محمد فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 465 معدل التفوق : 1251 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 15/12/2011
| | إزالة الأسطرة وتأسيس الهيرمينوطيقا الفينومينولوجية في فلسفة بول ريكور | |
تسعى هيرمينوطيقا بول ريكور للرموز والعلامات إلى أن تكون فلسفية عبر مفصلة التفكير في الرموز مع التفكير انطلاقاً من الرموز. وتريد هذه الهيرمينوطيقا الفلسفية أن تكون تفكرية ونقدية، في الوقت نفسه؛ أي أنَّها تريد أنْ تمفصل بين تفكيرٍ معطى ومباشرٍ ومرتبطٍ، وتفكيرٍ حرٍ وغير مباشرٍ. وتُظهر الدائرة الهيرمينوطيقية إمكانية إدخال الرموز وتعاليمها في الفلسفة التي تريد دائماً أن تكون مستقلة. والرموز لم تكن يوماً غريبة عن الخطاب الفلسفي، فقد كان هناك دائماً صلةٌ وثيقةٌ بين اللغة الرمزية والتأويل. ويرى ريكور في ذلك دلالةً على استمرارية وجدة الهيرمينوطيقا الحديثة في علاقتها مع الهيرمينوطيقا القديمة. فهناك استمرارية، لأنَّ هيرمينوطيقا المحدثين تستحضر التأويلات العفوية الملازمة للرموز بشكلٍ دائمٍ. في المقابل، ثمة جدة، في الهيرمينوطيقا الحديثة مقارنةً مع تلك التأويلات التلقائية. وتنبع هذه الجدة من البعد النقدي المتأصل في الهيرمينوطيقا الحديثة. ومن خلال هذه الهيرمينوطيقا النقدية – وفقط من خلالها – يمكننا بلوغ السذاجة الثانية التي تحل محل الاعتقادات الأصلية والسذاجة الأولى. يقول ريكور، في هذا الصدد:[…] في جميع الأحوال، ثمة شيء قد ضاع، ضاع إلى الأبد: مباشرية الاعتقاد. لكن إذا كنَّا – نحن المحدَثين – لم نعد قادرين على العيش وفقاً للاعتقاد الأصلي وللرموز الكبرى للمقدس، فإننا نستطيع أن نتوجه – في النقد وعبره – نحو سذاجة ثانية. باختصار، نحن نستطيع – بقيامنا بالتأويل – أن نفهم. وهكذا تنعقد في الهيرمينوطيقا هبة المعنى من الرمز والمبادرة المعقولة لعملية فك الرمز “le déchiffrage”.( 1)ما تريده الهيرمينوطيقا هو بلوغ الاعتقاد بعد-النقدي “postcritique”، وهو ما أسماه ريكور ﺒ “السذاجة الثانية” التي تحل محل الشكل قبل-النقدي للاعتقاد المباشر أو السذاجة الأولى. وفي شرحه لصيغته الأولى للدائرة الهيرمينوطيقية أكدَّ ريكور – متابعاً بولتمان( 2) في هذا الصدد – على الدور المهم، والذي لا يمكن تجنبه، الذي يلعبه الفهم المسبق “la précompréhension” في كلِّ فهمٍ وتأويل. يوجد في تأويل النص ديالكتيك بين الفهم المسبق والنص بوصفه – وفقاً لمصطلحات ديلتاي – تعبيراً مفرداً عن الحياة. وبفضل هذا الديالكتيك يمكننا أن نبلغ السذاجة الثانية المتمثلة في الفهم أو الاعتقاد بعد-النقدي. وفي هذا السياق، ولهذه الأسباب، دافع ريكور – مع بعض الحذر – عن عملية إزالة الأسطرة عند بولتمان، وأشاد بها، معتبراً إياها سمةً أساسيةً لكلِّ نقد ولكلِّ تأويل للرموز والأساطير. وكانت إشادة ريكور حذرة، لأنَّه أكَّد ضرورة التمييز بين إزالة الأسطرة “démythologiser” من جهة، واستبعاد الأساطير أو التخلص منها “démythiser”، والتبسيط وإزالة الغموض “démystifier”، من جهة أخرى. وفي تحديده لمعنى إزالة الأسطرة وتأكيده على تماهيها مع النقد، كتب ريكور: “كلُّ نقدٍ يقوم – بوصفه نقداً – بإزالة الأسطرة، أي يدفع، إلى أقصى حد ممكن، عملية الفصل بين ما هو تاريخي – وفقاً لقواعد المنهج النقدي – وما هو متنكر أو مزعوم كتاريخي”pseudo-historique“.«( 3)فإزالة الأسطرة لا تعني إذن إجلاء أو استبعاد الأساطير، وإنما تشير إلى عملية رفض الأسطورة، بوصفها تفسيراً (الأسطورة-التفسير le mythe-explication)، من أجل تحريرها، بوصفها رمزاً (الأسطورة-الرمز le mythe-symbole). وتنتمي عملية إزالة الأسطرة إلى ما أسماه ريكور لاحقاً ﺒ”هيرمينوطيقا الارتياب أو التدمير“. لكن التدمير – كما قال ريكور مستشهداً بهايدغر –: »هو لحظة موجودة في كلِّ تأسيسٍ جديدٍ.«( 4) وهكذا فإنَّ ريكور يثني على إزالة الأسطرة، بوصفها تدميراً لمزاعم التفسير التاريخي، لكنَّه يؤكِّد أنِّ هذا التدمير ليس سوى مرحلة في عملية تهدف إلى بلوغ إزالة الأسطرة بوصفها بناءً واستعادةً. ولتوضيح وجهَي أو بُعدي إزالة الأسطرة عند ريكور، نجد أنَّه من المناسب استحضار تمييز ريكور لثلاثة مستويات في عملية إزالة الأسطرة عند بولتمان: الإزالة العلمية للأسطرة، الإزالة الفلسفية للأسطرة، إزالة الأسطرة انطلاقاً من الإيمان.الإزالة العلمية للأسطرة تهتم بالأسطورة بوصفها تفسيراً للعالم، أي أنَّها تهدف إلى تجريد الأسطورة من كلِّ زعم إيتيولوجيك”étiologique“( 5) أي ادِّعاء القدرة على تقديم تفسيرٍ لأصل العالم وأسباب الظواهر الموجودة فيه. في هذا المستوى تكون إزالة الأسطرة بمثابة محاولة للتخلص من الأسطورة التي يُنظر إليها على أنَّها”وهمٌ يجب تدميره“( 6). لكن يمكن القول عموماً إنِّ الثقافة الحديثة قد تجاوزت مسبقاً الأسطورة – بوصفها تفسيراً علمياً مزعوماً للعالم – لذا لا يجب اختزال الأسطورة إلى هذه الوظيفة الإبستيمولوجية الهدَّامة والسلبية. فلم تعد إزالة الأسطرة قادرةً على أن تكون تخلصاً من الأساطير، لأنَّ الأسطورة - بوصفها تاريخاً مختلَقاً أو مغلوطاً – قد ثبت مسبقاً وبالفعل بطلانها، وتمَّ استبعادها من قِبَل الثقافة الحديثة. المهم حالياً – من وجهة نظر ريكور – ليس إزالة الأسطرة بوصفه عمل العلم، وإنَّما إزالة الأسطرة، بوصفها عملاً فلسفياً، وإزالة الأسطرة انطلاقاً من الإيمان.الإزالة الفلسفية للأسطرة مرتبطة بالدائرة الهيرمينوطيقية بين الاعتقاد والفهم والفهم المسبق من جهة، والأساطير والرموز والنصوص المؤولة، من جهة أخرى. تنتقل إزالة الأسطرة – في هذا المستوى – من تدمير الأسطورة بوصفها معرفة زائفة، إلى تأويل وجوداني”existentiale“( 7)، وإلى فهمٍ للذات، وإلى ملاءمة الذات أو تملكها”appropriation“عبر التمثيلات الموضوعية للأساطير. وبكلماتٍ أخرى، إنَّ رفض الأسطورة – بوصفها تفسيراً علمياً زائفاً للعالم – لا يعني مطلقاً أنها مجردة أو خالية من المعنى. فهذا الرفض هو وجهٌ أو بعدٌ سلبيٌ وهامشيٌ في عملية إزالة الأسطرة.ويتمثَّل الوجه الايجابي والأساسي في الإمساك بمعنى الأسطورة عن طريق التأويلات الوجودانية التي تحوِّل كلمات أو ألفاظ الأسطورة وادِّعاءاتها بالموضوعية إلى خطابٍ حول الذات، من أجل فهم هذه الذات. وهذا النوع من إزالة الأسطرة هو جزء من المرحلة الثالثة – المسماة بالمرحلة الفلسفية – من عملية فهم الرمز عند ريكور. وفي شرحه لهذا النوع من إزالة الأسطرة، كتب ريكور:[…] إزالة الأسطرة هي إذن تأويل الأسطورة، أي إرجاع التمثيلات الموضوعية للأسطورة إلى هذا الفهم للذات والذي يُظهِر ويُخفي نفسه فيها. […] وعلى العكس من الحركة الأسطورة التي تتجه إلى الموضعة، فإنَّ تحرير قصد الأسطورة يتطلَّب اللجوء إلى التأويل الوجوداني وفقاً لطريقة هايدغر في الكينونة والزمان؛ وهذا التأويل الوجوداني – البعيد عن التعبير عن مقتضى الروح العلمية – يصطدم بشكلٍ جبهي مع الادِّعاء – الفلسفي وليس العلمي بذاته – باستنفاد معنى الواقع من قِبَل العلم والتقنية.( 8)الشكل أو المستوى الثالث من عملية نزع الأسطرة يرتبط بالإيمان المسيحي ذاته. ومن حيث المبدأ، يمكن تطبيق التأويل الوجوداني – بوصفه عملاً للإزالة الفلسفية للأسطرة – على كلِّ أنواع الأساطير. أما الشكل الثالث من نزع الأسطرة فيركِّز على خصوصية الإنجيل والإيمان المسيحي. إنَّ النواة التبليغية”kérygmatique“للنبوءة المسيحية الأصلية – والتي تتطلب إزالة الأسطرة عنها – تتضمن هي نفسها نوعاً من إزالة الأسطرة. ويرى ريكور أنَّه قد تم ممارسة وتطوير هذا النوع الأخير من إزالة الأسطرة من قِبل القديس بول والقديس جان.يُظهر تمييز وتحليل ريكور لهذه الأنواع الثلاثة من إزالة الأسطرة عند بولتمان الأسباب التي دفعت ريكور إلى التأكيد على أهمية إزالة الأسطرة، بوصفها نقداً يهدف إلى تجاوز الأسطورة، من حيث أنَّها تفسير علمي زائف للعالم، نحو تأويلٍ خلاقٍ للأسطورة، بوصفها رمزاً، أي نحو الأسطورة-الرمز. وإنَّ التعامل مع الأسطورة، على أنَّها رمز، يقتضي فهم معناها الرمزي أو الثاني، عبر فهم معناها الحرفي أو الأول. وتقوم عملية إزالة الأسطرة بدور هام، في هذا الصدد، بقدر ما تسمح لنا بتجاوز الأسطورة بوصفها تفسيراً، نحو الأسطورة، بوصفها رمزاً. وبكلماتٍ أخرى، تساعد عملية نزع الأسطرة على تجاوز المعنى الأول للأسطورة للوصول إلى معناها الثاني: المعني الرمزي. ولهذا انتقد ريكور بولتمان الذي اختزل، في بعض الأحيان، الأسطورة إلى معناها الحرفي، دون أن يأخذ بعين الاعتبار بنيتها أو تركيبتها الرمزية.( 9) وللتأكيد على ضرورة التمييز بين المعنى الأول الحرفي والمعنى الثاني الرمزي في الأسطورة-الرمز، وجَّه ريكور انتقاداً قوياً لبولتمان الذي أهمل أحياناً هذا التمييز وضرورته في ممارسته لإزالة الأسطرة. وقد كتب ريكور، في هذا الصدد:يبدو أنَّ بولتمان يتجاهل تعقيد الأسطورة. ولهذا فهو عندما يتحدث مثلاً عن ضرورة إزالة الأسطرة عن أسطورة الانقسام الثلاثي للكون إلى جنة وأرض وجهنم، فإنَّه يعامل الأسطورة من حيث تأويلها الحرفي أو بالأحرى تأويلها السيء. لكن بولتمان لا يدرك أنِّه يوجد في الأسطورة بُعدٌ رمزي، بالإضافة إلى البعد الحرفي أو الرمزي الزائف، وأنَّ إزالة الأسطرة صالحة فقط حينما يتعلق الأمر بهذا البعد الأخير.( 10)أن ندير ظهورنا للأسطورة-التفسير يعني، في الوقت نفسه، أن نتناول الأسطورة، بوصفها رمزاً. وبهذه الطريقة تتحقق – بطريقة بناءة – الدائرة الهيرمينوطيقية بين الاعتقاد والفهم. فيقتضي فهم الرمز، أولاً وكافتراضٍ مسبق، الاعتقاد بأنَّ ثمة معنى موجود مسبقاً في امتلاء اللغة. وفي المقابل، نحن لا نستطيع الاعتقاد إلا بواسطة فهم تأويلي ونقدي للرمز. ويتم التجاوز الحاسم لهذه الدائرة الهيرمينوطيقية في المرحلة الثالثة من فهم الرموز. وتقوم هذه المرحلة الفلسفية على التفكير انطلاقاً من الرمز وليس في أو داخل الرمز، كما كان الحال عموماً في المرحلتين السابقتين (الفينومينولوجية والهيرمينوطيقية).صراع التأويلات والمراحل الثلاث للطريق الطويل لهيرمينوطيقا ريكور الفلسفية: الدلالية، والتفكُّرية، والوجوديةلقد كثَّف ريكور من اهتمامه بمراحل فهم الرموز عموماً، وبالمرحلتين الهيرمينوطيقية والفلسفية خصوصاً. وبدا ذلك واضحاً في كتاب”في التفسير. محاولة في فرويد“، وفي المقالات التي نشرها في ستينيات القرن الماضي – والتي تمَّ تجميع معظمها لاحقاً، وإصداره في كتاب”صراع التأويلات. دراسات هيرمينوطيقية“. ففي مقالته المهمة”الوجود والهيرمينوطيقا“والمنشورة عام 1965، بدأ ريكور بالتنظير لتأسيس الهيرمينوطيقا في الفينومينولوجيا، وتحدث عن ثلاث خطوات لهذا التأسيس: دلالية (سيمانطيقية)، تفكُّرية، وجودية. ويبيِّن ترتيب هذه المراحل عموماً، وكون المرحلة الوجودية هي المرحلة الأخيرة، ما يعنيه ريكور بالطريق الطويل. فسلوك الطريق الطويل يعني أنَّ الأنطولوجيا يجب أن تكون مسبوقة بتناول الأسئلة المنهجية والإبستيمولوجية وبدراسات لغوية وتفكُّرية.تتضمَّن المرحلة الدلالية دراسة معيارية للرموز – تُبيِّن مستويات ظهورهم وتحليلهم القصدي – والفهم الفينومينولوجي والفهم الهيرمينوطيقي للرموز. الجدير بالملاحظة، في هذه المرحلة، هو أنَّ المنعطف اللغوي الذي بدأ في الفلسفة الريكورية في عام 1960، قد تمَّ تعزيزه وتوطيده بشكلٍ أكبر في السنوات اللاحقة، ووصل إلى ذروته ابتداءً من سبعينيات القرن الماضي.( 11) وفي تأكيده على أهمية الدراسة أو المرحلة الدلالية أو اللغوية، كتب ريكور: »يُعبِّر كلَّ فهم أونطيقي أو أنطولوجي عن نفسه – أولاً ودائماً – في اللغة.«( 12) وفي هذه المقالة، وفي كتابه عن فرويد، أكَّد ريكور على الاعتماد المتبادل والترابط الوثيق بين مفهومي التأويل والرمز. يكتب ريكور: »وهكذا يصبح مفهوما التأويل والرمز متلازمين. يوجد تأويل حيث يوجد معنى متعددٌ، وفي التأويل تصبح تعددية المعنى جليةً.«( 13) ورأى ريكور أنَّه، بالإضافة إلى الدراسة المعيارية للرموز، على المرحلة الدلالية أن تتضمن إحصاءً لأنماط أو أساليب المقاربات أو العمليات الهيرمينوطيقية. ويجب إكمال هذا الإحصاء بتحليلٍ نقدي لتنوع المناهج الهيرمينوطيقية. ويسعى هذا التحليل النقدي، في الوقت نفسه، إلى إظهار مشروعية أو صحة كلّ نسقٍ هيرمينوطيقي أو كلّ منهجٍ تأويلي، وحدود هذه المشروعية أو الصحة. وبإظهاره هذه الحدود الناتجة عن البنية النظرية لكلِّ منهجٍ هيرمينوطيقي، ينشد هذا التحليل النقدي »التحضير لممارسة مهمته الأعلى، والتي ستكون القيام بتحكيم حقيقي بين الادِّعاءات الشمولية لكل واحدٍ من التأويلات.«( 14) تهتم المرحلتان التاليتان (المرحلة التفكُّريِّة والمرحلة الوجودية) بما سبق أن تحدث عنه ريكور عموماً بخصوص المرحلة الثالثة من الفهم الفلسفي للرموز. وبسبب أو بفضل الموقع المتوسط للمرحلة التفكرية بين المرحلتين الدلالية والوجودية بتأمين انتقال الهيرمينوطيقا من المرحلة الأولى الدلالية – المهتمة بالتحليل اللغوي والنقدي للرموز ولتأويلاتهم – إلى المرحلة الأخيرة الأنطولوجية والتي تشكل الغاية القصوى للفلسفة الريكورية. المنشود، على المستوى التفكُّري، هو فهم الذات. ولأنَّ هذا الفهم لا يمكن أن يكون مباشراً أو غير متوَّسط، فهو يلجأ إلى الفهم التأويلي للرموز والعلامات. وتعود وظيفة الوساطة التي تقوم بها المرحلة التفكُّرية إلى كونها تربط بين جهدنا للوجود (الأنطولوجيا) والتعابير (الدلالية) التي تعكس هذا الجهد وهذا الوجود. وهكذا قام ريكور بإكمال تعرفه السلبي للتفكُّر – الذي يؤكِّد أن التفكُّر ليس حدساً – بتعريفٍ إيجابي يرى فيه أنَّ »التفكر هو ملاءمة جهدنا من أجل الوجود، وملاءمة رغبتنا في الكينونة من خلال الأعمال التي تشهد على هذا الجهد وهذه الرغبة.«( 15) وهكذا نجد في فلسفة ريكور ترابطاً وتمفصلاً بين الأنطولوجيا (جهدنا من أجل الوجود ورغبتنا فيه)، والتفكُّر (فهم الذات)، والهيرمينوطيقا (تأويل التعابير التي تعكس هذا الجهد، وهذه الرغبة، وهذا الوجود، وتساعد على تحقيق هذا الفهم). ففهم الذات يقتضي حتماً فهم الأعمال التي تعبر من خلالها هذه الذات عن نفسها وتأويلها، و »في هذه الذات يكون لدينا فرصة التعرف على موجودٍ.«( 16)الكوجيتو أو اﻠ”أنا أكون“هي الحقيقة الأولى ونقطة الانطلاق في الفلسفة الريكورية. ولأنَّ هذا الكوجيتو فارغ ولا يمكن قهره، فهو بحاجة لأن يتمَّ ملؤه بتأويلات نقدية تتناول الوعي الزائف الموجود فيه. ومن الرغبة بملء هذا الكوجيتو والوقوف وقفة نقدية تجاه وعيه الزائف ينتج أمران أساسيان. الأول: هناك إمكانية دائماً لتعددية التأويلات والأنماط الهيرمينوطيقية التي تتناول الذات والكينونة. فثمة هيرمينوطيقات تؤول الحاضر، انطلاقاً من ماضيه أو من جذره وأصله وما شابه – ونجد نموذجاً لذلك في التحليل النفسي الفرويدي – وثمة هيرمينوطيقات تؤول الكينونة والذات انطلاقاً من نظرة تقدمية نحو غاية ما مُفترَضة – كما هو الحال في فينومينولوجيا هيغل – أو انطلاقاً من النهاية الأخيرة المفترضة – كما هو الحال في فينومينولوجيا الدين الآخروية”eschatologique“، أي المتعلقة بالنهاية أو الآخرة. يرى ريكور أنَّه لا يمكن فصل هذا الاختلاف أو الصراع بين الهيرمينوطيقات المتنافسة عن أنطولوجيا متضمَّنة أو منخرطة”impliquée“في هذا الصراع وتعددية. فهي منخرطة، لأنَّه لا يمكن الإمساك بالكينونة أو إدراكها أو تصورها إلا بوصفها كينونة مؤوَّلة، وليس مطلقاً ككينونة منفصلة. وينتج هذا الانخراط لأنطولوجيا الفهم في منهجية التأويل عن الدائرة الهيرمينوطيقية التي لا يمكن تجنبها. ولا يمكن لأنطولوجيا الفهم أن تكون أنطولوجيا موحَّدة لأنَّه يمكن للكينونة دائماً أن تُقال بطرق متعددة. وهكذا فإنَّ أنطولوجيا ريكور – التي تشكِّل أفق وهدف فلسفته – تختلف بشكل واضح عن الأنطولوجيا الهايدغرية. لتوضيح السمات الرئيسة للأنطولوجيا في فلسفته واختلافها عن أنطولوجيا هايدغر، يكتب ريكور:تبقى أنطولوجيا الفهم متضمَّنة في منهجية التأويل وفق”الدائرة الهيرمينوطيقية“الحتمية، التي علمنا هايدغر نفسه تَقَفي أثرها. بالإضافة إلى ذلك، فإننا فقط في صراع الهيرمينوطيقات المنافسة، ندرك شيئاً ما من الكينونة المؤوَّلة؛ فالأنطولوجيا الموحَّدة – كحال الهيرمينوطيقا المنفصلة – منيعةٌ على منهجنا. ففي كلِّ مرةٍ، تكتشف كلُّ هيرمينوطيقا وجه الوجود الذي يؤسِّسها كمنهج.( 17)وهكذا نجد أنَّ صراع الهيرمينوطيقات وتعددية التأويلات هو نتيجة منطقية ومحتومة لكون”الكينونة يمكن أن تقال بطرق متعددة“، كما يؤكد ريكور، متابعاً أرسطو في هذا الشأن. فكلُّ نسقٍ هيرمينوطيقي يعكس الكينونة وتبعية الذات لهذه الكينونة. وتأخذ هذه التبعية أشكالاً متعددة: تيليولوجية، أركيولوجية، آخروية. والأسئلة الواجب طرحها هنا هي: ما هي إمكانية مفصلة هذه الطرق المتعددة من التأويل في هيرمينوطيقا عامة؟ هل يمكن حسم هذا الصراع بين التأويلات المتنافسة؟ هل هناك مجال لتصور أو إقامة علاقة تكاملية ديالكتيكية بين هذه المناهج التأويلية المتنافسة؟ تكتسي محاولة الإجابة على هذه التساؤلات أهمية لفهم هيرمينوطيقا ريكور، نظراً إلى أنَّ ريكور حاول القيام بوساطة بين الهيرمينوطيقات المتنافسة، على أمل المساهمة في تأسيس هيرمينوطيقا عامة، وسعياً لدمج التأويلات المتنافسة في التفكُّر الفلسفي.لتوضيح مشهد صراع التأويلات أو الهيرمينوطيقات – والذي كان الموضوع الرئيس لهيرمينوطيقا ريكور في الستينيات – انكبَّ ريكور على دراسة الهيرمينوطيقات المتعارضة بشكل قطبي ومتطرف. ففي الطرف الأول هناك هيرمينوطيقا إعادة البناء”herméneutique de la reconstruction“، وهي أساساً هيرمينوطيقا لاهوتية تنشد إعادة جني أو استعادة المعنى. وفي الطرف الثاني، هناك هيرمينوطيقا التدمير ذات التوجه الأركيولوجي، والمؤسَّسة على ممارسة الشبهة أو الريبة، ليس تجاه ما يصدر عن الوعي أو الفكر الإنسانيين فحسب، بل تجاه هذا الوعي نفسه أيضاً. ويرى ريكور أنَّ ماركس ونيتشه وفرويد هم”أساتذة للشبهة أو الريبة“بامتياز.وينتمي المنهج الذي طبَّقه ريكور ووضع أسسه النظرية في”رمزية الشر" بشكلٍ جلي إلى هيرمينوطيقا إعادة البناء. وقد سعى ريكور لاحقاً إلى مواجهة منهجه الهيرمينوطيقي بالمناهج المعارضة له بشكل كبير. وهكذا انتقلت إشكالية المنهج في الهيرمينوطيقا الريكورية من صياغة وتطبيق منهجها الخاص إلى مواجهة حوارية وصراعية، في الوقت نفسه، مع المناهج الهيرمينوطيقية الأخرى، المختلفة عنها أو المخالفة لها. وبهذا الانتقال، لم يسعَ ريكور إلى مجرد الدفاع عن منهجه الهيرمينوطيقي الخاص، ورفض المناهج المعارضة له أو المختلفة عنه. على العكس من ذلك تماماً، لقد أكَّد ريكور على الأهمية الكبيرة والقيمة النسبية لتلك المناهج، وحاول أن يدمجها – ولو بشكلٍ جزئي – في منهجه الهيرمينوطيقي الخاص. ويمكن لنا أيضاً تفسير محاولة ريكور القيام بوساطة بين المناهج الهيرمينوطيقية المتعارضة والمتنافسة برؤية ريكور أنَّ ذلك هو مهمة الفلسفة بوصفها فلسفةً.إنَّ هيرمينوطيقا ريكور للرموز والعلامات هي هيرمينوطيقا النزاع أو الصراع( 18) بين التأويلات أو الهيرمينوطيقات، من جهة، وهيرمينوطيقا محاولة التوفيق النسبي والجزئي بين هذه التأويلات والهيرمينوطيقات، من جهة أخرى. وباختصار، الهدف الأساسي الذي سعى ريكور إلى تحقيقه – في مرحلة هيرمينوطيقا الرموز والعلامات – هو توضيح مشهد الصراع بين الهيرمينوطيقات، من جهة، واستكشاف إمكانية القيام بوساطة بين هذه الهيرمينوطيقات المتعارضة، من جهة أخرى. | |
|