ماهي المصادفة..· هل هي اللامتوقع واللامنتظر والطارئ والمفاجئ..، والمنفلت، الذي لا يحكمه ولا يخضع لقانون؟
· هل هي فقط، تعبير عن جهلنا بملابسات الضرورة؟
· هل هي كامنة في الأشياء ذاتها، أم أنها فقط متضمنة في أحكامنا عنها؟
· كيف يسلك عامة الناس إزاءها؟
· ما هي محددات التمثل الاجتماعي عنها؟
· كيف تنظر إليها الفلسفة؟ وكيف يراها العلم؟
· ما هي علاقتها بالدلالات وباللغة؟
عادة ما تقترن المصادفة عند الناس بالقدر وبالفوضى، إنها تعبير عن اختلال نظام لا يعرف (الناس) أسباب اختلاله، و هي قوى معادية تحول بيننا وبين ما نود أن نفعله، إنها تُسَفِّهُ مجهوداتنا أو تنسفها، كما لو أنها تسخر منا! كانت المصادفة موضوع تأمل ديني، وأخلاقي فلسفي. ولقد تظافرت عدة جهود من أجل دراستها رياضياً، بتبلور حساب الاحتمالات، وعلى الرغم من أن أغلب الاكتشافات العلمية كانت خاضعة للمصادفة، فقد سبقها "احتشاد" واستعداد وتوقع وعلى الرغم مما يتحكم في الطبيعة من قوانين فلا زال الإنسان يعجز عن التنبؤ، على نحو دقيق، بعدة ظواهر طبيعية. هذا وتتميز الاكتشافات الكبرى، بحسب (فرويد)، بميزة طريفة تزعزع يقين الإنسان بعلو شأنه وتنزل به درجات في سلم الوجود، وهكذا فقد أقصاه (كوبرنيكوس) من مركز الكون، وأنزله(داروين) إلى مرتبة الحيوانات بل والحشرات، واكتشف (فرويد) نفسه "اللاشعور" فدمر بذلك أسطورة فكر عقلاني خالص لديه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحياة نفسها تطورت على نحو غير مسبوق، وغير قابل للتقدير، من تعاقب هائل للأحداث المجانية المحضة، ومن مجموعة من اللقاءات الصّدفوية الخالصة، هي عبارة عن لقاءات بين جُزيئات تفاعلت داخل الكائن الحي الطبيعي، وهكذا مثلاً... تم اللقاء بين النّبتة وبين المواد المُغذية لها، وحدث اللقاء بين الحشرة التي تعيش على البحث عن كلأ ، مثلما جرى اللقاء بين الحيوانات وبين خلاياها الجنسية الضرورية، فكان تأبيد الكائن الحيّ، وتأبيد السلالة والساكنة والأجناس، وكان ذلك نتيجة لخصائص الكائن الحي الذي أتاح لها اللقاء، فالتقى النصف بنصفه، هذا تبسيطاً وعلى نحو عام، فعلى مستوى الجزيء مثلاً، فإن الأنزيمات (الخمائر) والأغشية والبنيات تنظم بدقة قصوى توجهات وخصائص ولقاءات، وتعمل على تدبير طرائق، و على إتاحة وإحداث أسباب تفاعل جزيء مع شريك آخر محتمل به.
الأخطار...
ويمكن اعتبار الأخطار مثلاً من الظواهر التي تلعب فيها المصادفة دوراً كبيراً. والسؤال هو:كيف يمكن الاحتياط منها أو تلافيها أو فقط التقليل من عواقبها؟
من المعلوم أولاً، أن تقديراً سيئاً للأخطار يمكن أن يؤدي إلى قرارات مشؤومة ونتائج كارثية، بحيث يزيد من الأخطار ويجعل توقعها خاطئاً. غير أن الملاحظ عموماً، أن الشعوب صارت على وعي بالتهديدات المحدقة بها، ولذلك فقد اتخذت احتياطات تهدف إلى التقليل من مضاعفاتها، بحيث مثلاً إنه تضاءل التدخين، واغتنت الأنظمة الغذائية وتظافرت الجهود من أجل المحافظة على الأمن الطرقي والغذائي والروحي... الخ. ولقد لاحظ المتخصصون أن الشعوب تكون حذرة من الأخطار وتتخذ منها الاحتياطات الصحيحة، حينما تعمل الحكومات على تحسيسها بها، وليس فقط على تطمينها من عواقبها، أي تضليلها، ومع ذلك فإن دراسة التعرض للمخاطر وتخمين عواقبها لازالت في بدايتها، فضلاً عن كونها محطّ شكوك تتعلق بنسبة حدوثها،وكيفيات مقاومتها أو الوقاية منها،... إلاأن قيامها أو حدوثها يبقى غير متوقع، فقد تتوصل وكالات التأمين إلى التقدير السنوي والدقيق لأحداث السير مثلاً، في هذا البلد أو ذاك، غير أننا لا يمكن أن نتنبأ بالسيارة التي ستصاب بحادث السير، وبموت سائقها، لأن هذه مهمة العرافين، وينصب نفس الأمر على الأمراض المميتة والمجاعات والجوانح والآفات. غير أن السيطرة على الخطر تعني عموماً تفادي الوقوع فيه، أو على الأقل، الحد من عواقبه حين الوقوع فيه، أما السيطرة الكاملة عليه فهي تبقى غير ممكنة. وتبعاً لذلك تكون المُخاطرةهي تهديد بخطر محتمل، قابل للتوقع إلى هذا الحد أو ذاك.
أنواع الأخطار:
طبيعية للغاية : كالإعصارات والبراكين والفيضانات وانزلاقات التربة وسقوط النيازك وانتشار الأوبئة..
اصطناعية جداً : كحوادث السير وحوادث الشغل والانفجارات السكانية والسرقات والاختلاسات والإفلاسات والأزمات المالية وتلوث البيئة... عرضية : لا يتسبب في أضرار مباشرة، غير أنه يضخم من احتمال حدوث أخطار "مستقبلية"، كالتدخين مثلاً، الذي يرفع من معدل الإصابة بسرطان الرئة، وأشواق الجسد التي ترفع من معدل الزهري أو المناعة المكتسبة...الخ.
(2). تحليل المصادفة:
يقول (مالارميه): "إن رمية نرد لن تلغي الأقدار"، من المؤكد أن المصادفة التي يقصدها الشاعر هي تلك التي تتحكم في علاقة الصوت بالمعنى، إن المصادفة بهذا الصدد، هي أعمق من العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول، التي قال بها (دي سوسير)، فمفهوم الاعتباط في اللسانيات يجعل بالإمكان تدجين المصادفة أو ضبطها، ذلك أن الاعتباط يعني في النهاية أنه ليس هناك ضرورة لقيام هذه اللغة أو تلك، سواء ضرورة بشرية أو إلهية، وفي حالة قيامها، فليس هناك ضرورة لكي تكون على هذا النحو أو ذاك، ثم إن كانت هناك حاجة لقيامها، فلن تكون هناك حاجة لعلوم اللغة. لكن إذا أمكن الحديث عن مصادفة تحكم العلاقة بين الكلمات والأشياء، فلن تكون هناك أية مصادفة في وجود اللغة. تستعمل نظرية التحليل النفسي في التنبيه لشيء أساسي، يتمثل في الدور الذي بات يتجسد في وضعية اللاشعور في الحياة النفسية، فالتحليل النفسي ليس وليد المصادفة، فقد ظهر (فرويد) في وقت كان فيه البحث جار عن الحتمية الفيزيائية والكيميائية فيما يتصل بتفسير الظواهر الطبيعية. وعموماً، فإن الكثير من الاكتشافات العلمية لم تحدث مصادفة، و(فرويد) ينفي المصادفة في فهم الحياة النفسية. أما فيما يتعلق بالكيفية التي تنظر بها الفلسفة إلى المصادفة، فيمكن أن نسجل موقفين:
أولاً: الموقف الذي يعتبرها أثراً من آثار جهلنا بالضرورة، فالمصادفة، بحسب هذا الموقف، ليست في العمق سوى حجاب للضرورة. ولقد كانت هذه الفكرة هي فكرة (ديمقريطس) وكل الماديين القدماء وحتى الرواقيين ومفكرين آخرين قدماء ومحدثين، من أمثال (اسبينوزا وكانط)، الذي صاغ وبشكل أقرب من العلم نظرية للمنظومة الشمسية معتبرا إياها خاضعة للميكانيكا. يعتبر (دو لابالاص/1749-1827)، العالم الفلكي والرياضي المعروف بمواقفه الغائية، أن الاحتمال هو سبيل ثان للعلماء لإضفاء النظام على أشياء لا يدركون أسبابها الحقيقية. ويمكن أن نقول على المستوى التاريخي أن التراث الهيغلي الماركسي قد مثل منظوراً يصير فيه كل شيء محكوماً في النهاية بضرورة ما، (فالمصادفة ليست سوى طريقة للقول بأننا لا ندرك الأسباب الحقيقية)
ثانياً: الموقف الثاني يعتبر المصادفة حالة موضوعية، وأول من طرح المصادفة كشيء موضوعي هو (أرسطو)، إنها وجه من وجوه السببية، وهي تعرض لمن يفكر في مآل العالم.. وللعلم، فإن هناك، حسب (أرسطو)، أربعة أسباب أو علل تحكم الوجود وهي: العلة المادية، والصورية، والفاعلة، والغائية. وعادة ما تكون العلة الغائية مرتبطة بالعلة الفاعلة وهذه عادة ما تكون مرتبطة بالعلة الغائية و بالعلة الصورية وبالعلة الفاعلة. فالمرء يقوم عادة بفعل من أجل غاية، غير أن (أرسطو) يرى هناك شيئاً ملتبساً يتّصل بهاتين العِلتين (الغائية والفاعلة)، وهو يقدم مثالاً على ذلك بدائن يذهب إلى (الأغورا) "كما هو معلوم هي ساحة عامة كانت المجالس السياسية تعقد عندها في المدن الإغريقية" لكي يساهم في النقاشات الشعبية، فيلتقي فجأة بمدينه، وهي فرصة سانحة بالنسبة إليه للمطالبة بدَيْنه، إلا أنه لم يأت لهذا السبب طبعاً.. فهذا التداخل "المبهم" هو الذي يمثل المصادفة عند (أرسطو)، أما حين يلتقي الدائن بالمدين صدفة في الساحة، ويكون بصدد البحث عنه، فإن اللقاء يكتسي معنى الحظ حينئذ، فالمصادفة هنا تحكمها المصلحة والقصد. ومن هنا صحة الترجمة الأخرى لبيت (مالارميه) "رمية نرد لا تلغي الحظ " غير أننا نجد في القرن التاسع عشر فيلسوفين لا يقتنعان بهذا الطّرح، هما (كورنو وبوانكاري)، وفيما يكتفي كورنو بالقول أن المصادفة تحصل حينما نلتقي بسلسلتين من الأسباب متعلقة الواحدة منها بالأخرى، وهي تتجسد مثلاً في القرميدة التي تقع على رأس أحد المارة،.. فتقتله... طبعاً، أن الشخص كان ذاهبا لقضاء غرضه، ولم تكن للبناء أية نية في القتل، ولم يكن أبداً قاتلاً، فضلاً عن أنه لا يعرف الشخص" المقتول"، غير أنه، مع ذلك أوْقعَ القِرميدة على رأس المار فقتله. هذا الالتقاء المجاني والمتعذر على الفهم والغامض هو الذي يشكل المصادفة، ويلاحظ (كورنو) أن المصادفة بهذا التحديد، ليست نفياً للغاية بل هي التقاء بين سلاسل مهما كانت تبدو مجانية وغير متوقعة، فإن قوانين صارمة تحكمها. أما بالنسبة لـ(بوانكاري)، فإن الأمر الطريف عنده هو اعتباره أن ما يميز المصادفة هو تفانٍ خاص يحكم السّبب والنتيجة، والمثال الذي يقدمه هو شكل يقوم على هيئة مخروط يقف على رأسه. إلا أن اختلالاً طفيفاً في التوازن، وعدم استواء بسيط، أو هبة خفيفة لنسيم، كافية لكي يسقط. فقد يقف بالفعل على رأسه، أن سبباً واهياً، يؤدي إلى نتيجة "وخيمة". إلا أن (بوانكاري) يعترف بأن هذا التعريف ليس وافياً، فسبباً واحداً لا يكفي، أي تفان بين سبب واحد ونتيجة واحدة، لذلك يقول بتعدد الأسباب وتعقدها.
(3). المصادفة في التشكيل:
والآن ماذا يمكن أن تكون "المصادفة" في التشكيل؟ وما الذي تمثله بالنسبة للفنان التشكيلي؟ هل هي الأداة أم المادة؟..هناك عدة تصورات تدور حول هذا الأمر، وهي تصورات كانت دائماً تثير اهتمام الفنان كاللقاء الصدفوي والمغامرة والعرضي واللامتوقع...، و إجمالاً، كل ما ينفتح على عالم آخر غامض ويتضمن تفاوتاً بين الأسباب والنتائج، أي كل ما يمكن أن يخلق غنى إضافياً، بالنسبة لعملية الخلق. مع ذلك، فقد صار التصور الذي كان يُحدد الفنون التشكيلية باعتبارها معركة المصادفة، تصوراً له إيجابيته، فقد انفجر إطار الفنون التشكيلية وأنزل الفنانون لوحاتهم من جدران المعارض وعرضوها في الشوارع، ثم سمحوا بالتعامل مع الصور الفوتوغرافية والسينما والفيديو والإشهار، وأخيراً الحاسوب. و اختصاراً فقد تغير سياق الفنون التشكيلية، مادة وشكلاً، واهتم الفنانون بالاكتشافات العلمية الجديدة. فإذا ما أردنا أن نقترب أكثر وننظر فقط في الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة، وتساءلنا عن الدور الذي تلعبه المصادفة في التشكيل، فسنجد تيارين يتقاربان في تسخير المصادفة:
- الأول يمكن نعته بالانطباعية التجريدية، ومن بين أعضائه (دوبيفي / (Dubuffet، الذي استعمل الكولاج، وجمع بين مواد متنافرة وغير قابلة بالمرة لأن تجتمع، (أي أنه، وبحسبه، خلق نوعاً من المصادفة المتعمدة و"التطبيقية").. من جهة أخرى يقترح دي (كونينج / (De koning، أن يرسم بأعين مغمضة.. أما (هنتاي)، فيغمر لوحته بالصباغة قبل أن يعمد إلى طَيّها وإعادة طيها فيحصل على نتائج لم يكن يتوقعها.. ثم هناك (بولوك/ (Pollock، الرسام الأمريكي الذي يمارس Duping (التقطير)، إنه يحمل علبة للصباغة مثقوبة ويعمل على تحريكها وسكبها على اللوحة.
- أما التيار الثاني والأهم، فهو يتمثل في "الواقعية الجديدة" (الفرنسية)، فهذه الحركة التي أمدها (ديستاي) بتنظيره لها، تجمع بين أشخاص مختلفين جداً مثل (أرمان وسيزار وكلين وهين) والفنان البارز ضمن هذه الحركة هو (سبوييري/ (SPOERRI، الذي كتب هذا الكتاب العجيب: "الطبوغرافيا المحكية للمصادفة" والذي أعاد مركز (بومبيدو) طبعه بمناسبة تنظيم أحد معارضه. في هذا الكتاب يعمل (سبوييري) على وصف كيفية ممارسته للرسم، فلقد كان من عادته أن يرسم لوحات تتكون من موائد تعلوها فضلات الطعام والصحون المغسولة، إلا أن بقايا الأكل لا زالت تعلق بها، ومازالت الأكواب بثمالاتها والقوارير بآثار محتوياتها...، تبقى كل هذه الأشياء بالمائدة أو تُلْصق بها ثم تعلق على الجدران، أو يستعيض عنها الرسام بورق شفاف يضعه فوق المائدة ويتركه لكي تقع فضلات الطعام بمحض المصادفة عليه، ثم يلجأ الرسام إلى إحاطة هذه الفضلات بقلم الرصاص. نقرأ في مقدمة الكتاب هذه الجملة: "إن الواقع الموضوعي الذي تحكمه المصادفة إنما هي الطريقة الأضمن لتقديم صورة مشابهة لحياتنا"
- هناك تيار ثالث، لكنه أقل انسجاماً لأنه يضم أشخاصاً أكثر تبايناً، بعضهم يعتمد على الحواسيب ويسخر الهندسة والرياضيات، ويفضل الخط المستقيم والتكرار الطفيف لعناصر بسيطة. ثم إنهم جميعا يدرجون المصادفة أخيراً، لكن الأسباب مختلفة، والرسام الأشهر ضمن هذه الأسرة هو (فرانسوا موريلي/ (F.Morellet، الذي يتبنى موقفاً أخلاقياً ساخراً، ويقول بأنه يريد أن يعمل على إحلال المصادفة محل العبقرية، وهو يصدر عن نظرة جمالية يكون فيها العبقري على النقيض مما تم التنظير له في النظريات الجمالية القديمة.
(4). الأدب والمصادفة:
أماالأدب الجيد فهو، على العكس، نقيض المصادفة، فالكاتب الحاذق هو الذي ينجح في السيطرة على كل الاحتمالات: إن العمل الأدبي "الحقيقي" (Chef d’œuvre) هو الذي ينتج شكلاً ضرورياً يكون فيه كل شيء في مكانه الخاص والمستحق، والمتطابق تماماً مع السياق ويعمل وفق منطق مقنع ولا خلل فيه. غير أنه لا يمكن الاكتفاء بالسيطرة "المنطقية" وحدها، صحيح إنها شرط لازم، لكن العمل يبقى مع ذلك ناقصاً، إنه يعني الذهول عن رؤية العمل ككل، وهو ليس عملاً أدبياً، إلا من زاوية الضرورة الشكلية، وهو ما لا يسمح بمعرفة مصدر المتعة فيه، أي بمعرفة الأساسي فيه، ومصدر المتعة في العمل الأدبي، لابد أن يصدر عن" بلبلة الضرورة". والواقع أنه فيما يتصل بهذا الأمر، فنحن عموما مع صنفين من الكتاب:
أولاً: من هم في حاجة إلى برمجة دقيقة لكتاباتهم، الذين يُخصِّصون فترة للتفكير والبحث والاسترشاد والتوثيق، قبل أن يشرعوا في الكتابة، وهم يرون أن العمل الأدبي لا بد أن "يعالج" موضوعاً ما من وحي أحداث الساعة (كالهجرة العلنية أو السرية أو الحرب أو الفقر أو العهارة أو الإجرام). ثم يضعون تخطيطاً أو برنامجاً شاملاً لكل صغيرة وكبيرة.
ثانياً: صنف يعمل على نحو أقل برمجة وبأقل ما يمكن من التخطيطات حتى الإجمالية منها والمسودات التحضيرية..، غير أنه يبقى في حاجة إلى نواة جنينية، (عنواناً ما، مثلاً). هناك من لا يمكن أن يبدأ الكتابة قبل أن يعثر على العنوان، فالعنوان هو نصيب "الإلهام" (أو المصادقة) في العمل الأدبي، يقول كاتب فرنسي هو (جيونو): "يجب إيجاد العنوان، لأنه هو البيرق الذي علينا أن نتوجه إليه، والهدف الذي يجب إدراكه، وتفسيره من ثم، .. فكل ما يجب أن يكتب لاحقاً يجب أن يجعل العنوان يعني شيئاً ما، يجب على الكاتب أن يعمل على حل لغزه (أي لغز العنوان)، وأن يعمل أيضاً على إخفاء الضرورة التي هي "هبة المصادفة". ولدينا كتاب لا يتمكنون من كتابة كتبهم قبل أن يجدوا الصفحة الاستهلالية التي يكون العثور عليها في حاجة إلى ركام من التسويد، حيث تشكل الصفحة الأولى ضرورة، لا يبقى الكتاب ممكناً إلا بواسطتها، وهي النواة والبذرة التي ستنمو على نحو تلقائي، وتلافياً لإعطاء الانطباع بالقصد والصّنعة وإعمال التفكير... قد يتدخل شيء من الاحتمالية في اكتشاف الصفحة الأولى، والذي تم بكامل التلقائية، غير أن "الصّيْدَ" النهائي والذي هو العمل الأدبي يصدر عن ضرورة داخلية لا شعورية (استيهامية)، ويظل يوجه انتباه الذات الكاتبة وجهة خاصة.. وأخيراً، فإن ما تبقى يظل هو التحرير الذي ينهض بتحويل المصادفة، والتي صار الكاتب يعتبرها بعد اكتشاف ضرورة العمل: مصادفة خاطئة، تمثلت في "الهبة الأولى". وعموماً، يعمل أغلب الكتاب بواسطة برنامج ما ولو متخيل، ولذا يجب أن يجيء العمل وفق شكل هندسي صارم، ونتيجة صراع من أجل البناء، نعم نتيجة صراع خيض من أجل البناء ضد عبث اللامعنى المحيط، والخراب القائم، كما نصير في النهاية أمام شكل دال له منطقه الداخلي وضرورته الخاصة. بمجرد ما توضع "الخطاطة" كنقطة انطلاق، فإن عمل الكاتب سيقوم، ليس فقط على تطوير نواة يتخذها نموذجاً والانتقال من التسويدات والتحرير وفق تصور جديد، بوضع النواة ونموذج انطلاق موضع إشكال، وبإعادة حقن هذا الحد الأدنى من اللامعنى والاحتمال الذي من دونه، ستبقى البنية المنطقية للضرورة جامدة، وستجد أن الكتابة حينئذ صارت تتمتع بعلاقة جديدة مع هذا القدر من اللاّيقين، والذي من دونه أيضاً، يبقى كل يقين مفتعلاً. هل يمكن للأدب أن يتناول المصادفة كموضوع ويعمل على تحليلها من غير تجريد وانطلاقاً من أدواته الخاصة به وحده؟ أم سيقتصر فقط على وصفها؟ وهل يمكن للمصادفة أن تشكل محفزاً للوصف فقط؟ وهل الوصف هو العتبة النهائية التي لا يمكن للأدب أن يتجاوزها؟ وإذا كان الوصف هو العتبة النهائية، فهل يمثل تدنياً معرفياً؟! يتميز الأدب بالتلقائية والعفويةأولاً، لكنه أيضاً يسبقه تنظير وتجريد، قد يلجأ إلى شخوص تنهض بحدث ما، فضلاً عن كونه يتصف بخط، أو بعدة خطوط بيوغرافية، أي بما يصير الحياد معه صعباً. غير أن مهارة الأديب تتجلى في إيهامنا بالحياد وفي إضفاء الكثير من الضرورة على ما يبدو أنه محض مصادفة. فيما يتعلق بالمصادفة، أيضاً، داخل العمل الأدبي، فإن لقاء صدفوياً ما، أو أي حدث من نفس النوع، يمكن أن يعالج باعتباره نتيجة، لتلاقي أو لتقاطع مجموعة من الأهداف العرضية أو أن يعالج (اللقاء) باعتباره نتيجة لأهداف متخفية أو نتيجة "مصادفة موضوعية" مثلما يقول (السرياليون)
خلاصة..
تنتج أية حكاية عن سلسلة من المصادفات التي تنتهي بتكوين منطق، التعامل مع هذه المصادفة باعتبارها لعباً على أقدار يتوقف على حذاقة الكاتب، وعلى تصوره للعالم، غير أن المشكل يبقى هو الوقوع في التقريرية والمباشرة. سيطرح أكثر، وبشكل خاص، على الكتاب الذين يسعون للبرهنة على "أطروحات"، (وحيث الأحداث من فرط موضوعيتها وعلميتها قد تبدو عبارة عن سلسلة من المصادفات)، يقوم الكاتب بعملية اختيار في خضم ما لا نهاية له من الإمكانات، مثله مثل إله (لايبنتز) الذي يمارس الحساب ويجعله جوهراً يوجد وسط ألف جوهر آخر ممكناً ويلتمس منه الحق في الوجود. في مقابل ذلك فإن الكاتب الذي يفرض على نفسه إكراهات تشكيلية، يريد أن يصل إلى نفس الهدف، ألا و هو بناء أفضل العوالم الأدبية الممكنة، إن مسودات كتاب ما تصل إلى عشرين نسخة مختلفة في المرحلة الأولى، حيث نجد في المسودات الأخيرة تباعداً أو حتى تناقضاً للحكاية نفسها التي انطلق منها الكاتب، فتتعدد الإمكانات وتتقاطع وتتسع ممتدة إلى أقصى الحدود (يقتصر الحديث هنا عن الكتاب الذين ينطلقون من مسودات)، غير أن هناك لحظة تتقلص فيها هذه الإمكانات، وتتضاءل الحدود بين الاختيارات، وتحت تأثير إكراه أشمل فإن شيئاً يتم اختياره، أو هو يختار نفسه وسيكون هو النص. يمكن القول أثناء اللحظة التي يتبلور فيها النص، بأنه لم يعد هناك كاتب، أو أن الكاتب في لحظة ما، يصير هو الأداة التي تختار النص فقط، كما لو أن النص في النهاية قد عمل على تسخيره! فتصير المسودة التي كانت من تأليفه أقل أهمية، من التنظيم الأخير الذي يحتاجه العمل الفني، والذي يجد الكاتب نفسه إزاءه غير حر في أن يجري عليه تعديلا.. من جهة أخرى، فلو لم يكن هذا الكاتب بعينه لما كان مثل هذا النص الذي لا يمكن فصله بالمرة عن نتاجه ككل. وبعد، فقد آثرنا أن نترك الموضوع، الذي نعترف بأننا لم نفه حقه، لأنه متشعب ومفتوح على مختلف العلوم والفنون والآداب، و"لأن كل ما يوجد هو في النهاية ثمرة للمصادفة وللضرورة معا"، مثلما يقول (ديمقريطس)، مفتوحاً ومن غير خاتمة. تجدر الإشارة أخيراً، أننا اعتمدنا في كتابة هذه "التأملات" على:
1. كتاب "le hasard aujourd’hui"،وهو من إعداد (E.Noel)، ويتضمن 15 حواراً راديوفونياً تم بثه في إذاعة "فرانس كولتور"، في برنامج يحمل اسم "المصادفة اليوم"، جمعت مواده في كتاب هو الكتاب المشار إليه أعلاه.
2. المجلة العلمية: "Pour la science " عدد خاص بالمصادفة في العلوم.