على اعتبار أنه حتى في
الثقافات البسيطة، لا يستطيع الفرد الإلمام بالمجموع الكلي لثقافته أو
يراها بالطريقة نفسها التي يراها بها الآخرون، مما لا يبرز الاختلافات
التي تظهر بين الجنسين. ففي دراسة لجزيرة إليتي ulthi. المرجانية في
المحيط الهادي، قدَّم الباحث ويليام ليسا w.Lessa للأفراد القاطنين
بالجزيرة، صورة لرجل ينظر في خبث من خلف شجرة جوز هند إلى امرأة صغيرة
متحجبة وتحمل صينية من الفاكهة. فكانت الفكرة التي طرحها السكان حول هذه
الصورة تتضمن معنى التلصص ومحاولة أكل الفاكهة. في حين كانت الفكرة التي
أدلى بها الأفراد في الولايات المتحددة توحي للعرض والاعتداء الجنسي.
وترجع هذه القرون في ردود الفعل بين الأمريكيين وأبناء الجزيرة إلى أن
الآخرين لا يعانون كثيراً من الضوابط والإحباطات فيما يتعلق بالجنس، في
الوقت الذي يقل فيه الطعام. إن هذه العملية مكنت الباحث ويليام ليسا من
الكشف عن وضعيتين مختلفتين: (الضوابط والاحباطات الجنسية/ نقص المواد
الغذائية)، (العرض الجنسي/ التلصص). وهذه النتيجة القائمة على الكشف عن
وضعيات مختلفة فيما بينها بقدر الاختلاف الحاصل بين البيئات التي ساهمت في
صياغتها، هي ما نطمح للوصول إليه، قدر الإمكان، أثناء اختبار مجموعة أفراد
على أنهم أسوياء ويشكلون جماعة معينة ذات ثقافة ما (بسيطة/ مركبة). وكان
ذلك يلزمنا، للضرورة العلمية، بمعرفة مدى أتساق أو اختلاف البيانات التي
أخذناها عنها، من خلال اختبارات رورشاخ وموري، وهو نفس ما قام به إناسيون
عديدون خلال أبحاثهم الميدانية.
لقد قمت بتمثيل بعض الأشكال -شبيهة
بأشكال رورشاخ- غير ذات معنى، ثم عرضتها على أشخاص من مختلف الأعمار
ليشيروا إلى ما توحي إليهم تلك الأشكال، وبم يمكنهم تشبيهها. حصلت إثر
ذلك، على إجابات انطباعية عديدة. كانت الشخصيات المختبرة تنتمي لقبيلة
(آيت بلال) المطلة على ضفاف نهر ملوية. تتكون بنيتها الاقتصادية من الرعاة
والتجار الصغار والقناصين، أما المزارعون فيعتمدون على زراعة أشجار اللوز
والجوز والتفاح والزيتون وبساتين الخضر القليلة جدًّا، أما الحبوب فتكاد
تنعدم. وهم يعانون من فيضان النهر السنوي. إذ يفسد لهم جل المحاصيل، مما
يضطرهم إلى الهجرة إلى المدن المجاورة (فاس - وجدة - إفران...) قصد
التجارة، أو إلى العمل بمنجم (الغاسول). وفي كلتا الحالتين يظل رب الأسرة
بعيداً عن أفراد القبيلة مدة من الزمن، تضطر معها النسوة إلى الخروج للعمل
بعيداً عن البيت، مثل جلب الحطب وسقي البساتين والإشراف على زراعتها إلى
حين جني الثمار، وكذا صناعة الآجر -على الطريقة البابلية- والرعي. وإذا ما
نظرنا إلى المنطقة من الناحية الجغرافية، فإنها تبدو ذات تلال وأودية
محاطة بجبال، مناخها شبه قاري، يجتمع بها الناطقون بالعربية والأمازيغية
(الكرسيفية والريفية). وتوحي المنطقة بالانغلاق شبه الكلي نظراً لوعورة
المسالك بها. وسط هذا النوع من التراكم الاقتصادي والجغرافي والثقافي..
قمت بطرح بعض الأشكال من بقع الحبر، فكانت الأجوبة -وهي تزيد عن الأربعين-
تتوزع وفق السن والجنس، وقد لخصتها فيما يلي:
? إنه شكل غولين
يتصارعان لهما قرون، ولكن منهما عين واحدة تلتهب نهاراً، كانا يتصارعان
لأجل الحصول على (الولجة) = (أجوبة لبعض الأطفال).
? إنها صورة لنهر
ملوية أثناء الفيضان، وبعد أن أتلفت جميع الأشجار والأعشاب تراكمت وسط
الوحل، وأعطتنا هذا الشكل (أجوبة لبعض النسوة).
? إنه زوج يتصارع مع
زوجته. عند عودة الزوجة من الغابة مساء، طلبها الزوج إلى فراشه، وكان قد
عاد لتوه من منجم الغاسول. ترفض الزوجة فتكون النتيجة هي اتهام الزوج لها
بالخيانة. (احتدام الصراع في هذه الأحوال يستدعي المرأة إلى الاحتماء
بإحدى قبور الأولياء صحبة الشمع والسكر، والدعاء على الزوج «بالمطر»).
? الدعاء بالمطر شبيه بالدعاء بالموت، لما سببه من خسائر، من ثمة فإن هذه البقعة من الحبر، تؤشر للمطر، ومن ثمة للموت.
? يوحي هذا الشكل للصراع بين قبيلتين (تامدافلت وإسرارن) (أجوبة لبعض الشيوخ).
?
أوحى هذا الشكل للأغلبية بالعضو التناسلي وللحظة الجماع. كانت الألفاظ
المستعملة مصحوبة بسلوك يؤشر للحشمة (احمرار الوجنتين - الهمس في الآذن -
الاكتفاء بالإشارة باليد - الضحك...) وجل ذلك كان مؤشراً لنفسية هؤلاء
المخنوقة، والمراقبة من لدن العادات والدين والولي الصالح باستمرار.
وقد
كان هذا النوع من الأجوبة، هو الأكثر عفوية؛ إذ كان الأفراد المختبرون
يحيلون إلى الجوانب الجنسية للوهلة الأولى، ثم يتداركون الأمر، والملاحظ
أن الأجوبة كانت متقاربة، حيث عرضت عليهم بعض الصور الفوتوغرافية:
?
كانت صورة (ماركس كارل) تؤشر لدى الأهالي لأحد الأولياء الصالحين أو
للفقيه الذي يُعلِّم الأطفال القرآن ويمنح النساء وصفات علاجية. إنها صورة
للجانب الديني لديهم.
? كانت الصورة التالية لإحدى نساء قبائل البابو
Papous في بولينيزيا بأستراليا، وكانت الأجوبة سريعة بحيث أشارت جلها إلى
(ماما غولا) في صحبة بناتها. وقد انبنى تفسيرهم لتلك الأجوبة على لون
البشرة والعري شبه التام ونوعية الحلي، وجلها مؤشرات لعنصر الشر الذي يميز
الغولة عن الكائنات الأخرى.
? اتفق الجميع تقريباً على التعبير عن
التحرش الجنسي حيث عرضت عليهم صورة الممثلة الفرنسية كارولين أوتورو،
أثناء أدائها لإحدى الرقصات في الأربعينات.
? كانت الصورة التالية
للممثلة نفسها وهي مستلقية على أريكة فخمة. وكانت المؤشرات حولها توحي
بالثراء والنبل وهي الصفات التي تتحلَّى بها أغلب الشخصيات البطلة في
الحكي الشعبي.
? لقد أوحت «الفتاة البيضاء» التي رسمها هويستر عام
1862 إلى الولجة إحدى بطلات الحكاية الشعبية (هينة) لدى القلة، إلا أن
الأكثرية عبروا عن أنها صورة (للمنادي)، وكانوا يقصدون (بالمنادي) الفتاة
التي تموت قتلاً، فهي - في اعتقادهم- تغادر قبرها على رأس كل سنة لتنتقم
من الأحياء، فتظهر في شكل عنزة أو بقرة أو في شكلها الحقيقي بالكفن الذي
لُفَّت فيه. عبَّر عنها آخرون بأنها (لالة ميمونة)، شخصية تقطن الجبل تغيب
وتظهر وحين ظهورها يصيب القبيلة مكروه ما، وتفادياً لذلك، كان الأهالي
يقدمون القرابين سنويًّا، علما أنه بالقمة لا يوجد أي قبر. أوحت الصورة
إذن للأهالي إلى: الولجة -لالة ميمونة- المنادي... وجلها يعبر عن القوى
غير المجسدة والغيبية.
? إنها صورة الغول -الشيطان- الجني. هذه هي الأوجه الثلاثة التي أعطيت لصورة أحد رجال قبائل البابو أثناء أدائه لشعائره الدينية.
فكل
ما هو غريب عن القرية يؤشر للشر: ( الغول - العفريت - الشيطان - العدو
الخارجي) وكل ما هو مألوف لديهم يؤشر للخير: (الفقيه - الولي الصالح -
الشيخ...).
تركزت الأجوبة، في مجملها، حول المفاهيم التالية: السلطة -
الجنس - المقدس - المدنس. فالسلطة أو المخزن تمثلت لديهم في جل الأعوان
والحكام المحليين من شيوخ ومقدمين. فالمخزن هو الذي يوزع الأراضي، ويعطي
القروض، ويبني المدارس، وهو الذي يفصل بين الخصومات... إنها سلطة لا
متناهية. فهي متعالية على الأهالي لأنها تجسد المقدس لديهم.
إلا هنا نشير إلى (الغول) كان يؤشر في المقابل إلى السلطة الخارجية.
وإلى
الغريب، ومن ثمة إلى المدنس. فرغم أن هذا التصور كان يجد سنداً له ضمن
الحكي الشعبي، إلا أنه يعبر عما هو واقعي بصورة أكبر، ما دام هذا الحكي
تجسيداً رمزيًّا للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للجماعة المعينة،
سواء اعتبرنا الحكاية الشعبية تجربة وجودية عاناها الإنسان البدائي، كواقع
مقدس لأجل إدراك ما وراء الطبيعة، أو اعتبرناها -خلافاً لرأي مرسيا إلياد-
معطيات وهمية نجمت عن انعكاسات إدراكية، يكمن نقلها إلى سيرورات مادية؛
فإن الحكي الشعبي يظل الجانب الشعبي للسلوك اليومي، شأنه في ذلك شأن
الثقافة، في جل جوانبها الرمزية. من ثمة، كانت ضرورة عدم الفصل بين الحكي
الشعبي، كمعطى ثقافي رمزي، وبين باقي مكونات هذه الثقافة في جانب علاقتها
بالسلوك اليومي، في أبسط أشكاله، بمعنى أن مكونات المنطقة -التي أخذنا
عنها الحكاية- من الناحية الجغرافية والاقتصادية والدينية... تساهم في
الكشف عن جوانب الغموض في طريقة تفكير الأهالي ونظرتهم إلى الأشياء
والمفاهيم، لأجل استخلاص المفاهيم التي تشكل البؤرة.
وقد كانت ثنائية
«مقدس/ مدنس» هي المفهوم المهيمن على المفاهيم الأخرى، المتحكمة في فكر
الأهالي، وكان الجنس والسلطة أقوى تلك المفاهيم، على اعتبار أن كل أنواع
السلوك اليومي، يقوم بها الفرد لخدمة الجوانب الجنسية فيه، أما السلطة فهي
الجانب المؤطر والمنظم لها، خاصة حين تتخذ طابعاً دينيًّا مقدساً، أي حين
تكون سلطة الفقيه والولي الصالح.. أقوى من سلطة شيخ القبيلة أو المخزن.
حينما
سألت أفراد الأهالي عن أسباب الصراع المحتدم بين شخصيات الحكايات؛ بين
الغول والبطل كانت جل إجاباتهم تنصب حول معنى واحد هو الرغبة الجنسية. ولم
أتوصل إلى الدلالة التي يحملها هذا المفهوم، من خلال أجوبتهم الصريحة، بل
من خلال السلوكات التي تصحب تلك الأجوبة، فقد كان أغلبهم يجمع على أن
(الغول) اختطف البطلة لأنه يرغب في الزواج منها. إلا أن البطل يدخل في
صراع حاد وطويل لأجل إنقاذها من قبضته، قبل الاعتداء عليها من طرف (الغول)
العدو؛ إلا أن العرف والدين يحولان دون ذلك، إلى حين تأطير وتنظيم هذه
العلاقة: أي إضفاء طابع الشرعية عليها من خلال العدلين وعقد النكاح. على
هذا الأساس كانت معظم أجوبتهم مصحوبة بسلوكات تؤشر للجانب الآخر (الجنسي)
ضمن هذه العلاقة، التي تحكم أغلب أفراد الحكاية وأفراد القبيلة، على حد
سواء، مثل: الضحك، احمرار الوجنتين - التلعثم - الاكتفاء بالإشارة فقط،
والصمت أحياناً كثيرة. وعادة ما يلتجأ إلى مثل هذه السلوكات -خاصة لدى
الأطفال- حين يتعلق الأمر بمواضيع تمس الجوانب الرئيسية في تشكيل المكونات
النفسية للأفراد، أي جوانب اللاوعي الذي تتراكم ضمنه، كل مظاهر الإحباط
والفشل الناجم عن القمع المسلط من طرف بنى اجتماعية، تتخذ الدين سنداً لها
في كبح جماح أي رغبة من رغبات اللاوعي، وعلى رأسها الرغبات الجنسية يرى
مالينوفسكي أن الدافع الجنسي يعتبر عاملاً لتمزيق وهدم، لأنه يؤدي إلى
تفكيك البناء الأسري. فالمجتمع الذي يبيح الزنا بالمحارم يعجز عن الحفاظ
على استقرار التنظيم الأسري. بمعنى أن أغلب المجتمعات، وخاصة الشعوب
الأمية التي تمثل الوحدات الأسرية فيها الدعائم الأساسية للنظام الاجتماعي
العام، معناه عدم وجود أي تنظيم اجتماعي يؤدي الوظائف المطلوبة، ومن ثم
قواعد تحريم الزنا بالمحارم كوسيلة للحفاظ على الجماعة الأسرية. وتختلف
تلك القواعد في طبيعتها ومداها باختلاف بناء الأسرة. فهذه القواعد تنظم
نوع العلاقات بين أفراد المجتمع المحلي، بين ذكوره وإناثه، من خلال عمليات
الحظر، المتعلقة بدرجة أولى، بالجوانب الجنسية. إلا أن ذلك الحظر لا يشكل
كبتاً مطلقاً لرغبات الأفراد، مما يفسح لها فرصة الظهور بين الفينة
والأخرى، من خلال الأحلام والتداعيات والهفوات... وغالباً ما يحدث ذلك
بفعل مبدأ «إجبار التكرار» الذي يعمل على تكرار الخبرات والمواقف القديمة
في النفس الإنسانية. لم تكن الإيحاءات والحركات والمصطلحات والسلوك
المصاحب سوى مظهرٍ من مظاهر التكرار. إلا أنه تكرار لما هو مكبوت في
اللاشعور الجمعي من طرف التربية والدين والحضارة. وقد استخلصت من خلال
الملاحظة بالمشاركة أن عمليات الحظر تمارس، على نطاق أوسع، بين الإناث
والأطفال. في حين يتمتع الذكور، أحياناً كثيرةً، بخرق المحظورات الجنسية
علناً دونما زجر من طرف أفراد الجماعة. وبذلك يؤكد لهم المجتمع مفهوم
القوامة. في حين كانت تقابل العملية نفسها، من طرف العرف والمجتمع بالرفض
(القتل أو الطرد من القبيلة...) إذا تمت ممارستها من طرف الإناث. لذلك،
كان من الطبيعي أن تؤشر النساء -كما الأطفال- في الجماعات المدروسة، إلى
ما هو جنسي في أغلب سلوكاتهن؛ ما دام يشكل العنصر الأكثر كبتاً واضطهاداً
من لدن المجتمع. من ثمة كانت جل السمات القدحية التي يطلقها الفقيه -كأحد
ممثلي تلك السلطة القمعية العليا- مثل (حرام - عيب - حشومة - ممنوع-
كفر...) كانت تعبيراً عن سلطة الدين حيال جوانب اللاوعي المحبطة. وحين كان
(الغول) يتحين الفرص للظهور في الحكي الشعبي، يعترضه البطل، فكانت محاولات
الغول تبوء بالفشل في جل الحكايات، إلا أن الأفراد كانوا يحققون رغبة
(الغول) في مستواها الواقعي، بعيداً عن المحكي، لتصبح العلاقة بين المحكي
والمعيش اليومي علاقة جدلية، يأخذ ضمنها المعطى المادي بادرة التأثير
الأولي: فقد رأينا أن الأنساق الاجتماعية ليست مغلقة، إذ ترتبط بالسلوك
المتأثر بالنواحي الحيوية والبيئية: أي أن العلاقة بين السلوك والعناصر
المادية وثيقة جدًّا، وهو دليل على اختلاف الروايات من منطقة لأخرى،
باختلاف مكوناتها بالدرجة الأولى: بمعنى أن الحكي الشعبي في أصله وليد
الفعلالية العملية للإنسان، كرد فعل على المثيرات الحسية المحيط إلا أن
هذا الحكي، في إحدى مراحل تطوره؛ أي مراحل إعادة تفسيره -بتعبير بواس
Boas- شكَّل نوعاً من التأثير المعاكس، ليصبح السلوك اليومي، حيال العناصر
المادية، رهيناً لفعاليات جوانب اللاوعي فينا والوعي على حد سواء.