المثقف والسلطة والثورات العربية ولعبة كشف الأوراق
مهند صلاحات*
أعطت سرعةُ الحراك الشعبي العربي في ما يسمى "الربيع العربي" تصوراً لدى
بعض المراقبين للمشهد بأنه خالٍ من دور النخب الثقافية العربية، وهو ما
يمكن اعتباره إجحافاً بدور النخب العضوية التي مهدت وشاركت بهذا الربيع
وله، وهذا التصور تم بناؤه باعتبار أن سرعة إيقاع الثورة التونسية لم يكن
واضحاً فيه دور نَخبوي، فهو مجرد حراكٍ شعبيٍ سريع، أما في مصر فالملايين
التي تجمعت في ساحة التحرير غطت على حضور النخب وكذلك الأمر في اليمن، في
حين سوريا فتعرّض نُخبها المُعارِضة ومنذ بداية الثورة لحملة منظمة من قبل
مثقفين عرب آخرين محسوبين على النظام السوري، مُتَهِمِينَ إياهم بالتأمر
لمجرد وقوفهم إلى جانب ثورة بلادهم وهو ما يمكن اعتباره تناقضاً صريحاً في
مواقف المُتهِمين، ومحاولةٍ منهم لوضع هذه النخب بالزاوية في محاولة واضحة
لتحييدهم عن الحراك.
حيث أن فكرة الحراك الشعبي المتجاوز للنخب، إجحاف بحق الكثير من نخب
سورية، مثل الطيب تيزيني الذي تم اعتقاله منذ الأيام الأولى للحراك،
وبرهان غليون، صبحي الحديدي، ميشيل كيلو، وغيرهم والكثير، وكذلك الأمر في
مصر، فعلاء الأسواني وخالد الصاوي وغيرهم باتوا أياماً في الميدان ولم
يبرحوه حتى سقط النظام، بالتالي لم يكن الحراك بعيداً عن النخب وإنما
عملية فرزٍ حقيقية بين مثقفي السلطة والمثقفين العضويين بحسب تصنيف جرامشي
للمثقف.
فمثلاً نرى سقوطاً مدوياً حقيقي لكتابٍ ومثقفين وإعلاميين، طالما تطرقوا
بشكلٍ نظري فقط لفكرة المثقف والسلطة والعلاقة الجدلية بينهما، سرعان ما
سقط هؤلاء المُنظِرين بوحل السلطة والاصطفاف إلى جانبها، بمجرد أن تم خدش
السلطة السورية، وظهرت مفارقة غريبة من نوعها، حيث ما شهدته الثورة
المصرية واليمنية وغيرها كان انقساماً بين مثقفين يمنيين أو مصريين مع
وضدّ السلطة، أما في الحالة السورية فلم يكن الانقسام سورياً، إنما أجمع
غالبية مثقفي سوريا على الوقوف لجانب الثورة، والبعض القليل آثر الصمت، في
حين تدافع العديد من الكتاب من دولٍ عربية للدفاع عن النظام السوري واتهام
معارضيه بالخيانة والتأمر ومثال ذلك كتاب وحزبيين وصحافيين أردنيين.
الحراك الشعبي السوري جاء مدعوماً بنخبه بشكلٍ واضح، ويستند لتنظيرٍ فكريٍ
فلسفيٍ منذ سنوات مما تسمى وصفها لينين بالتعبئة الجماهيرية التي تولّد
ثورة بعد حين، وهذا الحين جاء نتيجة هذه التعبئة الجادة للشارع، غير
متناسين طبعاً فكرة الصراع الطبقي التي تحدث عنها ماركس كحتمية تاريخية
قادرة على تثوير الجماهير لرفضها فكرة الطبقات المستنفذة والحاكمة
الفاسدة، الأمر الذي يجعل من السقوط وشيك لهذه الطبقات المُعتاشة على حالة
الفساد القائم في السلطة، وإن كان بعبع الاحتلال والتدخل الأجنبي يلوح
بالأفق، فهذا طبيعي، وليس بالمفاجئ، فمن الطبيعي أن نفهم أن وكلاء
الاحتلال بدولنا، بسقوطهم سيجعل الدول الكبرى "الوكيلة لهم" تتحرك باتجاه
حماية مصالحها التي كانوا يحمونها، وجميعنا نعلم حجم المصالح التي كان
يحميها أنظمة مثل النظام المصري، والنظام السوري والليبي واليمني وغيره
لدولٍ مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وهنا تكمن خطورة الفكرة
بخلق هذه الدول الإمبريالية لبدائل، ففي مصر يبدو واضحاً التوافق الإسلامي
والمجلس العسكري والأمريكي لملئ فراغ نظام مبارك بشكل جدي، في حين سوريا
هنالك تخوف واضح لدى الأمريكان من فكرة الإخوان ومدى قبول الشعب السوري
لهم كما فعل المصريون بشكل جزئي، لذلك تم تفويض تركيا للعب الدور، وخاصة
لِما لتركيا من ارتباط جاد بمدن سوريا كبرى مثل حلب.
بكل الأحوال دور النخب يبقى حاضراً، ولولا هذه النخب لحدث في مصر كما حدث
في تونس، حيث قمعية نظام بن علي التي شردت معظم نخب تونس، جعلت الساحة شبه
فارغة منهم، وكان الحراك الشعبي غير منظم فسقط رأس هرم النظام ولم يسقط
النظام، وفي مصر هذه النخب تحاول استعادة الثورة ممن يحاولون سرقتها من
العسكر والإخوان. وفي سوريا ستبقى هذه النخب لفرز منظومة سياسية قادرة على
إدارة البلاد لحين انتخاب منظومة حكم جديدة.
رابطة الكتاب الأردنيين:
المفارقة السابقة التي أشرت إليها أعلاه، تجلت بشكل واضح في الأردن عبر
المؤسسة الحاضنة للكتّاب والمثقفين الأردنيين، حيث سقطت رابطة الكتاب
الأردنيين، في شكلها الحالي ليس ضمن التمحور حول النظام في الأردن وإنما
حول النظام السوري وهذه مفارقة صارخة، تطرح تساؤلاً خطيراً حول نزاهة
المثقف، التي أيضاً سبق لجرامشي أن ناقشها ضمن إطار مختلف هو إطار مثقف
السلطة ما بعد سقوطها، وهذه الفكرة إذا ما ناقشناها حول موقف رابطة الكتاب
والتفافها حول النظام السوري، فإنه يضعها، أي الرابطة بتشكيلتها الحالية،
في دائرة المثقف الوطني أولاً وانسلاخه عن مواطنته، وثانياً نزاهة المثقف
ومحاولاته المستميتة في الدفاع عن السلطة التي ترتبط مصالحه بمصالحها تحت
حجج القومية والممانعة والمقاومة التي لم يكن واقعها مع النظام السوري سوى
شعارات واهية، على اعتبار أن ثورة سوريا هي ثورة أجنبية مثلاً ويجب التصدي
لها في حين أن الثورة المصرية التي سبق وتظاهروا معها فقط كانت وطنية.
موقف رابطة الكتاب التي دار جدل كبير في أوساطها وانقسم أعضائها بين مؤيد
ومعارض لإصدار بيان يدين المذابح في سوريا، وخرجت بالمحصلة ببيان خجول على
مضض اعتبر توافقياً يرضى بخجل ولا يرضى كل الأطراف، يضع المثقفين
الأردنيين بحرجٍ شديدٍ أمام زملائهم العرب الآخرين من موقفهم من النظام
السوري ومجازره الدموية، وهو ما استعدى حراكاً على صعيد أخر قاده فنانون
ومثقفون رافضون لقرار الرابطة أو تكاسلها عن اتخاذ موقف جاد، مطالبين وضع
العلاقات الشخصية والمصالح الضيقة جانباً وانحياز المثقف للمطالب الشعبية
الحقيقية ووضع حدٍ لنزف الدماء، مذكرين المثقف بدوره الحقيقي وهو الانحياز
للشعب ضد أيٍ كان.
المثقف الذي ينحاز لفكرة الحرية دوماً كما كان يدعي، استنكر على الشعب
السوري مطالباته بالحرية، بل انحاز للديكتاتورية وبدأ يبحث عن مبررات تبدو
واهية لتبرير القتل بل وتمادى المثقفين باعتبار المذبحة في سوريا دفاعاً
عن الوطن وكتبوا مقالاتٍ في الصحف التي يكتبون بها عن زيارات لهم لدمشق
لتأييد النظام، تنفي هذه المقالات التظاهرات في سوريا متهمين فضائيات
عربية بعمل مونتاج لهذه التظاهرات أو أنه يجري تصويرها في مدن أردنية وليس
سورية، رغم أن الشعب هو الوطن ومطالبه هي مطالب وطن وهو الركن الأول
بالدولة، إلا أن البعض يصر أن ينسى أو يتناسى رسالة المثقف الثورية ويصطف
على جانب مصلحة شخصية وليس لنظام.