ساحة الحرية فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 902 معدل التفوق : 6211 السٌّمعَة : 25 تاريخ التسجيل : 11/12/2011
| | الخطأ في التطبيق... خلل في النظرية | |
كثيرا ما يبرر المنتمون إلى فكرأيديولوجي فشل التجربة بقولهم إن الخلل في التطبيق وليس في النظرية، ماذا يعني هذا؟ سنفحص هذا القول ابستمولوجيا مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية النظرية كونها متخصصة في العلوم الإنسانية، وهذا مختلف بالطبع عن العلوم الطبيعية.قبل كل شيء يجب علينا أن نفهم ما المقصود بالنظرية حتى نحاكم القول بأن الخلل في التطبيق محاكمة عادلة، سنقوم بعمل مقاربة بين النظرية المقصودة هنا وهي المنهج الذي تحدده الايدولوجيا باعتباره الأنسب لحياة البشر، وأصحّالمناهج على الإطلاق وبين النظرية في العلوم الطبيعية. النظرية في العلوم الطبيعية عبارة عن نموذج إنساني لتمثيل الواقع وأحد خصائصها أنها تتنبأ بظواهر معينة لم تكن معروفة مسبقا، ويجب أن تمرّ هذه النظرية بعدة اختباراتقبل أن نأخذها كحقيقة، ومع ذلك لا نعتبرها حقيقة مطلقة إنما حقيقة نسبية أي أنها حقيقة بحدود معارفنا الحالية، وبهذه الصفة تخضع النظرية لاختبارات دائمة عن طريق التجربة.. فلو ظهرت تجربة واحدة في المستقبل تناقض مفاهيم النظرية فإننا نقول إن النظرية قد فنّدت، وهنا تظهر حاجة ماسًة لتعديل النظرية أو بناء نظرية جديدة، قد يعترض احدهم ويقول ليس بالضرورة أن الخطأ في النظرية، هذا معناه أن نبحث عن مصدر آخر للخطأ، وهذا المصدر إما أن يكونالتجربة أو الواقع، بالطبع اعتبار أن الواقع هو مصدر الخطأ يوقعنا في تناقض لأننا قلنا سابقا إن النظرية تمثل الواقع، وهذا ما يجعلها صحيحة. فإذا كان الواقع هو مصدر الخطأ فإن النظرية تتناقض مع الواقع، ولكننا قلنا سابقا بأنها تمثله.. وهذا تناقض واضح لذا خطأ الواقع مستحيل. لن يبقى أمامنا سوى التجربة، وهذا ممكن، لكن إذا عرفنا بأن التجربة معلنة وأعاد تطبيقها عدد من المختصين ذوي الاتجاهات المختلفة، فإن خطأ التجربة يصبح مستبعدا ولن يبقى أمامنا سوى أن الخلل في النظرية نفسها.في اغلب العلوم الإنسانية لا تفسر النظرية الواقع ولكنها تصف الواقع وتحاول تنظيمه سعيا للحصول على نتائج معينة أو التخلص من بعض السلبيات (هذاينطبق على المنهج الإيديولوجي إذا عاملناه كنظرية). لذا لا يمكننا أن نجعلمفهوم النظرية في العلوم الإنسانية مكافئا لمفهومها في العلوم الطبيعية، لكن هل هناك مفهوم في العلوم الطبيعية يقابل مفهوم النظرية في العلوم الإنسانية؟ في العلوم الإنسانية يمكن اعتبار النظرية مجموعة أفعال تؤدي إلىظهور نتائج (وردّات فعل) معينة، وفي العلوم الطبيعية نجد أن التجربة تمثل بمجموعة الأفعال التي تؤدي إلى ظهور نتائج تقارن بما كان متوقعا، لكن هناك اختلافات بينهما فالأولى تهدف إلى النتائج ذاتها، بينما الثانية تهدف إلى تفنيد النظرية، إن كان هناك فشل فإنّ سببه خللٌ في النموذج المراد تطبيقه، أو خطأ في تنفيذ المنهج (الخطأ في التطبيق) وبينما نجد أن من السهل معرفة سبب الفشل في التجربة (المتعلقة بالعلوم الطبيعية) يصعب معرفة هذا السبب فينظرية العلوم الإنسانية، وذلك يعود إلى عدم صرامة ووضوح المنهج في الأخيرة، بينما الصرامة والوضوح هما أهم شروط الأولى، أو لأن الأخيرة تتعامل مع الإنسان الذي من الممكن أن لا يتصرف بحسب ما يمليه عليه المنهج المستمد من النظرية، وبهذا يكون قد أخطأ في تطبيق النظرية.من خلال ما سبق اعتقد أن الإشكال في اي منهج اجتماعي هو صعوبة تحديد سبب الفشل أهو خلل في النظرية أم خطأ في التطبيق. ويعود ذلك إلى عدم صرامة المنهج ووضوحه أو عدم التزام الإنسان بالمنهج. سنبدأ هنا بتحليل هذين النقطتين بشكل أعمق حتى نفهم مكمن الإشكال، عندما نتحدث عن عدم صرامة ووضوحالمنهج فإننا نقصد تحديد الأفعال التي يجب على كل فرد أن يلتزم بها والأفعال التي عليه أن يمتنع عنها وهذه اللوازم والممتنعات يجب أن تكون واضحة لكل فئات المجتمع المراد منهم تطبيق المنهج أي أن تكون قابلة للفهم من قبل الأفراد الذين سينفذون المنهج لكن عندما يفتقد المنهج إلى الصرامة والوضوح اللازمين فان تحميل المجتمع سبب الفشل (الخطأ في التطبيق) يصبح أمرا غير مقبولا بدلا عن ذلك يفترض البحث عن منهج آخر أكثر صرامة ووضوحا منالأول فوجود مثل هذا المنهج ممكن من حيث المبدأ لذا فالخلل في النظرية ولايمكن أن يكون الخطأ في التطبيق.عندما تكون أخطاء التطبيق واضحة فإنّ هذا لا يعدّ دليلا على خلوّ النظرية (المنهج) من أي خلل، قد يبدو هذا القول غريبا لكن ماذا عسانا نستنتج إذا حاولنا تطبيق المنهج مرّات عديدة، وفي كلّ مرة نجد أنه يفشل بسبب خطأ في التطبيق؟ أظنّ الإجابة واضحة وهي أن هناك خللا في المنهج، ذلك أن المنهج يفتقر إلى آلية تحميه من أخطاء التطبيق، وكلما كانت نزعة الفشل هذه كبيرة حقّ لنا أن نستنتج هشاشة النظام.باعتبار النظرية الأيدلوجية منهجا في تنظيم المجتمع، وجب عليها أن تأخذفي الحسبان احتمال عدم التزام الأفراد بهذا المنهج، والنظرية ملزمة بتوفيرآليات لتجنّب حدوث أخطاء في التطبيق.. وعند حصول هذه الأخطاء التي تسبب فشل التجربة فإننا لا نلام إذا قلنا إن الخلل في النظرية، لكن هناك منفذا آخر يبرّئ النظرية من الخطأ، وهو القول بأن من استخلص المنهج من النظرية لميفهم النظرية، لكننا نقول بأنّ هناك من وافقه واقتنع بتطابق المنهج مع النظرية، ولو أقررنا بأن هناك سوء فهم للنظرية فإن الكثير يشتركون في سوء الفهم هذا.. ثم ما الذي يبرّر فهما معيّنا للنظرية دون آخر إذا كانت النظرية مفتوحة لقراءات متعددة؟ من وجهة نظري، إن نظرية على هذه الشاكلة لاتستحقّ أن نعتبرها مطلقة الصحة والكمال، ومحاولة تطبيق كل قراءات النظرية تعتبر تعسفية وغير أخلاقية، كونها تنظر إلى المجتمعات وكأنها فئران تجارب تحقن كلّ مرة بعقار جديد لأنّ من ركّب هذا العقار يدّعي أن فيه الشفاء التامّ لأمراض المجتمع.من كل ما سبق نستنتج أنّ ادعاء المؤدلجين بخطأ التطبيق ليس سوى مصادرة على المطلوب، ذلك أنهم يبحثون عن أيّ خطأ في التطبيق لتحميله وزر الفشل، والدافع واضح: فهم لا يريدون أن يعترفوا بأنّ هناك خللا في النظرية لأنها كايدولوجيا صحيحة بالمطلق ولا تحتمل أي خطأ بحسب تعريفهم لها. لذا عند حدوثأي خطأ فإنّه يجب أن يكون في التطبيق وليس في النظرية.النظرية الأيدلوجية عندما تطبق كمنهج في مجتمع ما فإنها تمنع الأفراد منالتفكير في مشاكلهم ومعرفة أسبابها ومحاولة حلها إلا بالقدر الذي تسمح به الايدولوجيا، أي هامش المسموح التفكير به، بينما يجد الأفراد صعوبة في مناقشة ما حرّم التفكير فيه، ونجد أن المنهج الأيدلوجي يشترط أن يؤمن الناسبصحته المطلقة كشرط أولي لنجاح المنهج، وهذا يتحقق عن طريق التبشير بالمنهج أو بفرضه بالقوة حتى يعتاد الناس عليه ويؤمنوا بصحته المطلقة، فكونالفرد مؤمنا بصحة المنهج لن يقبل أن يفكر أو يناقش القضايا التي يمكن أن تزعزع إيمانه بالمنهج.. وحتى لو تخلى عن هذا الإيمان فلن يستطيع طرح ما يفكر فيه على الأفراد الآخرين، لأنه سيصبح متهما بمحاولة تضليلهم وزعزعة إيمانهم وهدم الايدولوجيا التي تقوم عليها حياتهم. ولا نستغرب أن تكون ردودأفعالهم عنيفة، وهناك حاجز أكبر يحمي الايدولوجيا ألا وهو جهاز الأمن الخاص بالدولة المستعد لقمع كل من تسول له نفسه التشكيك بالايدولوجيا، واقعالأمر في أي أيدلوجيا أن الدولة والشعب في خدمة منهج الايدولوجيا بدلا من أن يكون المنهج والدولة في خدمة المجتمع.يقال إن الفيزياء هي أنجح العلوم، ولا يختلف اثنان في كون العلوم الطبيعية بشكل عام في وضع أفضل من نظيرتها الإنسانية، لكن المفارقة العجيبةوالمدهشة والمثيرة للسخرية في آن واحد هو أن العلوم الطبيعية تخلت عن ادعاء الحقيقة المطلقة، بينما لا زالت المناهج الأيدلوجية تتشبث بالصواب المطلق، رغم أنها تنتمي إلى العلوم الإنسانية التي تعتبر اضعف بكثير من الأولى. ولأن ادعاء الحقيقة المطلقة قد جلب لنا الكثير من الشقاء في الماضيوأخّر كثيرا نموّ معارفنا، فإن الأنسب لنا أن نكون أكثر تواضعا فلا ندعي أكثر من الحقيقة النسبية، أي النظرية الصحيحة حاليا القابلة لأن تُخطًأ في المستقبل، ذلك أن الفكرة لا تعزز إلا بالتجربة، وليس من حقنا أن نحرم الأجيال القادمة من التفكير في قضاياهم وإيجاد نظريات خاصة بهم ومحاولة حل مشاكلهم بأنفسهم..أختم بالقول إن مشكلة المناهج الأيدلوجية هي ادعاؤها امتلاك الحقّ المطلق، وهذا ما أدى إلى ظهور مثل هذا الادعاء (القول بأن الخطأ في التطبيق)، ولا أستبعد أن يصل بهم القول (بأن الخطأ في الواقع؟!!!) المهم لديهم أن لا يكون الخطأ في المطلق، لذا يبذلون قصارى جهدهم في البحث عن مصدر آخر للخطأ بدل أن يراجعوا النظرية ويعملوا على تحسينها أو إيجاد نظرية بديلة أقل تناقضا مع الواقع كما تفعل نظريات العلوم الطبيعية. | |
|