حسين فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 473 معدل التفوق : 1303 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 18/12/2011
| | التوّجه الفكري في أدب فرانز كافكا ... | |
لتوّجه الفكري في أدب فرانز كافكا ... عندما نركّز البحث في الأفكار التي تبنّاها فرانز كافكا في بعض أعماله الأدبية والتي كانت محوراً للجدل المحتدم حول علاقتها بانتمائه لمباديء الصهونية أو رفضه الكامل لها, نجد أن الرجل (التشيكي اليهودي الأصل) لم يترك مساحة كافية لحسم النتيجة , وذلك من خلال استخدامه إسلوب (الرمزية بعيدة المغزى) في أعماله لتكوين الفكرة العامة داخل أطرٍ ضبابية , حيث كانت بمثابة إشارات وامضة تلقي الضوء الضئيل على هامش الفكرة لتدفع الباحث إلى التوغل في ضبابية النص الأدبي والغوص إلى أعماقه للخروج بمجموعة أفكار واستنتاجات متمايزة الإحتمال , بدليل أن النقاد والمفكرين العرب انقسموا إلى فريقين متضادين تماماً في تقييم أعمال كافكا وتحديد أيدولوجيته الفكرية, فذهب الفريق الأول إلى أن كافكا كان يتبنى ويدعم الفكر الصهيوني في معتقده وإتجاهاته , بل وأن الأفكار الكافكاوية أصبحت رافداً رئيساً يغذي هذا التيار , بينما أكد الفريق الثاني على أن أفكار كافكا كانت مناهضة للتيار الصهيوني ورافضة لتوجهاته بشكل قاطع , وأنه ثمة فرق كبير ما بين اليهودية والصهيونية , وأن كافكا كان من أتباع اليهودية السمحة التي تنشد السلام والخير وصاحبة الفكر المستنير الذي يبحث عن العالم المثالي الأفضل.
ولكيّ نصل إلى نتيجة يقينية ودقيقة في هذا الخضم , يجب مراعاة الموضوعية والحيادية , والاستشهاد بالوقائع التاريخية والسياسية التي وقعت في فترة حياة كافكا والزاخرة بالأحداث الجسيمة , حيث كانت الأصابع الخفية تسطّر خارطة جديدة للعالم , متزامنةً مع بزوغ تيّارات وحركات كبرى مثل الحركة الاشتراكية والإمبريالية والثورات التحررية الكبرى الخ.. وكانت كلُّ فئة تحثّ الخطى في حجز مكانتها على هذه الخارطة , سواءاً كانت على شكل دولة أو تيار أو حركة أو جماعة منظمة , ومن ضمّنها طبعاً الجماعات اليهودية المتفرقة والمنتشرة في أرجاء الكوكب والتي تتضمن الصهونية التي كانت بمثابة المحوّر الجامع والمنظم لهذه الجماعات , وكان هدفها الرئيس هو الإلتقاء والإتحاد والأنتقال من حالة الشتات إلى الإستقرار وخلق كيان مستقل وموحد ذو نفوذ عالمي رفيع واقتصاد عالي المستوى.
ولإلقاء الضوء على أهمّ العوامل التي تأثر بها أدب كافكا وفكره , والتي يمكن من خلالها تحديد هوية ميوله الفكرية , فإنه يتوجب علينا إلقاء نظرة سريعة على :
نشأته :
نشأ كافكا في تشيكوسلوفاكيا ( سابقا ) ضمن الأقلية اليهودية هناك في عائلة ذات اهتمامات تجارية كمعظم حال اليهود , وبدأ نتاجه الأدبي في الظهور في مطلع القرن العشرين , في ذلك الوقت كانت الاتصالات بين اليهود على مختلف فئاتهم من الصهاينة الكاهانا والهجاناه إلى اليهود الشرقيين (المزراحيون) مثل الشكناز والسيفارديم إلخ.. حيث كانت الإتصالات بينهم على أوجها عبر العالم وفي أوروبا على وجه التحديد , وبما ان الدول الكبرى المسيطرة والتي تصنع القرارات وتختلق الحروب المدمرة في جسد المجتمع العالمي آنذاك , إذ كانت تفرض قيودا على تحركات الجماعات اليهودية , بالإضافة ألى وجود بعض الطوائف المسيحية المعادية للسامية في أوروبا , فقد كانت التشيك التابعة للامبراطورية المجرية حينها , إحدى نقاط الإرجاع والتجمع لهذه الجماعات والوكر الآمن الذي يفسح لها المجال للتخطيط والتواصل , إضافة إلى موقعها الاستراتيجي المميز في المنطقة الأوروبية , وهذا ما ساهم في إيجاد أرضية خصبة لكافكا تمكنه من زراعة افكاره (والتي اتّسمت بالسوداوية لدى بعض النقاد ) لتنمو داخل مناخات ملائمة تتوافق مع الأحداث السائدة في العالم آنذاك .
تعليمه وثقافته:
دراسة كافكا للقانون وحصوله على درجة الدكتوراة فيها عام 1906 كان لها أثرا كبيرا في إطِّلاعه على المتغيرات السياسية العالمية , وفي بناء علاقات متينة مع جماعات يهودية وشخصيات أوروبية وصحفيين من مختلف الجنسيات الأوروبية, كما انه كان مولعا بالثقافة اليشيدية اليهودية وبخليط آخر من الثقافة الألمانية والروسية وغيرها , وكان من أكثر المفكرين الذين قرأ لهم كافكا وتأثر بفكرهم : (يوهان غوته) و (فيودور ديستوفسكي) وغيرهم من أعلام الفكر الأوروبي , بيّد أن هذا التعمق في الفكر الأوروبي بمختلف اتجاهاته جعل من كافكا كاتبا يطلق العنان لفكره ويوجهه خارج نطاق المنهجية الفكرية الأدبية التي كانت سائدة قبل ذلك , مما أضفى لونا مميزا يمكن ملاحظته في أعماله وملاحظة ميّله إلى الرمزية كما في روايته القصيرة (مستوطنة العقاب) , والخروج عن المألوف في رواية ( التحوُّل ) و (المسخ ) واستخدامه سمات فنية متنوِّعة ومحدّثة في بناء النص وقولبة الفكرة , وإلى الإنتحاء إلى الغرائبية وزجِّها في متون بعض الأعمال الأدبية , كما ان جانب من أعماله كان يميل إلى الأسلوب الساخر من خلال تراكيب متناقضة استخدمها عامداً لهذه الغاية , وكان من المعروف عنه أنه كان يواجه صعوبة في اختتام وإنهاء العمل , لذا بقيت بعض الأعمال معلّقة وغير مكتملة , وهذا ما يبرر قصر النصوص الأدبية لديه , وإلى لجوءه إلى كتابة القصة القصيرة لبلّورة الأفكار العميقة بأقصر نصٍ ممكن , مع إعطاء هذا النص عمقاً مجازياً فيخلِّق صراعا خفياً بين الممكن واللاممكن.
اللغة والٍإسلوب:
أثرت اللغة وترجماتها في أعمال كافكا والذي نشأ في وسط يهودي يشجع أبناءه على التحدث باللغة الألمانية العليا إضافةً إلى اللغة اليشيدية , وتعلمّه العبرية في مراحل متقدمة من عمره , ساعد كل هذا في إبتداعه ضبابية الفكرة وسبر غور أعماقها , ووضعها في المنطقة الرمادية في وعي المتلقي , إذ نجد أنه برع في تعويم الأفكار (الأيدولوجية تحديداً) لتسبح بإتجاه التيار الأقوى مهما كان إتجاهه , ولتحتمل أكثر من تأويل , ولتتلائم مع إتجاهات فكرية متعددة حتى لو كانت متضادة . وهذا ما جعل النقاد والمفكرين يختلفون بشدة حول تحديد ميوله وتوجهاته الغير مباشرة ٍ.
العمل الوظيفي:
على خلاف عائلته التي امتهنت التجارة , فإن كافكا آثر العمل بالوظيفة , وقد عمل في احدى شركات التأمين الإيطالية في براغ ضمن النطاق القانوني , وكان ناجحا في عمله , وساهم هذا في إطلاعه على المصانع العسكرية واستعدادات الجيوش في الفترة الحارّة من الحرب العالمية الأولى , واطلاعه على التكنلوجيا المتطورة في ذلك الوقت , وقد ظهر ذلك جلياً من خلال وصفه الدقيق للآلة وطريقة عملها في روايته ( مستوطنة العقاب ) , كذلك يُذكر أنه حاول الانخراط في الجيش للمشاركة في الحرب الكبرى الطاحنة , لكنً تعرضه لمرض السلّ حال دون ذلك , وبعد تقاعده ساهم مع أقاربه في إنشاء مصنع للإسبست وكان الأول من نوعه في التشيك , إلا أنه أيقن لاحقا بأن العمل بات يأخذ الكثير من اوقاته المخصصة للكتابة , مما جعله يهمل العمل في المصنع ويعود للكتابة بشكل مكثف .
أصدقائه وعلاقاته الإجتماعية:
وبإعتقادي فإن هذا العامل هو الأكثر تأثيرا في سيرة كافكا الأدبية وفي توجهاته الفكرية, فقد تعرّف في بداية القرن العشرين إبّان فترة دراسته الجامعية بالكاتب الصحفي ( ماكس برود ) وهو تشيكي من أصول يهودية , وقد كان الأخير يقرأ له أعماله وينقدها ويشجّعه على الكتابة , وسرعان ما عرّفه بالكاتب والصحفي اليهودي الأصل فيليكس فيليتش ثم الأديب الألماني اليهودي أوسكار باوم والكاتب النمساوي اليهودي فرانز فيكتور فيرفل والذي كان متأثرا بالمذهب التعبيري , والفيلسوف الصحفي اليهودي (مارتن بوبر) وهو أحد مؤسسين الحركة الصهونية وصاحب صحيفة ( اليهودي) , كما كانت لكافكا لقاءات مع هذه الزمرة المثقفة من الجماعات اليهودية في بعض النوادي والصالونات الأدبية في التشيك , وهناك كان يناقش أعماله وأفكاره وخططه الأدبيه مع هؤلاء الأصدقاء . كان ماكس برود هو الصديق المقرّب إلى كافكا وكان ملازما له وبقيّ معه حتى مماته , حتى أن برود قام بنشر جميع أعمال كافكا التي لم تنشر , بعد وفاته بسنوات قليلة , بالرغم من وصية كافكا له بأن لا ينشر شيئا منها وأن يقوم بحرقها , إلا أن برود لم ينفذ الوصية لتخرج هذه الأعمال إلى دائرة الضوء من جديد , ولتعمل على شهرة كافكا في الأوساط الأدبية العالمية بعد موته , حتى أنها لاقت ترحيباً لدى الإشتراكية لاحقاً والتي رفضت أعمال كافكا في بداية الأمر .
أما بعد,,
بعد إستعراضٍ سريعٍ لهذه العوامل المؤثرة نسبياً في فكر كافكا وتوجهه, وكذلك بربط المتغيرات والأحداث المؤثرة في حياته ببعضها البعض , وبالاستشهاد بالوقائع التاريخية الموثقة , وبعيدا عن استحضار فكرة أو (نظرية المؤامرة) والتي هي في حقيقتها المبتكرة (عقدة المؤامرة) , وللوصول إلى استنتاجات وربما نتائج أكثر عقلانية باتباع التفكير المنطقي الإستدلالي السليم وبموضوعية قدر الإمكان (لأنه لا يوجد موضوعية حيادية تامّة) وبمعتزل عن الرغائب والعواطف الغريزية والأهواء الشخصية التي ولدت قبل التأريخ بين أبناء العمومة, وتواكب أحداث التصادم التي زادت من اتساع هالة الكراهية بين اليهود والعرب على مدى قرون طويلة . بعيدا عن هذا كله كان كافكا برأيي من أذكى الأدباء الذين احتالوا على المتلقين والمفكرين والنقاد بجميع أصولهم ومستوياتهم الثقافية والفكريةٍ , فقد أسرف في تعتيم معتقده الديني والمبدئي والفكري , لدرجة أن مترجم أعماله ( ادوين موير ) قال عنه أنه روائي مسيحي النزعة , بينما اعتبره المفكر ( جونتير اندرياز) متشككا في معتقداته الدينية والميتافيزيقية , أما الشيوعيون فاعتبروه منتميا لمبادئهم حتى النخاع , وهذه التضادات حول معتقداته وتوجهاته , جعلته خارج نطاق التصنيف , وجعلت فكره المتدفق يأبى الاحتجاز داخل تصوّر معيّن .
برأيي أن كافكا الغير مباشر كان يحمل في عقله أقوى الأفكار التي تساند الصهيونية العالمية , وتتبنى قضيتها , وتبرر لها أفعالها وتمهد لمخططتاها وبروتوكولاتها البعيدة المدى , فقد كان كأي يهودي يتقن بغريزته الإلتفاف وفنون التلفيق المبطنة بالفضيلة , وهذا الحكم لا يمكن وصفه على أنه (شخصنة) أو ( تحامل ) من نوع ما , إنما هي النتيجة الطبيعية للفكر اليهودي المستشعر للإضطهاد والظلم منذ السبيّ البابلي الذي انبثقت عنه (عقيدة الشتات) وحتى يومنا هذا , وهذا الشعور يولد مع كل طفل يهودي ويتنامى مع نموه , بدليل نشوء الفئات والاخويات اليهودية المشتتة حول العالم بمختلف أنواعها على مدى العصور, السرّية منها والعلنية , وجميع هذه التجمعات كانت تتوارث وتتبنى نفس الأهداف والمخططات جيلا بعد جيل , كمرجعية دينية تتعلق بالجذور ( مع وجود استثناءات طفيفة فرعية وليست عمومية ) , وما الصهيونية إلا مزيج من هذه التكتلات اليهودية المتطرفة دينياً وسياسياً , والتي بدافع توحّد أهدافها تكوّنت في بؤرة قريبة من الهدف , وكانت هذه البؤرة على بعد عقود من الزمن للوصول إلى الهدف المنشود , وهي ما زالت تترجم عصارة التخطيط والتطرف لتجسيد الحلم اليهودي الذي استمر عدة قرون على أرض الواقع على مرأى من المشاهد العالمي , ولكي لا أبتعد عن صلب الموضوع فإن كافكا المثقف كان متواجداً ضمن هذه الفترة القريبة من تحقيق الهدف , وكان بغريزته وشخصيته التي اكتسبت كمّاً هائلاً من الثقافة اليشيدية , يميلُ في فكره وعاطفته إلى هذه التكتلات التي بدأت بوارق الأمل تلوح في سماءها والتي كانت تبني آمالها على المثقفين والمفكرين من أبناء جلدتها , ولكي أتمكن من دعم هذا الحكم الذي أطلقته فلا بدّ من الإستعانة والاستشهاد بالعوامل المذكورة أعلاه , وباستحضار شريحة من أعمال كافكا وهي قصة ( عرب وبنات آوى ) والتي كانت أكثر تلميحا ووضوحا لمشاعر كافكا تجاه العرب . ثم كشف الغطاء عن المؤشرات والدلالات المبطنة لتوجهات كافكا الفكرية , ومن هذه المؤشرات والدلالات : | |
|
الإثنين مارس 27, 2017 11:16 pm من طرف حسين