تناول ماجد عدة كؤوس من الخمر علّه يطفئ نار تلك الخديعة التي أوقعه بها غيث، لكنها ازدادت استعارا مع كل كأس صبه في جوفه، فأنّى له نسيان ذلك المشهد وهو يرى سيارته تقطَر أمامه حين أبى محركها الدوران بعد خروجهما من ذلك النادي الليلي الذي اعتاد هو وغيث السهر فيه.
اتصل غيث بصديقه الميكانيكي ليقطرها على امل أن يرجعها في الصباح التالي أو الذي بعده. لكن مر شهر ولم يرَ ماجد أثرا لسيارته أو لغيث الذي لولا علمه أن الأرض تأنف من أن تستسيغ أمثاله، لقال إن الأرض قد ابتلعته، فقرر أن يزور بيته في وقت متأخر ليواجهه، وقد يبرحه ضربا علّه يُخمد النيران المستعرة في شغافه منذ شهر.
رن جرس الباب، فخرجت إحدى العجائز الثلاث اللواتي يعتاش غيث على ما يبعثه الأهل لهن، فهو يصادر كل فلس يدخل الدار. كانت الأخت الصغرى فاستقبلته مرحبة بعد أن طبعت على خده قبلة ودعته للدخول مهللة: "أنظروا من جاءنا؟"
وثبت أم غيث من على الأرض وقبلته هي الأخرى وألحت عليه بالبقاء لتناول العشاء مع غيث الذي كان على وشك الوصول، فمن عادته أن يأتيهن في ساعة متأخرة مترنحا ليتعشى وينام إن كان في جيبه ما يكفي من المال ليأتي مترنحا ليلته القادمة. وإن لم يكن لديه ما يكفي، يوسعهن ضربا حتى يخرجن آخر فلس أبيض يحتفظن به ليومهن الأسود.
بعد وصول ماجد بحوالي النصف ساعة، تناهى إلى سمعه صوت دوران المفتاح في باب المنزل فدخل غيث مترنحا، بيد أن مفاجأة رؤيته لماجد أذهبت الخمر من رأسه.
دخلا إلى غرفة الضيوف ليتعاتبا. إلا أن صوت شجارهما تناهى إلى سمع العجائز الثلاث. وما كاد ماجد يرفع يده لينهال ضربا على غيث، حتى فُتح باب الدار بطريقة همجية وتواثب من شاحنة صغيرة لنقل البضائع رجال بأشكال مخيفة وقد حمل كل منهم شيئا ما ليهاجم به.
منهم من كان يحمل سكينا وآخر عصا غليظة ومنهم من حمل سلاحا عاديا وآخر ميكانيكيا. وقد أصبح الجميع داخل الدار والكل يبحث عن غيث الذي تراجع خطوات طويلة، وبسرعة الغزال التهمت أقدامه السلم نحو سطح الدار.
وجد ماجد نفسه وحيدا أعزل ومدافعا عن العجائز الثلاث متيقنا إن الخسيس لن يعود للدفاع عن امه وخالاته، فعقد العزم أن يستميت في الدفاع عنهن بعد أن وجه المهاجمون كلماتهم القاسية وشتائمهم نحوهن، وقد وقفن مرتعبات جاحظات العيون من هول الموقف.
وبعد جدال وصراخ، فهم الجميع الموقف، فغيث كان قد أخذ من أحد المهاجمين حمولة من السجائر لا يستهان بها، على أن يسدد قيمتها له بعد أن يبيعها. وكعادته فر بالغنيمة واختفى بسرعة، فهو بالفرار كالغزال.
وحين تجلت الحقيقة للأم، تحاملت على نفسها وذهبت إلى غرفة لتخرج منها المال الذي أرسلته لها ابنتها مؤخرا كي تستعين به لمعالجة مرضها المزمن الذي يحتاج إلى عناية طبية خاصة ونظام غذائي معين.
بيد مرتجفة وقلب مفجوع جاءت بما لديها في صرة من الأكياس المتداخلة وكأن كل كيس خصص ليحجب عيني أحدهم عن المال: كيس يحجبه عن عيون ابنها؛ وآخر عن عيون القدر الذي ما فتئ يعاندها منذ شب ابنها عن الطوق وبدأ السير في طريق الانحراف؛ وكيس آخر عن عيني أخواتها. غير إن أكياسها المتداخلة لم تحم المال من هؤلاء المهاجمين الذين أتوها من حيث لا تحتسب.
تناول ماجد المال وهو يرى الدموع في عيني أم غيث لكي يمنعهم من مهاجمتها وأخذ المال منها عنوة. عدّه، فإذا به مبلغ يسدد الدين الذي كان على غيث. سلمه لهم وخرجوا بسرعة كما دخلوا وكأنه شريط سينمائي لإعصار يجتاح منطقة منكوبة، أُّدير بصورة عكسية.
أنتهى الهرج والمرج وألتقط الجميع أنفاسهم، وسألت الأم ماجد وهي تغالب دموعها: "يا ولدي، أتود أن أقلي لك كبة حلب أم كبة البرغل؟"
ضحك ماجد حتى اغرورقت عيناه بالدموع وأجابها: "لا يا خالة لا أود أيا منهما، فلولا لطف الله لكان دائنو ولدك دقونا كبة".