فؤاد فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 786 معدل التفوق : 2214 السٌّمعَة : 22 تاريخ التسجيل : 17/12/2011
| | مقدِّمة في مظاهر ما قبل الدين عند الحيوانات. | |
نضال الربضي الحوار المتمدن-العدد: 4774 - 2015 / 4 / 11 - 13:06 المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع المصدر : هنا ! قراءة في اللادينية – 6 – مقدِّمة في مظاهر ما قبل الدين عند الحيوانات.نستكمل ُ اليوم َ جزءا ً جديدا ً من سلسلة "قراءة في اللادينية" بُغية َ إلقاء ِ مزيد ٍ من الضوء و بالتالي تحصيل فهم ٍ أشمل و أعمَّ للظاهرة الدينية، يساعدنا على تفكيك الفكر الديني، و إدراك المخفيات التي: - تربط أجزاءه مع بعضها- و تعطيه القدرة على:السيطرة على المشاعر، و تكبيل آليات التفكير المنطقي، و اعتراض تداعيات النقد، نضال الربضيو سد الانسيابية الفكرية فلا تصل إلى حيث ُ يجب أن تبلغُ بقوة ِ العقل فتبقى تراوحُ مكانها حيث ُ اعتُرضت حتى تجفَّ بوهج ِ الزخم ِ العقيدوي و طقوسهِ، أو يتمَّ تحويُلُها إلى مسارات الفكر الغيبي لتتوظفَ قوُّتُها ضدَّ ما خرجت من أجله بداية ً، أي لتخدم َ ضد َّ الحقيقة و تستديم َ نقيضها.يتحتَّم ُ علينا أن نعود َ دائما ً إلى الجذور، إلى البدايات، إلى التأسيس ِ الذي خرجت منه الفكرة ُ الدينية، و هو الفردُ الإنسان، الذي يُشكِّل المفتاح َ الأوَّل َ في ثلاثيةِ : الاعتقاد-الممارسة-التثبيت. و لسوف َ نفهمُ مصدر خروج ُ الديني حينما نلجُ إلى النفس البشرية لنراقب َ ما يدورُ بداخلها، و كيف تُعبِّرُ عن فهمها لما يحدثُ في خارجها، و أين تضعُ ذاتَها منه، و كيف تبني العلاقة َ بينهما، و بالتالي ماذا يُصبح ُ البناء ُ التصوري للوجود مُستتبَعا ً من تفاعُل الإنسان مع نفسه و الوجود. وتأسيسا ً على ما سبق، سيكون ُ "خارج ُ الإنسان" أو "الوجود" هو المفتاح الثاني، و بالضرورة سيكون ُ المفتاح ُ الثالثُ هو جدلية التفاعلات النفسية.أمَّا من جهة المفتاح ِ الأول: الإنسان، فنقول ُ أن هذا الكائن َ البيولوجي يُبرزُ خصائصا ً فريدة يتشابه فيها مع باقي الكائنات في المملكة ِ الحيوانية، من حيثُ تحقيقُه لمعاير: الحياة، كونَها قُدرة َ الكائن الحي على النمو من خلال عمليات الأيض (التمثيل الغذائي) الكيميائية، و استمراريته بالتكاثر، مع إظهار خصائصِ "إدراكِه" أو "وعيه" لمحيطه، و تفاعلهِ مع هذا الوجود الخارجي.لكن يا تُرى هل يشترك ُ مع باقي الكائنات الأخرى في "وجود" الدين كما نعرفه اليوم، و "مُمارسته"، أم أن هذه الخاصية َ فريدة ٌ عنده؟جواب هذا السؤال سهل: الإنسان هو الوحيد الذي يملك "ديناً" و "يمارسه" أما الحيوانات فلا.لكن الدين بحد ِّ ذاته مُنتج ٌ مركَّب ٌ من عناصر بسيطة تضافرت لتصنع َ هيكلا ً يفوق ُ في خصائصِه الكلية مجموع َ خصائصِ العناصر ِ التي أنتجته، و بالتالي لا بدَّ من تفكيك ِ هذه العناصر، و سنبحثُ عن مظاهرها في الحيوانات، لنقاربها مع السلوك البشري.تمارس ُ الحيواناتُ سلوكا ً مُثيرا ً للانتباه أمام الموت، فطائرُ العقيق Magpie و هو من فصيلة الغُرابيات، ينقرُ الميت َ من فصيلته، و يجرُّ الأعشاب َ ليضعها حوله، بينما تُبرز الفيلة Elephants سلوك احترام ٍ كبير (إن جاز التعبير) لعظام الأموات ِ من أفراد ِ القطيع، و تغطي الثعالب ُ و الذئاب أمواتها بالتراب في مواقف َ موثَّقة بلغ َ بعضها حدَّ التغطية ِ الكاملة فيما يمكن َ أن نقول عنه: دفنا ً بدائيا ً.و لو رجعنا لسلوك ِ طائر العقيق السابق، و حاولنا إيجاد َ السلوك ِ البشري ِ المُماثل أو المُقارب فإننا سنعود ُ لأزمنة ِ ما قبل التاريخ ِ المكتوب حين كشفت التنقيبات ُ الأثرية عن سلوك ِ دفن ٍ بدائي يُحاط ُ به الميت ُ الإنسان بالورود و الأعشاب بنفس طريقة ِ هذا الطائر، و كما دفنت ِ الثعالب ُ و الذئاب، دفن هذا الإنسان ُ البدائيُّ ميته بدون عناية ٍ احترافية، لكن بعناية ٍ بدائية ٍ مقصودة بحسب إمكانيته.أي أننا هنا أمام َ سلوك ٍ حيواني بدائي يجد ُ له نظيرا ً دينيا ً عند الإنسان ِ المتطور، و الذي بقوَّة العقل ِ البدائيِّ القادر ِ على تميز ِ الانجذابات النفسية نحو المشاعر ِ المتناقضة و المتصارعة في داخل ِ الكائن البشري، أوجدَ دينَه ليستطيع َ أن يتعامل َ مع هذه المشاعر و يُديرَ اضطرابها في قنوات ٍ تُتيحُ له استمرارية َ البقاء الغريزي الذي يتطلبُ منه دوما ً أمرين:- إيجاد َ تفسير ٍ لما يحدث.- ربط هذا التفسير بنفسه لكي يُحدِّد َ العلاقة بينه و بين الحدث الخارجي.و لأن َّ القدرات ِ العقلية َ للإنسانِ تفوق َ تلك الموجودة َ عند الحيوانات ِ الأخرى فإن تعامله مع حدث الموت، و مع المشاعر النفسية ِ الناتجة ِ عنه، لا بدَّ و أن يكون متطورا ً بنسبة ٍ تتوافقُ مع تطوره العقلي، فكما كان ردُّ فعل حيوانات ِ: العقيق، و الفيلة، و الثعالب، و الذئاب بسيطا ً بحسب ِ قدرة عقولها، جاء ردُّ فعل إنسان ِ ما قبل التاريخ بسيطا ً لكنه أفضل منها، حتّى إذا ما امتلك الأدوات َ و المعرفة َ في عصور ٍ تاريخية ٍ مُسجلة، عبَّر بكل ِّ اقتدار ٍ عن هذا التفوق، و سخَّرَهُ في "شعوره الديني"، فجاءنا من الفراعنة ِ التحنيط، و الروح، و الأهرامات، و مفهوم الحساب بعد الموت، و الخلود. و كلُّها لا تخرج ُ عن الأمرين الذين دفعت غريزة ُ البقاء الإنسان إليهما كما أوردت ُ في الفقرة ِ التي تسبقُ هذه مباشرة ً، أي التفسير و العلاقة.تمارس ُ الحيوانات ُ سلوك َ "الاندهاشِ" و "التأثُّر ِ" أمام مظاهر ِ الطبيعة، و تُحيي "طقوسا ً" بدائية ً هي الأخرى، فعلى سبيل ِ المثال: تقوم ُ حيوانات ُ الشيمبانزي بالحركة ِ المُنتظمة على ضفاف النهر الذي يسقط ُ فيه الشلام ُ الهادرُ أمامها، بينما تلقي فيه الأحجار، ثم َّ تتسلقُ بعض الأغصان ِ في الأشجار ِ المحاذية و تتأرجحُ راقصة ً لمدة ٍ قد تزيد ُ على دقائق َ عشرة و هي ترمقُ الماء الذي ينحدرُ من الشلال و تسمع صوت َ تلاطُمه على الصخور، و تتفاعل ُ مع حركة ِ الماء ِ و صوت ِ الهدير.هذا السلوك ُ الانداهشيُّ يشي بوضوح ٍ لا مجال َ للشكِّ فيه بأن الشيمبانزي "يُدركُ" الظاهرة َ الفريدة َ للشلال، و تميُّزها عن مُحيطها الهادئ، و بأنه "يطربُ" لها، و "ينتشي" بوجودها، و "يضع ُ" نفسه في "مركز" الحدث، و "يُنشئُ" علاقة ً مع "ظاهرة ِ" الشلال، ليبني َ تصورا ً لها و يتخذ َ موقفا ً منها، و يتَّبع َ "طقساً" يخترعه، "يعتقدُ" أنه يتناسب ُ مع، و يُعبِّرُ عن، هذه الظاهرة و علاقته به. نحن هنا أمام َ سلوك ٍ نرجسي ٍ نشاهدُ مثيله عند القبائلِ البدائية في طقوسها و رقصاتها الدينية البدائية.بعض ُ الشيمبانزيات خرقت المألوف َ أو المتوقَّع من السلوك تجاه النار، بأن بدأت ترقصُ حولها. أحد هذه الشمبانزيات اقترب َ من النارِ بشكل ٍ واضح يثير الاستغراب، و "استعرضَ" نفسه أمامها، و هو مشهد ٌ يستدعي بقوة ٍ كبيرة سلوك رجل الشامان الأوَّل ِ عند القبيلة البدائية، و الشامان هو النسخة البدائية من "رجل الدين" و "النبي" مُندمجتين بدون فصل لا تعرفُه القبائل البدائية.قرود ُ البابون رُصِدت و هي تجلس ُ تنظرُ بصمت ٍ و وداعة ٍ و هدوء في جريان ِ نهر ٍ، دون أن تنبسَ بصوت أو تتحرك، و مارس َ هذا السلوك كِبارُها و صغارُها على حدٍّ سواء، لمدَّة ثلاثين دقيقة، و هذا مُدهش لكونهِ يتعارض مع المتوقع منها و المعروف عنها. إنها هنا في حالة بدائية تشبه سلوك "الخشوع" الديني، لكنه بدائي ٌّ كما تسمح ُ لها "عقولها" و "قدراتها" الجسدية و النفسية.إن هذه العودة َ للجذور، و دراستها في الحيوانات، ثم مقاربة َ السلوك البشري مع نظيره الحيواني، و بإلقاء ِ الضوء ِ على التأكيد ِ العلمي على الأصول ِ المشتركة ِ للبشر ِ مع الأجناس ِ الأخيرة، لا يتبقى لدينا سوى الاعتراف بأننا أمام مظاهر َ سلوكية ٍ تكادُ تكونُ مُتطابقة في أصولها التي نشأت عنها أي: الطبيعة و أحداثها و الموت، و في الاستجابات البيولوجية النفسية: أي الاندهاش و موضعة النفس في قلب الحدث و استخلاص العلاقة بينهما ثم إتيان ِ طقوس: الدفن و التأملُ و الرقص. كما و سنجد ُ أننا و إن توقفنا عند الحيوان ِ أمام مظاهر َ بدائية لمحدودية ِ استطاعة ِ هذا الحيوان ِ التعبير َ عن نفسه بحسب ِ عقله القاصر، لا بدَّ و أن نُكمل المشوار َ مع العقل ِ البشريِّ القادر! و سوف َ لن نستطيع َ أن نُنكر بأي حال ٍ من الأحوال، أن الإنسان َ استقى دينه الأول من الطبيعة، و صنعه كما فهمه، و كما انسجم َ مع قناعته بأن هذا الفهم هو "تمثيل ٌ صحيح" و "تصوير ٌ أصيل" و "تعبير ٌ صادق" عن حقيقة الوجود.و كلَّما غُصنا أكثر َ في التاريخ غير المكتوب و الذي نستدل ُ عليه من الاكتشافات الأنثروبولوجيه و الحفرية، سنلتقي باندهاش ٍ كبير بتماثلُ أو تقارُب السلوك البشري الأول مع نظيره الحيواني، و إني اعتقدُ أن دراسة َ الحيوانات تُلقي بضوء ٍ كبير و تساهمُ بفاعلية في الكشف ِ عن سلوك إنسان ِ ما قبل "الإنسان – العاقل" و الذي حين َ نفكُّه و نشرِّحُه و نُحلِّله و ندرسه كاملا ً سنستطيع ُ رسم َ الخريطة ِ الإنسانية ِ كاملة ً بدون غموض! | |
|