ذوات - نزهة صادقإذا اعتبر جون بودرريار أن الحداثة حركة فكرية ورؤية للعالم تستمد وجودها من العقل وتسعى إلى التنوير، وتشكل إرثاً كونياً، كما تعتبر ظاهرة تاريخية مشروطة بظروف محددة تختلف من مكان لآخر، فلا يمكن حصرها في مذهب محدد، أو في مدرسة بعينها، فإن الباحث الجزائري الحاج ذواق يرى أن الاختيار في بعض المواقف التاريخية صعب، بل قد يكون مستحيلا، خاصة إذا وجدت الجماعة التاريخية نفسها في حال مهتز، بين مثالين أو نموذجين؛ أحدهما ورثته من ماضي أسلافها، بوصفه حالة راقية من التجربة في الحياة، تمكنت من خلاله أن تنجز وتضيف إلى العالم بصمتها التاريخية، وكذا أخرجت إلى الوجود نموذج فعل مستقل وخاص، ثم هي فجأة تفقده جراء عوامل متشابكة ومتراكمة؛ ووجدت نفسها أيضا مقابل تجربة أخرى متميزة ومتفوقة، فرضت حضورها بهيمنة كاسحة، باعتبار النموذج الكلي الذي تتسم به، وعلى الرغم من هذا الوضع الذي يقدم الحداثة بين الرغبة فيها وعنها، إلا أن ما قدمته هذه الأخيرة لمجتمعاتها غير كافي، مما يدعو للنظر في الحداثة من منطلق قيمي جديد.
وكما يقول ذواق في بحثه، فإن "..استعادة الفاعل الإنساني، الإنسان الإنسان؛ أي الإنسان في كل تركيبيته وأسراره وفاعليته وإبداعه التي تجعله يتجاوز بيئته المادية الطبيعية المباشرة، وتجعل من العسير رده في كليته إليها، فهو كائن قابل للانتصار والانكسار من الداخل والخارج"(44) كائن ينجح بعد فشل، ويفشل بعد نجاح، في غير يأس ملغ، ولا طموح مفن" بات ضروريا، وهذا الذي عجزت الحداثة الغربية عن إيجاده لأفرادها، وبالتالي لابد من استئنافها من منطلق قيمي آخر، وإطار وجودي وتاريخي حاضن، وأفق كوني مطلق، لا يستبعد الله/الإنسان/الطبيعة، فتتوازن الحياة ويسود العدل ويتعارف الخلق.
يرى الباحث الجزائري دائما في إطار هذا التموقع بين الماضي والحاضر أن المتلقي يجد نفسه بين موروث بتبعاته، وحاضر يفرض يضع الإنسان العربي في زمن تاريخي حرج، تمثل في الصلة الحضارية المستأنفة بشكل عنيف بين الغرب، في صورة الموجة الاستعمارية الجديدة، والعالم الإسلامي المنهك الذي خرج منذ أمد ليس بالقريب من الحضور الفاعل في التاريخ.
ويضيف الحاج ذواق في دراسته المنشورة على موقع مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" والمعنونة ب"الحداثة من النقد والتجاوز إلى التأسيس المركب: مقاربة في رؤية عبد الوهاب المسيري" ان الصلة حميمية، لا يقصد بها التعارف أو نقل النجاحات المختلفة من الضفة الغربية الشمالية للأرض إلى جنوبها أو جنوبها الشرقي، بل يوضح على أن التماس كان عنيفا وشديدا، مصحوبا بعمليات بسيطة في البداية، ثم تركبت مع الوقت، غرضها تعميم النموذج الحضاري الغربي بوصفه سقف التطور الإنساني؛ ولا يتم ذلك إلا بعمليات تفكيك مبرمجة للبنى التقليدية، وللموروثات على شكلانيتها وبساطتها، باعتبار أن اللحاق/الإلحاق لا يُخلص إليه إلا بمنطق التنميط من جهة، أو الحذو من أخرى. وفي الحالتين، العالم الإسلامي أو بقاياه على مستوى الضمائر، مغيب عن العملية، باعتبار الفوات التاريخي والتخلف المكين الذي حرمه من استدراك وضعه الذي وجد فيه، إن قبولا وتلقيا استنساخيا للتجربة الوافدة ككل، أو رفضا بالاحتفاظ بمسافة مقصودة، يأخذ منها ما يريد، ويعلق ما يبدو له مضرا أو غير مجد.
وهذه الحالة التاريخية التي جعلت الغرب يخرج عن نطاقه إلى العالم، مارا بالشرق ومكوناته وأصوله، وصولا إلى أطراف العالم المختلفة، هي الحداثة بوصفها طرازا في التفكير وأسلوبا في الحياة، وإطارا رؤيويا شاملا يقيم الحياة ويحكم عليها. فالعالم الإسلامي والمسلم الذي لا يزال يغط في دثار مراحل التخلف والتراجع، منبهر بما جاءه، فانصدم تأثرا على عالم أخذ يتوارى، وآخر بدأ في التشكل، وهنا ظهرت المواقف الجذرية المتراوحة بين الرافضة تماما لما جاء، وأخرى داعية مبشرة، وثالثة عملت على الجمع والوصل، لكن بمنطق تلفيقي، قارن مرة بقصد إعلاء شأن الذات أمام الآخر، وتالية قارب بغرض البرهنة على تفوق الآخر وأسبقيته في كل شيء ووجوب التعلم منه؛ وهذا ما فوت فرصا تاريخية جمة تمكن من الولوج إلى عالم الحداثة، من باب مبادئها وروحها، لا من تطبيقاتها الناجزة. ما أدخل العالم الإسلامي في مفارقات تاريخية متوالية، أولاها جعلته منحبسا متصلبا في مكانه لا يبرحه، وأخرى دفعت به إلى اللهاث خلف منتجات الحداثة، مستهلكا لها في متوالية استقاء لا تنتهي، أفضت به إلى دوامة مهلكة، ملك ربما دخولها في البداية، لكنه لا يملك الفكاك عنها في الأخير؛ أي بمنطق المآل، الفئات التي أدركت نفسها بتوسط نماذج الحداثة الغربية فقدت أصالتها المعرفية، وكذا الأخلاقية والعلمية، فدفع بها الحال إلى وجوب تكون نوع من التجاوب مع الحداثة، لا يلغيها، باعتبارها تمثل سقف ما وصل إليه الوعي الإنساني في تطوره الطويل.
للاطلاع على البحث كاملا يرجى الضغط هنا
http://goo.gl/M2tfhV