تصاعد من جديد الجدل حول نظرية داروين و المناسبة احدى عشر ورقة علمية أصدرها فريق من العلماء، ونشرتها يوم 2 أكتوبر 2009 المجلة العلمية الأمريكية ساينس Science، و كانت نتاجا لجهود ما يربو عن الأربعين عالم، وتضمنت نتائج الأبحاث التي أجريت طيلة خمسة عشر عاما على أقدم هيكل عظمي لجد الانسان، وتم إطلاق تسمية أردي على هذا الهيكل، و هى مشتقة من Ardipithecus ramidus وتشير إلى الأصل.
تم اكتشاف أردي سنة 1992 في منطقة عفر الأثيوبية على مقربة من قرية آراميس، ويناهز عمرها 4، 4 مليون عام، أي إنها أقدم من سابقتها لوسي التي عمرها 3،2 مليون سنة، و عثر عليها سنة 1974في منطقة تبعد 72 كلم عن تلك التي اكتشفت فيها أردي، و يعود الفضل في هذا الاكتشاف إلى عالمي الباليوأنتروبولوجيا تيم وايت وجان سيوا و الفريق المساعد لهما.
لقد تطلب الأمر جهدا كبيرا من البحث، وكان من الصعوبة بمكان استخراج المستحثات و إعادة تركيب الأجزاء الصغيرة المبعثرة، بما سمح في الأخير بترميم الهيكل العظمي و إخضاعه للدراسة.
و مكنت الأبحاث التي جرت على جمجمة أردي و أسنانها و عظامها من تقديم صورة تقريبية عنها، فالأمر يتعلق بكائن من جنس الإناث، طوله مائة و عشرون سنتمترا، و وزنه خمسون كيلوغراما، و يقول العلماء إنها ليست من نوع القردة ولكنها أيضا ليست من نوع الإنسان فهى بمثابة فسيفساء بيولوجية، فقد كانت تسير على قائمتين bipède، بمعنى أنها منتصبة الوقفة، كما كانت تتسلق الأشجار بسهولة و تقضي غالب وقتها في هذا النشاط قياسا إلى سيرها على الأرض، وهى لا تمتلك أنيابا حادة مثل تلك التي نجدها لدى الشامبنزي، كما كان حوضها متكيفا مع المشي و التسلق و أسفل ظهرها لينا مقارنة بالقردة العليا، و لها أصابع قدم متقابلة تساعدها على التسلق، غير أنها اقل براعة من القردة على هذا الصعيد، و قدمها أكثر صلابة من تلك التي نجدها لدى القردة العليا مما يسهل عليها المشي، و لكنها غير قادرة على اجتياز مسافات طويلة أو الجري بسبب افتقارها إلى التجويف على مستوى أخمص قدميها، و إذا كانت القردة العليا الإفريقية تسير على السلاميات les phalanges المتوسطة، التي تدخل في تكوين أصابع اليد عندما تضطر للتنقل على قوائمها الأربعة ، فان أردي لا تفعل ذلك، فهي ليست في حاجة إلى اليد للسير، و معصمها مرن، بما يسمح بقدرة أكبر على القطف و مسك الأشياء مقارنة بالشامبنزي، غير أنه لا يمكنها الانتقال مثل القردة من غصن إلى آخر باستعمال أصابع اليد.
و قد عاشت في بيئة تتوفر فيها أشجار مثل النخيل و التين، يشاركها في ذلك حيوانات مثل الظباء و الفيلة و القردة و الدببة و الزرافات، إضافة إلى الطيور و كائنات أخرى صغيرة الحجم كالقوارض و القشرة التي تعلو أسنانها أقل سماكة مقارنة بلوسي، و هذا يعني أنها لم تكن تستطيع مضغ المواد الغذائية الصلبة.
و رأسها صغير، و حجم جمجمتها بين 300 و 350 سم 3، أي أنها تشبه بذلك الشامبنزي بينما نعرف أن الحجم لدى الإنسان الحالي هو 1500 سم3، و هذا يمكننا من إدراك التطور الذي بلغه دماغ الإنسان من حيث الحجم و الوزن منذ أردي حتى الإنسان العاقل Homo sapiens. و لاحظ العلماء أن الذكور و الإناث من فصيلة أردي، كانوا يمتلكون حجما متماثلا مما يمكن من استنتاج أن الصراع بينهما لم يكن محتدا، مثلما عليه الأمر بالنسبة إلى فصيلتي الشامنبنزى و الغوريلا.
و النتيجة الأساسية التي خلص إليها العلماء أن الشامبنزى ليس جد الإنسان، بل هما ربما ينحدران سويا من أصل مشترك لا يزال حتى اليوم غير مكتشف بعد، و تلك هي الحلقة المفقودة التي على البحث البيولوجي أن يصل إليها يوما ما، و نقلت تقارير إعلامية قول سي اوين لوفجوي و هو من بين ما شاركوا في الأبحاث أن الإنسان لم ينحدر من الشامبنزي أو الغوريلا، و إنما انحدر هو و تلك الأنواع من القردة العليا من جد مشترك مجهول حتى الآن.
كما استنتج العلماء أن الإنسان و أشباهه من القردة العليا كان لهم مسارات مختلفة من حيث التطور بعد انفصالهم عن الأصل المشترك.
و التأكيد نفسه نجده لدى تيم وايت الأستاذ في مركز البحث في تطور الإنسان بجامعة بركلي بكاليفورنيا، و هو أحد ابرز من قام بهذا البحث الجديد، و نقلت عنه جريدة لومند الفرنسية قوله أن أردي ليست ذلك الجد المشترك، مبينا أنها ليست شامبنزي و ليست إنسانا، وهي تقربنا أكثر من أي وقت مضى من معرفة الأصل المشترك للإنسان و القرد، و تمكننا من أن نتخيله و الوسيلة الوحيدة لمعرفة ماذا يكون هذا الجد المشترك هي العثور عليه، هذا ما استخلصه، مستحضرا داروين الذي كان يحذر من كل تعميم مستوحى من القردة.
إلى حد هنا يقف ما قاله العلماء عن نتائج أبحاثهم حول هذه الأحفورة، و بعد هذا مباشرة بدأ التوظيف الإيديولوجي، أي اننا أمام لحظة إخلاء البيولوجيا المجال أمام الايدولوجيا، فانبرى صحافيون و رجال دين في البلاد العربية بوجه خاص، إلى إعلان موت نظرية داروين، بعد أن جاء الخبر الذي يفيد أن الشامبنزي ليس جد الإنسان.
و في الحقيقة فان كل ما قام به هؤلاء هو العبث بنتائج الأبحاث العلمية حول أردي و توظيفها لغايات دعائية لا علاقة لها بالعلم، بينما ساد لدى ثقافات أخرى استقبال مغاير تماما في الغالب، اتسم بالهدوء و الرصانة في التحليل، يعبر عن أمل التقدم في اتجاه انتصارات علمية جديدة تمكن الإنسان من كشف ماضيه البيولوجي، الذي لا تزال بعض حلقاته مجهولة فعلى سبيل الذكر روجت قناة الجزيرة القطرية للخبر العلمي تحت عنوان: "أردي تطعن بصحة نظرية داروين"، أما صحيفة الخليج الإماراتية فعنونت: "هيكل أردي ينسف نظرية داروين ". و في المقابل عنونت فرانس سوار الفرنسية: "عندما تدفع أردي الإنسان والقرد نحو أصولهما "، و قالت السي ان ان الأمريكية إن أردي تؤكد نظرية داروين.
و على أي حال فان ما ورد في كتاب داروين أصل الأنواع لا يفيد أن الإنسان انحدر مباشرة من الشامبنزى، ثم ألا تؤكد البيولوجيا بمختلف مدارسها على فكرة التطور، و هو ما ينافي الأساس العقدي الذي تقوم عليه الرؤية الإيمانية و نعني فكرة الخلق وثبات الأنواع ؟؟؟ هل الناس الحاليون يشبهون تماما على المستوى البيولوجي أردي أم إن هناك فروقا كبيرة بينهم و بينها و هو ما يؤكد ما قاله داروين.
لقد تلقف حراس الأساطير نتائج الأبحاث العلمية المشار إليها فشوهوها وعبثوا بمحتواها بالادعاء انه تؤكد خرافاتهم وتدحض نظرية داروين، انه الكبرياء الزائف الذي أشار سيقموند فرويد الى ما كان للداروينية من تأثير عاصف عليه عندما وجهت له احدى الاهانات الكبرى، ذلك الكبرياء الصادر عن أعماق التصورات الذاتية يواصل اليوم ردود أفعاله في تعارض كلى مع ما هو موضوعي. و أمام السيل العارم للحقائق العلمية يتشبث أصحاب النزعات الذاتية بأي قشة يعثرون عليها في طريقهم، فيحولون البيولوجيا و غيرها من العلوم إلى ايديبولوجيا و يضربون صفحا عن ما هو ابستمولوجي بترويج خرافات عفا عليها الزمن. و ما جرى يكشف بشكل دراماتيكي يصل حد الفضيحة، عن كيفية قولبة الخبر و التلاعب به، بما يؤدي إلى التضحية بحقائق العلم والموضوعية و التجرد و الحيادية على مذبح الإيمان.
و هذا الذي نقوله لا يعني أن الاكتشاف العلمي الجديد لا يصحح بعض أوجه نظرية داروين فهذه النظرية و مثيلاتها مفتوحة أمام التدقيق و الإضافة، بل إن النظرية العلمية تجد في ذلك سبيلا من سبل تطويرها، فالعلم عبارة عن عمارة متعددة الطوابق و كل عالم يأتي لكي يضيف طابقا جديدا ولكن من الخطأ كما يقول سيقموند فرويد الاعتقاد أن علمنا وهم فالوهم هو تصور أننا سنجد خارجه ما لا يستطيع هو أن يقدمه لنا. لقد كتبنا في مناسبة سابقة في الأوان ما يلي "أخطأت الداروينية لعدم إدراكها الاختلافات الأساسية بين الإنسان والقرد، إذ ركّزت نظرها بوجه خاصّ على ما هو مشترك بين هذين الكائنين، معتبرة تلك الاختلافات كمّية لا نوعية، وبموجب ذلك تمّ تصنيف الإنسان ضمن المملكة الحيوانية بينما هو أرقى منها." مشيرين بذلك إلى نقد المدرسة الماركسية للداروينية و نحن نرى الآن أن ما كشفته الأبحاث الأخيرة يؤكد صدقية ذلك النقد. لقد كتب فريد ريك انجلس سنة 1876 قائلا: "منذ مئات و مئات الآلاف من السنين، في حقبة لا يزال يستحيل تحديدها بدقة، في حقبة من هذا العهد من تطور الأرض الذي يسميه الجيولوجيون العهد التكويني الثالث، و من المحتمل في نهايته، كان يعيش في مكان ما من المنطقة الاستوائية ـ و أغلب الظن في قارة شاسعة تغمرها اليوم مياه المحيط الهندي ـ جنس من القرود الشبيهة بالإنسان يلغ درجة عالية جدا من التطور، و قد أعطانا داروين وصفا تقريبيا عن هذه القرود التي كانت أجدادنا، فقد كان الشعر يكسو جلدها بكليته، و كانت لها لحي وآذانها مقرنة، و كانت تعيش قطعانا فوق الأشجار. و بتأثير من نمط حياتها الذي يتطلب أن تقوم الأيدي عند التسلق بوظائف غير وظائف الأرجل ـ و أغلب الظن أن هذا هو السبب الأول ـ شرعت هذه القرود تفقد عادة الاعتماد على أيديها للمشي على الأرض و اتخذت لكثر فأكثر مشية عمودية، و هكذا تمت الخطوة الحاسمة للانتقال من القرد إلى الإنسان"، ترى ألا تنطبق هذه الأوصاف على أردي بالذات؟
بقى أن نشير إلى إن قبول أو رفض هذه الثقافة أو تلك لثمار الثورة العلمية يعد معيارا نقيس به مدى عقلانيتها أو لاعقلانيتها، و إذا كان ما ساد خلال الأيام الأخيرة عربيا هو انتشار ردود فعل مغرقة في اللاعقلانية ومفعمة بالذاتية و الغيبية والإيمانية في تعاملها مع الاكتشاف العلمي الجديد عدا استثناءات قليلة، فان ذلك من شأنه أن يحفز على حث الخطى في سبيل تنقية الثقافة العربية من الأوهام التي لا تزال تعرقل تطورها، و هنا بالذات تتأكد الحاجة لاستعمال سلاح النقد.
لقد كان داروين في صغره مهوسا بمطاردة الفئران و الكلاب، و في كبره احترف مطاردة الأنواع الحية، مصنفا إياها لنحت معالم نظريته في علم الحياة، و اليوم فان البيولوجيا التي كان هو من وضع حجر أساسها تواصل مطاردة الأوهام العالقة بأذهان ترفض أن تعدل ساعتها على ما يستجد من أبحاث علمية.
إن الاكتشافات البيولوجية الأخيرة ذات أهمية كبرى، فهي تلقي المزيد من الضوء على مشكلة أصل الإنسان بكشفها عن مرحلة غير معروفة سابقا من مراحل تطوره البيولوجي، إنها تنبه إلى انحدار الإنسان و الكائنات التي تنتمي إلى نفس المجموعة البيولوجية التي ينتمي إليها les hominidés مثل الغوريلا و الشامبنزي و السعلاة orang -outan من أصل مشترك.
و بهذا تم التقدم مسافة أكبر في اتجاه الكشف عن الحلقة المفقودة التي تحدث عنها داروين، و بالتالي وضع علامة أخرى على طريق التطور تشير إلى المدى الجديد الذي قطعه البحث العلمي حول أصل الإنسان، و لا تزال هناك أشواط أخرى يتوجب اجتيازها، إننا نعرف الآن أن جدتنا الأقدم هي بمقاييس البحث العلمي أقل تطورا من الشامبنزي الحالى مما يعني أن تطورات متلاحقة قد حدثت قبل أن يصبح الإنسان ما على ما هو عليه اليوم ..
و بالتأكيد فان أردي لم تكن تعيش بمفردها و إنما في علاقة بمثيلاتها، لقد اكتشف العلماء هياكل عظمية مشابهة لها في نفس المنطقة و لكنها كانت غير قابلة للترميم، ترى كيف كانت تسير حياة تلك الكائنات، هل كانت هناك شبه لغة متبادلة بينها؟ ما علاقة التكوين البيولوجي لأردي بالنشاط الذي كانت تتعاطاه؟؟ قد نحتاج هنا إلى أبحاث فلسفية تناقش ابستومولوجيا ما جاء في مجلة ساينس و تلقي المزيد من الضوء علي الاكتشاف الأخير.