محوران أساسيان حاولت الإجابة عنهما في هذا البحث : الأول قوامه ” أليس كل شعب ينعت بصفة حي و مستمر , هو شعب يملك ثقافة خاصة به , ثقافة ساعدت على استمرارية وجوده عبر تاريخه الطويل و جعلته متكيفاًً مع ذاته , و مع الطبيعة من حوله , وهل يحق لنا أن ننعت شعب ما حي و مستمر , بأنه أقل قيمة أو أكثر بدائية واثقين من أن حكم كهذا , هو حكم حقيقي لا وهمي قائم على جهل لطبيعة ما هو مغاير لمفاهيمنا و إرثنا الثقافي ؟ . و من جهة أخرى , هل استطاعت الأنثربيولوجيا كعلم إنساني محض , تجاوز تلك النظرة المتعالية أحادية الجانب إزاء الشعوب الأخرى , و هل نحن بحاجة إلى هذا العلم , و هل هو أمر ضروري لتفهّم و تفاهم الشعوب؟ .
الإنسان مالك للثقافة :
من تعاريف النوع الإنساني , أنه حيوان ذو ثقافة , وهذه الثقافة تكتسب بالتعلم , و تتيح للإنسان أن يتلاءم مع بيئته الطبيعية و الاجتماعية . إن الثقافة بالغة التنوع , تتجلى في نظم و أنماط مختلفة من التفكير . و تطور القدرة على التفاهم و السيطرة على الطبيعة , هو النمط الرئيسي للنوع الإنساني , فالثقافة تبدو هنا , أكثر من كونها مجرد ظاهرة بيولوجية , بل تغدو شاملة لكل عناصر صفات الإنسان البالغ , التي اكتسبها عن جماعته سواء بالتعلم الواعي , أو من خلال آليات لاواعية , أو بالتعلم الإشراطي , كالمهارات التقنية أو السلوكية المختلفة , التي عن طريقها يصوغ الفرد المواد التي يقدمها إليه العالم الطبيعي لكي تلبي احتياجاته , و بالتالي فإن عملية التكيف ليست مجرد تغيير ذاتي بيولوجي , غايته التلائم مع العالم المحيط , بقدر ما أصبح عملية موضوعية , تقوم بتغيير المحيط لصالح الذات , بحيث يغدو الإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يعيش في مجتمعه , بل إنه يقوم بإنتاج مجتمعه وفق أشكال عديدة لا حصر لها , و كأننا بصفتنا بشراً احتجنا على مدى تاريخنا الطويل أن نغير المجتمع دائماً , مثلما كنا بحاجة إلى أن نجعل استعداداتنا المشتركة أكثر ثراءً و تشابكاً و تنوعاً , و هذا ما يفسر اختلاف خصوصية ثقافة ما عن ثقافة أخرى بالدرجة لا بالنوع , على اعتبار أن انعكاس الثقافة الموضوعي و فعالية الذات , تقود إلى مفاهيم قد تبدو مختلفة تبع الخصوصيات الجغرافية التاريخية , التي تفرز بدورها مجموعة من النظم العقائدية الخاصة بكل جماعة .
إن الإنسان من حيث هو كذلك , يمثل قمة مراحل التطور المتمثل بارتفاع خاصية الذكاء و نوعيته , و ما ينتج عن ذلك من ضروب التكيف السلوكي الاجتماعي , فالتغير , و الخلق , و إعادة الخلق , و التفسير , و إعادة التفسير , تؤلف جميعها جزءً من نسيج الخبرة اليومية البشرية , و هذا ما يطلق عليه اسم الثقافة , التي عبر عنها جودلير قائلاً : ” إن الكائنات البشرية على نقيض الحيوانات الاجتماعية الأخرى , لا تقنع فقط بمجرد الحياة في علاقات , بل إنها تنتج تلك العلاقات لكي تعيش و تبتكر على مدى وجودها سبلاً جديدة للفعل و الفكر , لتفكر و تعمل سواءً بالنسبة لبعضها البعض , أو بالنسبة للطبيعة المحيطة بها , و من ثم فإن البشر يخلقون الحضارة و يصنعون التاريخ” . كذلك قال هكسلي في وصفه للإنسان : ” إن اكتساب الإنسان آلية ثانية أسمى و أعلى من آلية الجينات من أجل ضمان استمراريته , هي آلية تقوم في القدرة على التفكير و التكلم بلغة رمزية مكنته من اجتياز حاجز البيولوجيا , و دخول ميادين الوجود النفسي الاجتماعي , و هي ميادين بكر لم يتطرق إليها من قبل .” و عليه , فقد تبع التطور البيولوجي الذي رافق الإنسان كنوع , تطور آخر ضمن النوع تمثل بالتطور النفسي , و هو تطور يعبّر عن نظرة الإنسان للكون , بآليات تخضع لاعتبارات زمانية و مكانية مختلفة , و ما ينجم عن ذلك من ثقافات مختلفة و متمايزة ضمن النوع الإنساني . و هكذا إذا كان التطور البيولوجي عام و كلي يشمل أفراد النوع ككل و يخضع لظروف طبيعية آلية محضة تعبر عن منحى توافقي تكيفي لا دخل لوعي الإنسان أو لإرادته الذاتية فيه , فإن التطور بالمنظور النفسي , يعود إلى ردة فعل الوعي البشري المعبر عن نظرة معينة إلى موضوع خارجي مستقل و مختلف بين مكان و آخر . و هكذا تختلف النظرة الذاتية تبع اختلاف الظروف الموضوعية التي تحيط بها , و تتغير و تتطور تبع تأثيرها و تأثرها بالظرف الخارجي سواءً أكان جغرافياً , أم مناخياً , أم ديموغرافياً , أم تاريخياً .
و بما أن الظروف الخارجية تختلف فإن الخبرات المتراكمة سوف تختلف بين مجموعة بشرية و أخرى , بحيث يختلف جدول الأولي و الكمالي بين ثقافة و أخرى , و هكذا نرى أن وحدة النوع لا تعني بالضرورة وحدة الثقافات , كما أن تنوع الثقافات لا تعني بالضرورة تميز نوعي لجماعة على أخرى , بل المسألة هي إلى أي حد هناك ظروف أكيفها أو أتكيف معها , وما ينتج عن ذلك من ثقافات تكيّفية و أخرى تكييفية الأولى تكيف ذاتها تبع تصوراتها عن العالم , و الثانية تكيف العالم تبع تصوراتها . و الفعل التكييفي في كلتا الحالتين لا يغدو أن يكون موقف يقفه الإنسان كذات واعية تجاه عالم خارجي يحاول التعامل معه , و هو ينجح بشكل أو بآخر في كلتا الحالتين أيضاً .
و على ذلك نفهم ترسخ الجانب الأخلاقي النفسي الاجتماعي عند كل شعب , بحيث يغدو من الصعوبة بمكان أن نؤثر على هذا الإرث دون أن نفهمه و نعرف حقيقة بواعثه , و يعرض علينا هرسكوفيتز في كتابه ( أسس الأنثربيولوجيا الثقافية ) مجموعة من المفاهيم المتغيرة لدى الأفارقة المهاجرين و المتأثرين بالثقافة الأميركية الأوروبية , فيجد بأن نسبة التغير التي تكاد تصل إلى 100% في ميدان التكنولوجيا , و 95% في ميدان الاقتصاد , تنخفض إلى 40% في ميدان الدين , و 20% في ميدان الفولوكلور , و 5% فقط في ميدان الموسيقى . و في سياق متصل , نجد أنه و على الرغم من أن تعاليم المبشرين المسيحيين مارست تأثيراً كبيراً في إضعاف فكرة الإيمان بالآلهة القديمة و قواها السحرية , فإن تعاليم الدين المسيحي لم تلق قبولاً إلا مع ما يتناسب مع النظرة الفلسفية التقليدية لشعوب تلك المناطق , فلم تؤدي مثلاً جهود المبشرين المسيحيين بخصوص هداية الهنود الحمر في أميركا , إلا في خلق ديانة مختلطة هندية – مسيحية , فأثناء الأسبوع المقدس , يقدم مشهد تمثيلي يعرض آلام المسيح , و لكن في هذا المشهد ليس المسيح من يعَبر عنه بل ( يوداس ) أحد الآهة الهندية , و في أميركة الجنوبية تقوم معظم الكنائس في الأمكنة التي كانت تقوم بها المعابد سابقاً , فعلى البوابة الرئيسية لكنيسة لاباز في بوليفيا , لم ينتبه أحد فيما يبدو إلى وجود تمثال منحوت لأحد آلهة الهنود القديمة . و هكذا نجد أن المسيحية وفق الخصوصيات الثقافية ليست واحدة , بل تتمازج كمعتقد , مع مجموعة من القيم و المعتقدات المحلية الخاصة بكل جماعة2 و قل مثل ذلك في الأديان الأخرى التي تعبر عن فوارق ذات دلالة بين بلد منشأها , و البلد الذي انتشرت فيه بتأثيرات خارجية , و إن دل ذلك على شيء , فهو يدل على صعوبة إدخال آليات حديثة على أعراف قديمة , لكون تلك الأعراف أكثر ارتباطاً بالإرث الاجتماعي النفسي , وهذا ما يجعلها أكثر ثباتاً و رسوخاً في وجه التغيير . كما يجب أن نأخذ بعين الاعتبار آليات التغيير الداخلية , قبل النظر للتغيير من الخارج , كون كل جماعة حاملة لإرث ثقافي معين هي ليست مجرد تكرار لنسخة سابقة , بل إن ما يبدو تقليدياً في ظاهره , إنما نفعله في إطار ظروف جديدة , و من ثم فنحن في واقع الأمر نعيد خلق التقليد إن صح التعبير” . و هكذا فإن ما يؤَسس بالمعنى العام هو العلاقات الثابتة في قلب المجتمع , هذه العلاقات التي هي من صنع الإنسان نفسه . فالثقافة إذن هي معادل لعلاقة ذات – موضوع , سواء أكان هذا الموضوع هو ذات أخرى , أو ظاهرة طبيعية خارجية , بحيث تغدو الثقافة مجموعة علاقات تبادلية قوامها فهم الموضوع و تعزيز استقلال الذات . و يمكن اعتبارها بمثابة كسر لاحتكارية الغريزة , على اعتبار أنها تقوم على الاستقلالية و التنوع في الفهم و الاكتساب , و هذا دفع بعض الباحثين إلى القول أن الثقافة بصفتها تلك , هي أكثر من الإنسان ( على اعتبار أن فرد ما لا يستطيع الإحاطة بثقافة مجتمعه بكل دقائقها , رغم تأثيرها المباشر أو غير المباشر عليه ) لتمثل الفقرة الثالثة من السلسلة التصاعدية ” اللاعضوي – العضوي – المافوق عضوي ” التي كان سبنسر أول من نادى بها , ليأتي بعده كروبر , و يستعمل كلمة ما فوق العضوي , معبراً على أن الثقافة ظاهرة تختلف عن الطبيعة البيولوجية رغم ارتباطها بها , و من الواجب اعتبارها شيء قائم بذاته .
وإذا قلنا في أوضح تعريف سيكولوجي للثقافة بأنها ذلك الجزء المكتسب بالتعلم عبر الأجيال , فإننا نفهم أن الناس يتعلمون اليوم ثقافاتهم بأسلوب عميق و فعّال , و نحن نستعمل كلمة تربية للدلالة على التعلم المباشر , رغم أن معظم أشكال الثقافة الاجتماعية لدى الأفراد , تتم بطريق الاعتياد أو التقليد , و قد يكون من الأفضل تسميتها بالتشريط اللاشعوري , الذي قد يختلف و يتغير مع تغير الظروف التي تفرض إعادة التلاؤم و الائتلاف من جديد , و تقدم اللغة أمثلة متنوعة لا حصر لها عن التشريط الدقيق من الكلام ( كاختلاف اللهجات في سورية على سبيل المثال ) بالإضافة لأمثلة أخرى تتعلق بعادات السير , و طرق الجلوس , و غير ذلك من الأمثلة التي توضح كيف أن المجتمع يقوم بدوره في عملية التثقيف العامة التي لا تكون ذات معنى إلا لدى المؤمنين بها , و من هنا كانت الحجة الرئيسية للذين يقولون أن الثقافة هي مجموعة العقائد و العادات و الآراء لدى شعب , أكثر من كونها سبباً قائماً بذاته .
و للمجتمع إذن آلية تثقيفية تفعل فعلها على أعضاءه , و التثقيف يدخل حتى على آلية التقليد بحيث لا تغدو العملية مجرد عملية آلية وراثية يقف المتلقي سلبي اتجاهها , بل تغدو عملية تتضمن نظرة معينة للموضوع , و هي بصفتها تلك , تحمل عنصر معرفي مفهومي تراكمي , إنها نظرة تعيد صياغة الواقع , و كأننا بصفتنا نوع حامل للثقافة , امتلكنا بذور تغيرنا المستمر على نحو ما يؤكده المبدأ الأنثروبولوجي القائل بالتغير الدائم و المستمر الذي يشمل كافة المجتمعات و الثقافات البشرية حتى أكثرها بساطة .و هذا ما يجعل الثقافة من حيث هي كذلك تتمتّع بالخصائص التالية :
ا) تمايزها و استقلالها عن الأفراد الذين يحملونها : فهي مجموعة مفاهيم مكتسبة يكتسبها الإنسان بالتعلم من خلال المجتمع الذي يحملها , و بالتالي فالثقافة لا تتصل بكل ما هو غريزي أو فطري أو بيولوجي , بل إنها حصيلة العمل و الاختراع و الابتكار الجماعي العام , ووجودها غير مرتبط بوجود الأفراد , رغم أن هذا لا يعني أن الأفراد يقفون موقفاً سلبياً اتجاهها , ذلك أنهم يحكمون على الظواهر الثقافية السائدة في مجتمعهم بأنها سيئة أو طيبة في ضوء نسق القيم السائد من جهة , و دور التحصيل العام من جهة أخرى .
ب) الاستمرارية : فالثقافة تتصف بطابعها الاستمراري من جيل لآخر , بحيث تظل محتفظة بكيانها لعدة أجيال , ممثلة بعادات , و طقوس , و أعراف , و مفاهيم معينة , قد تبقى مستمرة على الرغم من انتهاء السبب الذي أدى لوجودها .
ج) التعقيد : إن الثقافة تشتمل على عدد كبير جداَ من السمات و الملامح و العناصر التي حاولت بعض التعريفات أن تذكر جانباً منها , و يرجع ذلك التعقيد إلى تراكم التراث الاجتماعي خلال عصور طويلة من الزمن , مضاف إليها استعارة الكثير من السمات الثقافية الخارجية , و يترتب على ذلك أن الفرد لا يستطيع أن يكتسب كل عناصر ثقافته السائدة في مجتمعه , كما أن عالم الأنثروبولوجيا لن يستطيع أن يسجل كل مظاهر و سمات ثقافة معينة مهما بلغت من البساطة .
و من جهة أخرى , يتفق علماء الأنثروبولوجيا الثقافية حول عدد من النقاط تخص الثقافة :
ا- ارتباط الثقافة بجماعة معينة , و ارتباطها بالإطار الكلي للسلوك .
ب- تشابك جوانب الثقافة في كل مجتمع على حدة .
ج- إن الثقافات تتعرض للتغير الدائم نتيجة لعمليات الاتصال بين الجماعات المختلفة , و من ثم استعارة الوسائل التكنولوجية المختلفة .
د- إن كل ثقافة تعتبر مجموعة من الرموز , و الرموز هي أكثر من مجرد الأشياء أو الأفعال التي يستجيب لها الناس , إنها بمثابة الروابط التي تربط الناس بعضهم ببعض .
بذلك تمثل الثقافة إرث عام للجنس البشري , و كما أكد ول ديورانت : فإن المدينة لا تتوقف على جنس دون آخر , فإنها قد تظهر في هذه القارة أو تلك , و عن هذا اللون أو ذاك , فالمدينة ليست شيئاً مجبولاً في فطرة الإنسان , و لا هي بشيء يستعصي على الفناء , إنما هي شئ لا بد أن يكتسبه كل جيل من الأجيال اكتساباً جديداً , و إذا ما حدث اضطراب في أعماق هذا الاكتساب فإن ذلك سوف يؤدي بدوره إلى الحد من استمراريتها و بالتالي إلى فنائها .
و هكذا نرى أن الاختلاف الثقافي بين الجماعات المختلفة , هو اختلاف تحكمه الخبرة الخاصة لكل جماعة تملك رؤية معينة عن وضع معين تتواجد فيه . و من الناحية البيولوجية لنشوء السلالات , لا يوجد دليل يثبت تفوق أحدهما على الآخر , بل جميع السلالات استطاعت الاستمرار مكيفة المحيط الخارجي لمصلحتها , هذا مع التأكيد على أن جميع أفراد النوع البشري قد انحدروا من أصل واحد , و أنه من باب الاحتمال أن أسلافنا الذين عاشوا في الجزء العلوي من العصر الحجري القديم , كانوا خاضعين إلى حد ما في تلاؤمهم الإحيائي , مع ظروف بيئتهم الطبيعية المحيطة بهم عن طريق الانتخاب الطبيعي , الذي كان ينظم عملية التلاؤم , و عندما بدؤوا بالانتشار بعيداً عن أماكن تواجدهم الأول ( و لعل ذلك مردّه تزايد الضغط الديمغرافي ) على شكل تحركات إلى مناطق جديدة , كالشمال الآسيوي و الأوروبي , و غرب أوروبا , ثم إلى الشمال الأميركي و أستراليا , أدى هذا الاتساع الديمغرافي في المناطق الجغرافية المتباعدة , إلى تكون صفات سلالية جديدة محلية وفق ظروف كل منطقة , و هكذا ظهرت المجموعات السلالية الرئيسية , ممثلة أولاً بالمجموعة السلالية الإفريقية الزنجية القديمة , التي تكونت بادئ الأمر في إفريقيا و جنوب آسيا في ظروف مناخية قوامها الحرارة و الرطوبة و نور الشمس الساطع طيلة أيام السنة , بحيث نتج عن ذلك سواد البشرة الداكن الذي يرتبط بالماهية الكيميائية للأشعة الشمسية القصيرة الموجة بشكل خاص , إلى جانب الشعر الأسود المفلفل ذي الملمس الصوفي الذي يعطي الإنسان الزنجي القدرة على العمل و هو حاسر الرأس دون أن يتضرر , كون الشعر المفلفل ناقل رديء للحرارة , بالإضافة لشكل الأنف العريض من أجل استنشاق أكبر قدر من الهواء ليحصل الجسم على الكمية اللازمة من الأوكسجين .
أما المجموعة السلالية الأوروبية القفقاسية , فقد نشأت في المناطق الجغرافية المعتدلة القائمة على حوض المتوسط إلى جانب جنوب أوروبا و غرب آسيا , و منها أخذت هذه السلالة بالانتشار إلى الشمال و الشمال الغربي من أوروبا , بعد أن أخذ العصر الجليدي بالتراجع في الفترة التي تتراوح بين 10 – 16 ألف عام , و من أوجه التلاؤم بين عضوية هذه السلالة و بيئاتها المختلفة , نجد التفاوت في نسبة القتامين في البشرة و الشعر و قزحية العين , فكلما كان الشعاع الشمسي أقل سطوعاً , كلما كانت مادة القتامين في خلايا أعضاء الجسم أقل , بحيث تميل البشرة إلى البياض و الشعر إلى اللون الأشقر و العيون ملونة كما هو الحال في الشمال الأوروبي , أما في الجنوب فنجد أن أشعة الشمس أقوى و أطول خلال أيام السنة فنجد البشرة السمراء و الشعر الأسود و العيون السوداء أو العسلية كما هو الحال في حوض المتوسط .
و إذا انتقلنا إلى المجموعة السلالية المغولية نجدها و قد نشأت في السهوب و أنصاف الصحاري الآسيوية , حيث ساد هناك في نهاية العصر الجليدي مناخ قاري بارد و جاف مصحوباً بفروق حرارية يومية و فصلية كبيرة , مع هبوب رياح قوية محملة بذرات تربة اللوتس الناعمة التي تكون عادة محملة حصيات صغيرة مما لا يساعد على الرؤية , و قد أوضح الأنثروبولوجيون بأن العيون الموزية الشكل ذات الفتحة الضيقة و الجفون العلوية المسدولة ذات الزاوية الحادة على الجانب الإنسي للعين , ما هي إلا التلاؤم و التكيف لجهاز البصر مع الظروف الطبيعية وسط آسيا آنذاك . أما سكان استراليا الأصليين , فيرجح أنهم قدموا إلى تلك المنطقة في نهاية الباليوليت و بداية العصر الحجري المتوسط وذلك عبر إندونيسية , و الصفات المغولية واضحة على ملامحهم , و يبدو أنهم كانوا من تلك السلالة المتواجدة في جنوب شرق آسيا و مع التداخل مع المناخ الاستوائي هناك ( في استراليا ) حصل في منطقتهم الجديدة تغييرات طفيفة في مظهرهم السلالي . كذلك نجد عند جماعات قبائل البوشمن في الصحراء الكبرى في إفريقيا , ملامح تدل عل أصول مغولية ( وجوه أفرادها كشكل الجفن العلوي المسدول و الزاوية الحادة للجانب الإنسي للعين ) حيث يبدو أن أجداد البوشمن هم آسيويون قدموا إلى إفريقيا بعد خروج أجدادهم منها , أما بشرتهم السوداء و شعرهم المفلفل الصوفي و غلاظة شفاههم , ما هي إلا نتيجة تلاؤم و تكيف لمظهرهم الخارجي مع ظروف بيئتهم المناخية الجديدة . و الأمر نفسه نجده عند سكان أميركا الأصليين , الذين قدموا إلى القارة منذ نحو 30 ألف عام من شمال شرق آسيا عبر مضيق بهرنج, الذي كان برياً آنذاك بعد أن تأصلت فيهم الصفات المغولية , ( دراسات حديثة تقول أنهم ربما وصلوا إلى أميركا بعد تراجع العصر الجليدي الأخير منذ حوالي 13 ألف عام ), مع حدوث تغييرات على من عاش منهم في المناطق الاستوائية من القارة بحيث أخذ مظهرهم الطابع المغولي الزنجي .
و هكذا يمكن تقسيم النوع البشري حسب المظهر الخارجي إلى ثلاث مجموعات سلالية كبرى , يندرج تحتها مجموعات أخرى أصغر , و لكل سلالة مميزاتها الحضارية و الثقافية المتعلقة بشكل أساسي بالتكوين النفسي الخاص و آلية تطوره , و قد قام توينبي بعرض ميزان إحصائي لقياس مساهمات الأجناس المختلفة في الحضارة مقسماً السلالة البيضاء إلى ثلاث فصائل هي النوردية , و الألبية , و المتوسطية , و إذا ما أخذنا بهذا التقسيم على علاته , و أحصينا الحضارات التي قامت و أسهمت فيها تلك الفصائل , نجد أن النورديون أي الشماليون ( الجرمان و الساكسون ) , قد أسهموا في أربع حضارات أو خمس هي : الهندية , و الإغريقية , و الغربية , و الروسية المسيحية الأرثوذكسية , و ربما الحيثية . أما الألبيون فقد ساهموا في سبع حضارات و ربما تسع هي : السومرية , و الحيثية , و الإغريقية , و الغربية , و الروسية , و الإيرانية , و ربما المصرية و الميناوية . أما المتوسطيون , فقد ساهموا في عشر هي : المصرية , و السومرية البابلية , و الميناوية , و السريانية , و الإغريقية و الهيلينية , و الغربية , و المسيحية الأرثوذكسية , و الإيرانية , و العربية الإسلامية . أما السلالية السمراء فتشمل الدراويدي الهندي , و أهل الملايو , فقد ساهموا في الحضارة الهندية , و الهندوكية . و السلالة المغولية الصفراء , قد ساهمت في الحضارة الصينية و اليابانية , هذا دون أن ننسى حضارة الهنود الحمر الخاصة و المتأخرة التي أغفلها توينبي في تقسيماته .
و إذا كنا نريد أن نخرج بشيء إيجابي من ذلك الإحصاء , لعرفنا بأن نصف حضاراتنا قامت بمشاركة أكثر من سلالة واحدة , بحيث لا يوجد جنس مفرد قام لوحدة بصنع الحضارة كاملةً