صدر حديثاً (2016م)، عن دار المدار الإسلامي ببيروت، كتاب "العدالة والعقاب؛ في المتخيل الإسلامي خلال العصر الوسيط"، للمفكر الألماني المتميز (كريستيان لانغ Christian Lange)، وقد حصل لانغ على شهادة الدّكتوراه، من جامعة هارفارد عام 2006م، وهو باحث متخصص في علم الأديان المقارن، والدّراسات الإسلاميّة.
والكتاب، في الأصل، رسالة دكتوراه أنجزها لانغ بجامعة هارفارد الأمريكية، والعنوان الأصلي لها، هو: Justice, Punishment and the Medieval Muslim Imagination ويمثل الكتاب؛ دراسة لنظرية العقاب وطرائق تطبيقه في العصر الإسلامي الوسيط، وتفسير استعمال العنف تجاه المسلمين، وبيان الدّور الذي اضطلع به عقاب الدولة في رسم الخط الفاصل بين المجالين (الخاص والعام)، والسؤال عن الاستراتيجيات المتّبعة للتصدي للمعاناة الناجمة عن العقاب.
وتندرج الدراسة في إطار المباحث التي تهتمّ بالحضارة الإسلامية، في فقهها وتاريخها، ويفتح الباحث زاوية نظر جديدة؛ تنظر في المتخيل الجمعي، وطريقة التمثل التي كان يقوم عليها تصوّر العلماء، والسلاطين، والعامّة، للعدل وللعقوبة في الحياة الدنيا، وفي الآخرة. ويهتم الباحث، فضلاً عن ذلك، بأثر الواقع السياسي والاجتماعي في أحكام القضاة والفقهاء، وفي طرائقهم في فهم النصوص التأسيسية وتأويلها.
وقد حدّد المؤلف توجّهات الكتاب، وقسّمها إلى مستويات ثلاثة: المستوى الأول: اهتم فيه بتحديد الفضاء الذي يجري فيه العنف العام في تاريخ المجتمعات الإسلامية؛ ذلك أنّ مسألة العنف شغلت المؤرّخين، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس، على امتداد عصور كثيرة، وكان الدارسون الغربيّون لقضيّة العنف في تاريخ المجتمعات الإسلامية، يوجّهون اهتمامهم، عادة، إلى دراسة أشكال العنف التي يمارسها المسلمون ضد غير المسلمين، ولا سيما، في ميدان العنف الديني المشروع؛ كما في نظرية الجهاد العسكري وممارسته، وفي الشروط الشرعية المتعلّقة بالذمّيين والمرتدّين، وقد قام المؤلّف بتصحيح تلك الرؤية.
أمّا المستوى الثاني؛ فقد لخّص فيه الكاتب صورة النار، التي كانت حاضرة في إسلام العصر الوسيط، كما سعى، أيضًا، إلى تحديد الوظائف النفسية، والاجتماعية، والسياسية، لمثل هذه الأدبيّات.
أمّا المستوى الثالث؛ فقد هدف إلى بلوغ فهم أفضل لدور الفقهاء في صياغة المواقف إزاء ظاهرة عنف الدولة، وكانت سلطة أحكام الخطاب الفقهي يُحسَب لها ألف حساب لدى الحكّام، سواء أكان الفقه، حينئذ، يغضّ النظر عن أفعال رجال السياسة، أم كان يعارضها معارضة تامّة.
وحاول لانغ في الكتاب، الربط بين الاهتمام بالمتخيّل الإسلامي، للجنّة والنار والعقاب، في ما يسمّى بالقرون الوسطى، وحاول الباحث ربط أحكام الفقه المتعلّقة بالجنايات؛ فدرس صدى الأحكام الأخروية في أقضية السلاطين، والقضاة، والمحتسبين، ومدى تأثيرها فيها.
وكان لانغ معنيًّا في بحثه بعدد من الإشكاليات المركزية، منها: كيف كان يُفسّر استعمال العنف تجاه المسلمين؟ وكيف كان يُسوَّغ في إسلام العصر الوسيط؟ وكيف كانت الدولة القائمة، ممثّلة في أجهزتها، تسعى إلى التمييز بين الفضاءين، العامّ والخاصّ، في إقامة العقوبات؟ وما الاستراتيجيات المتّبعة للتصدي للمعاناة الناجمة عن العقاب؟ أسئلةٌ نجد إجاباتها في دراسة كريستيان لانغ المعمّقة لظاهرة العقاب، الإلهي منه والبشري، في المجتمع الإسلامي، بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، ويبحث الكتاب في العلاقة بين الدولة والمجتمع في إقامة العدالة، ومواقف المسلمين من جهنّم، والعقوبات المنتظرة في الحياة الأخرى، والأبعاد الشرعية للعقاب، وكيفية تسويغ الفقهاء المسلمين لمختلف أنماط الجزاء، أو تقييدهم لها، أو رفضهم لها رفضًا تامًّا.
إنّ المقاربة المتعدّدة المداخل والمعرفية المتبنّاة في هذه الدراسة، والتي تستند إلى تنوّع كبير في المصادر الفارسية والعربية، تسلّط الضوء على التفاعل بين النظرية والممارسة في الفقه الجنائي الإسلامي، وبين السلطة التنفيذية والمتخيل الديني للمجتمع الإسلامي في العصر الوسيط عمومًا.
ولا تهتم الدراسة بسِيَر الملوك والسلاطين؛ بل تتنزّل في إطار، ما يسمّى بالتاريخ الكلّي؛ إذ تقف، فضلًا عن التأريخ للطبقات العليا، على صورة المهمّشين، وكيف تفاعلوا مع، ما نسميه اليوم، بعنف الدولة المشروع المتمثّل في قوانينها وعقوباتها؛ فالكتاب يُعنى بالعدل من منظور السلطان وعالم الدين، ولكنه يُعنى، أيضًا، بصورة العدل من منظور العامّة الدهماء.
وقد توّصل الكاتب إلى أنّ العقاب في الواقع الإسلامي، لم يكن يكرّس أحكامًا فقهية نظرية فحسب؛ وإنما، وعلى وجه الدقة، هو: فِعْلٌ يؤثّر فيه الأشخاص الذين يقع عليهم فعل العقاب، ويؤثر فيه، أيضًا، الفضاء الذي يجري فيه العقاب؛ فللفضاء الخاص، وهو فضاء عِلْيَة القوم، نواميسُه. وللفضاءات العامة قوانينُ أخرى، تختلف عن الأولى اختلافًا جذريًّا في الكثير من الأحيان. ولذلك مثلًا؛ كان للعامة سجونهم، ولِعِلْيَة القوم سجونهم، وكان إخفاء ما يجري في القصور والبلاطات، جزءًا مهمًّا من هيبة الدولة.
وقد ناقش الكاتب قضية جوهرية أصبحت متفقًا عليها، مفادها: أنّ الفقه الإسلامي ليس منظومة نظرية جاهزة ومعزولة عن الواقع؛ بل إنّه فقه على صلة وثيقة بمعطيات الواقع الإسلامي المتغيّر أبدًا.
ويحاول الباحث أن يعقد الصلة بين العدل والعقاب في الدنيا والآخرة من جهة، والأحكام الفقهية التي حدّدها الأصوليّون والفقهاء والمفتون للمكلّفين من المسلمين من جهة أخرى.
وقد قامت الدراسة على منهج، تعدّدت مداخله ومشاربه، ولم يهتم بالثقافة الإسلامية العلمية فحسب؛ إنما اهتم، أيضًا، بكتب التاريخ التي أرّخت لليومي، ولما تعانيه الطبقات الاجتماعية المسحوقة من صنوف العقاب، ولِمَا كان يربطها من علاقة بالعالم والسلطان أو من يمثّله من أعوان، لتحقّق توازنها، ولتحدّد معنى وجودها في الحقبة التاريخيّة الوسيطة.
وقد هدفت الدراسةُ إلى توضيح كيفية تفكير طوائف من المجتمع في العقاب، بوصفه ظاهرة اجتماعية.
جاء هيكل الكتاب مقسّمًا؛ إلى مقدّمة، وستّة فصول: المقدّمة اشتملت على السياق التاريخي (The historical context)، الذي اختاره الباحث ليمثّل الدراسة؛ فكان اختياره لحقبة السلاجقة (Saljuqs) في العراق وفارس، خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين/ الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين، وقسّمها إلى ثلاثة أجزاء، للحصول على خلاصة تاريخية؛ أوّلها: حقبة الغزو (ما بين عامي 426هـ/ 1055م)، وثانيها: حقبة التماسك وقيام الحكم المركزي (447هـ/ 1055م - 511هـ/ 1118م)، وثالثها: حقبة التشتّت ومحلّية الحكم السياسي (511هـ/ 1118م - 590هـ/ 1194م).
وبرّر اختياره لفترة السلاجقة، باعتبارها حقبة تمثّل مرحلة تكوينيّة مهمّة في نموّ الحضارة الإسلامية، وتسبّب اعتلاؤهم سدّة الحكم في تغييرات أساسية؛ إذ حاول الحكّام السلاجقة الأوائل، إعادة تأسيس إدارة مركزية قويّة، تقوم على عدد من المفاهيم الأساسية: السلطة المؤقّتة للسلطان إزاء الخليفة، والسيطرة العسكرية عن طريق نظام إقطاعي مركزي التوزيع، والإشراف الدقيق على النظام التعليمي، ثم تأسيس بيروقراطية ذات أغلبية فارسية عالية التدريب، وقد تعرّض لانغ إلى الظروف العامّة للعقاب زمن السلاجقة، وكيف أثّرت التطوّرات السياسية في إدارة العدل والعقاب، خاصّة مع ضعف الخلافة العبّاسيّة.
وتناول الفصل الأول: "سياسات العقاب" (The politics of punishment )، وفيه تناول دوائر العقاب ومؤسّساته؛ فتعرّض الباحث للعقاب الخاصّ وحالاته، والذي تنوّع ما بين السجن في باطن قصر الخليفة حتى الموت، مثلما حدث لعميد الدولة (محمد بن جهير) وزير الخليفة المستظهر، كما كان هناك عقوبة الإعدام بالسيف؛ مثلما حدث للوزير شمس الدين بن نظام الملك، وإلى جانب القتل بالسيف، كان الخنق وسيلة أخرى خاصة لطبقة الخاصّة؛ مثلما حدث لقارود حاكم كرمان سنة 466هـ/ 1037م، أيّام السلطان ملك شاه، كما كانت عقوبة إتلاف البصر من العقوبات المحدّدة للخاصة، باعتبارها وسيلة إقصاء سريع عن اللعبة السياسيّة، وقد استعرض الكاتب العقوبات التي تصدر بحقّ القاضي المذنب، وكذلك العقوبات التي تطال رجال الشرطة، ورجال الحسبة (muhtasib) Inspectors.
ثمّ جاء الفصل الثاني للدراسة بعنوان: "أنواع العقاب"، والتي تنوّعت وتعدّدت، ومنها؛ الإعدام بحدّ السيف (Execution by the sword)، والصلب (salb) Gibbeting على جذع أو عمود من الخشب، كما كان الصّلب، أحيانًا، للجثّة بعد الإعدام الفعلي، وكانت عقوبة الصلب تتعرّض لها كلّ الطبقات الاجتماعية، خاصّة، المجرمون والأشخاص المتّهمون بانتسابهم إلى الباطنية، وكذلك، الصلب يكون لقاطع الطرق المقترن بالقتل، وكانت هناك عقوبات أخرى، مثل؛ الرمي بالحجارة، والإغراق، والإحراق، والإلقاء من أعلى شاهق، والإبعاد والنفي، كما كان بتر الأعضاء من العقوبات على السرقة، وقطع الطريق غير المقترن بالقتل، وكان بتر الأعضاء يتمّ على الملأ.
كما كانت هناك عقوبات أخرى، منها؛ التعذيب، والضرب، وسوء المعاملة، وكان أغلبها للحصول على الاعتراف بالجريمة، وكان التعذيب يتمّ باستخدام السوط وأداة خشبيّة تسمّى (العقابين): وتتكوّن من قطبيْن يعلّق بينهما المعذَّب، وهناك أيضًا؛ (الفَلْقة): وهي خشبة تفلق لأرجل اللصوص الدعار ويقطرون فيها. وكان الجلد (Flogging) من العقوبات الشائعة، ويتمّ بالسياط، والعصا، والمقاريع.
كما كانت عقوبة التشهير (tashhir) Shaming أو التجريس من العقوبات المعروفة، وهي: الطواف المذلّ بالمذنب في أرجاء المدينة، على ظهر حمار أو بقرة أو جمل، مع استخدام الأجراس أثناء الطواف، أو تُثبّت أجراس في رأسه، ويكون الطواف مرورًا بقصر السلطان، وداخل الأسواق والساحات العامة، ويكون رأس الجاني، إمّا عاريًا بطريقة مخزية، أو مغطّى بغطاء حقير، ووجهه ملطّخ بالفحم أو السخام.
أمّا الفصل الثالث؛ فقد خُصِّص لدراسة العقاب الأخروي (The eschatology of punishment)، وبنية الجحيم، وحدّد فيه قائمات بالكبائر من الذنوب وفق القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ومن الكبائر التي تناولها؛ الشرك بالله، والقتل، والزنا، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والربا، والسحر، والارتداد، والإلحاد، والهروب من الزحف، والقتال، وأكل مال اليتيم.
كما تناول تفسيرات الخوف من العقاب، ومن النار، وتصوّرات الجحيم عند المسلمين من وجهة نظر الدراسات الغربية، وشكل جهنّم وموقعها، وأسماء الجحيم وما يحدث داخلها، وتناول حجم جهنم، وروائحها، وألوانها، وخصائصها المناخية، وخصائصها الجغرافية أيضًا، وكذلك، نبات الجحيم وأشجاره.
وجاء الفصل الرابع تحت عنوان: "مخلوقات الجحيم وعذاباتها"؛ إذ تعرّض فيه لملائكة الجحيم، والحيوان في الجحيم، وأنواع العقاب فيه، كما تناول الوظائف البنيوية لمتخيّل الجحيم، والأبعاد الوعظية للجحيم في المتخيل الإسلامي، وتعرّض للعوامّ في الجحيم، ورجال الدين، والساسة ونوّابهم، ورجال الشرطة، والتشهير والمظاهر الطقوسية له، وكذلك؛ العار والتشويه في الجحيم، كما تناول الأبعاد الإجرائية لمتخيّل الجحيم عند المسلمين.
ثم جاء الفصل الخامس؛ فكان بعنوان "ضبط الحدّ في التشريع السُنّي"، متناولًا فيه القياس والحدود في التشريعيْن الغربي والإسلامي، وتناول رفض الحنفية للقياس في ما نصّت عليه الأوامر الإلهية، وتعرّض الكاتب للفروق الاصطلاحية في القياس بين الحنفية والشافعية، وتحدّث عن اللواط (liwat) Sodomy، والزنى (zina) fornication في فروع الفقه الحنفي، والحجج المسندة إلى الأحاديث النبوية، كما تحدث عن الخصوصية ومبادئ الأخلاق.
أما الفصل السادس والأخير؛ فتناول "التعزير والفضاء العام" Discretionary punishment (tazir)، والتعزير: هو العقوبة المشروعة بغرض التأديب على معصية أو جناية لا حدّ فيها ولا كفارة، أو فيها حدّ، ولكن لم تتوفّر شروط تنفيذه؛ كالقذف بغير الزنا، وكالمباشرة في غير الفرج، وغير ذلك؛ فلا يقوم بتعزير المذنب إلّا الحاكم، أو السيّد الذي يعزّر رقيقه، أو الزوج الذي يعزّر زوجته، والمعلّم في تأديب الصبيان، والأب في تأديب ولده الصغير. والتعزير حقّ لوليّ الأمر أو نائبه، ويقسّم التعزير إلى: تعزير بالقول، وتعزير بالفعل. والعقوبات التعزيرية ضربان؛ أحدهما: ما يتعلّق بالأبدان؛ كالقتل والجلد. وما يتعلّق بالأموال: كالإتلاف، والتغريم. وما هو مركّب منهما: كجَلْد السارق من غير حرز، مع إضعاف التغريم عليه. وما يتعلّق بتقييد الإرادة: كالحبس والنفي. أمّا الضرب الآخر من العقوبات التعزيريّة؛ فيتعلّق بالمعنويات: كالتوبيخ والزجر، وكذا، التعزير بالتشهير، أو العزل عن المنصب.
ومن أسباب التعزير لفعل محرّم: الاستمتاع بالأجنبية بما لا يوجد الحدّ، والسرقة التي لا قطْع فيها، وكذا الغصب، والانتهاب، والاختلاس، والقذف بغير الزنا، واللواط، وسبّ الصحابة أو أحد منهم، والـرشـوة: وهي ما يعطيه الشخص لحاكم أو نحوه لإبطال حق أو إحقاق باطل، وشهادة الزور False testimony (shahadat al-zur): وهي الشهادة التي تقوم على الكذب والتهمة للآخرين، والتزوير: وهو الميل بالشيء عن حقيقته بزيادة، أو نقص، أو تغيير، أو تقليد.
وتناول في الدراسة:
التعزير واللواط (tazir) (Discretionary punishment and sodomy)، والتعزير والمعاصي العمومية، وتحدّث في الفصل نفسه، عن شهادة الزور؛ بوصفها جناية على المجال الخاص، وكذبًا على الله، وتناول، كذلك، التشهير في الفقه الإسلامي، وتسويد الوجه (taswid al-wajh) (Blackening of the face)، وتجريد الثياب (tajrid al-thiyab)، والعلامات الخاصة Stripping of clothes and special signs، والضرب (darb) (Beating)، وإعلان الجرم (tarif/tasmi) Announcing the crime.
أمّا تقييمنا للكتاب: نرى أنّ الباحث عند محاولته عقد الصلة بين العدل والعقاب في الدنيا والآخرة، من جهة الأحكام الفقهية التي حدّدها الأصوليّون والفقهاء، قد اعتسف كثيرًا في حكمه على العديد من الأحداث في تلك الفترة، وعمل على ليِّ عنق بعض الأحداث، لتتناسب مع هدفه الذي حدّده لنفسه؛ وهو أنّه اهتم بتحديد الفضاء الذي يجري فيه العنف العام في تاريخ المجتمعات الإسلامية، وأكد على أن المسلمين ممارسين للعنف أكثر من كونهم ضحاياه، وكانت مشكلته، بطبيعة الحال، رؤيته الاستشراقية، ولم يضع طبيعة العصر في حسبانه، وتبنّى حكمًا عامًّا، يرى أنّ المجتمعات الإسلامية، مارست العنف على طول تاريخها، ونجد أن هذا النوع من الكتابات، وما يثير حفيظة عدد من رجال الدين من المسلمين، ويزعج بعض الباحثين، هو: أنّ البحوث الغربية المتعلّقة بالإسلام، بوصفه تاريخًا وفكرًا ودينًا، فيها ما يعكس كيدًا، ويحمل تحريفًا، ويعبّر عن رغبة في تشويه صورة الإسلام، في الماضي والحاضر، وهذا ما أكده مترجم الكتاب.
وضع لانغ هدفًا لبحثه، ركّز فيه على فتح ملف شائك في العصور الوسطى، بصفة عامة، ألا وهو: ملف العدالة والعقاب في المُتخيل الإسلامي خلال العصر الوسيط، بوصفه يمثل حلقة من حلقات تاريخ الأفكار السياسية في المجال الإسلامي الوسيط، ويبلور سياسة عمليّة امتزج فيها الديني بالسياسي؛ فكانت (العدالة) عنوانًا لمسعى حاول فيه كاتب السلطان التوفيق بين الديني والسياسي، أو تسخير الديني للسياسي، وأكّد أنّ الواقع التاريخي، في أغلب الأحوال، يؤكد وجود اختلاف بين أحكام السياسة وأحكام الشريعة.
كما ركّز لانغ على الدور البراغماتي النفعي للفقهاء، واعتبر أغلبهم فقهاء سلطان، ولم يشر إلى جهود فقهاء آخرين، كان لهم دورٌ بارزٌ في مقاومة السلطان، ولم يخشوا في الله لومة لائم؛ فأبرز لانغ دور الفقهاء في صياغة وتبرير المواقف إزاء ظاهرة عنف الدولة، وبيّن كيف كان يفسّر العنف القائم ضدّ المسلمين، وكيف كان يسوّغ في الإسلام القروسطي من جانب بعض الفقهاء.
ويُؤخذ على لانغ، أيضًا، أنه على رغم تمكّنه الواضح من العديد من مفاهيم النصّ الديني، ومقارباته الفقهية، إلّا أنه تسرّع كثيرًا في ما أجراه من مقارنات بين القانون الجنائي الغربي، وأحكام الجنايات في الإسلام.
ويُحمَد له؛ اهتمامُه بالدراسات التي اهتمت بالعنف أو الجنس في المجتمعات الغربية، ليستأنس بها، من أجل فهم مثل هذه الظواهر في المجتمع الإسلامي، باعتبارها علومًا تدرس النفس البشرية، بصرف النظر عن الدين، أو العرق، أو اللون.
كما تميزت الدراسة بإلقاء الضوء، أيضًا، على صورة المهمّشين، وكيف تفاعلوا مع ما نسميه اليوم: عنف الدولة المشروع؛ المتمثّل في قوانينها وعقوباتها؛ فالكتاب يُعنى، إذن، بالعدل من منظور السلطان وعالم الدين، ولكنّه يُعنى، أيضًا، بصورة العدل من منظور العامّة الدهماء. ومن مميّزات الدراسة؛ اهتمامها بأثر الواقع السياسي والاجتماعي في أحكام القضاة والفقهاء، وفي طرائقهم في فهم النصوص التأسيسيّة وتأويلها.
ومن الجوانب الإيجابية التي أشارت إليها الدراسة: اختلاف تطبيق العدالة حسب الطبقة، فمثلًا؛ كان للعامّة سجونهم وللأمراء سجونهم، وكان إخفاء ما يجري في القصور والبلاطات جزءًا مهمًّا من هيبة الدولة؛ فأبرز ما يمكن تسميته بالانتماء الطبقي للمذنبين من جهة، والفضاء الذي اقترفت فيه المعاصي من جهة أخرى، في مسائل تسليط العقوبة، وكأن ثمة وهمًا، هو: أن الأحكام الفقهية وصفة جاهزة، يكفي أن يحفظها القضاة، حتى يوقعوا العقوبات على العصاة، وهو ما يمكن توصيفه؛ بأنه شكل من أشكال فساد السلطة السياسية، وترسيخ ثقافة الرضوخ لأحكام السلطان، دون التقيّد بأحكام الشريعة، وهو ما يراه العديد من المفكرين، ويقرّون أنه لا علاقة بين الأخلاق والسّياسة، لذلك؛ يجب إبعاد الاعتبارات الأخلاقية تمامًا عن العمل السّياسي، وهو ما يذهب إليه صراحة المفكّر الإيطالي (نيقولا ميكيافيلي) (1469م - 1527م)، في كتابه "الأمير"؛ حيث يرى أنّ مبدأ العمل السّيَاسِي، هو: (الغاية تبرّر الوسيلة)؛ فنجاح العمل السّيَاسِي، يكون في ما يحقّقه من نتائج ناجحة، بغض النظر عن الوسائل المتبعة في ذلك، حتى وإن كانت لا أخلاقية.
جاءت خاتمة الكتاب هزيلة للغاية، لا تتناسب مع عمق الدراسة وأفكارها، وكنّا نتوقّع أن تكون خاتمة جامعة مانعة بلغة المنطق، يخرج فيها لانغ بأفكار ورؤى وتصوّرات حول العدالة، والعقاب، وأفكار واستنتاجات حولها، إلّا أنه اكتفى بمجرّد سرد تاريخي سريع لفترة الدراسة، وقدم رأيه في الدراسة، على استحياء؛ بأنّها بيّنت أن العقاب في ظلّ حكم السلاجقة، كان ممارسة اجتماعية أساسية، وأنهم جعلوا من العقوبات العامة (تكتيكًا سياسيًّا) للبرهنة على شرعية سلطتهم، ولتعزيز مركزهم في الحكم.
ونتفق، تمامًا، مع مترجم الكتاب (الدكتور رياض الميلادي)[1]، في أنّ أهمية الكتاب تكمن في أنّ كريستيان لانغ، قام على منهج تعددت مداخله ومشاربه، وفي أن صاحبه لم يهتم بالثقافة الإسلامية العلمية فحسب؛ وإنما نظر، أيضًا، في كتب التاريخ التي أرّخت لليوميّ، ولما تعانيه الطبقات الاجتماعية المسحوقة من صنوف العقاب، ولما كان يربطها من علاقة بالعالم والسلطان، أو من يمثله من أعوان، لتحقق توازنها، ولتحدد معنى وجودها، في حقبة تاريخية قلّما اهتمت بها الدراسات العربية والإسلاميّة.