« Sachez avoir tort. Le monde est rempli de gens qui ont raison. C'est pour cela qu'il écœure » Céline, Extrait d’une lettre à Henry Miller, 1934.
توطئة:
نزولا عند رغبة بعض طلابه، استهل هايدغر إحدى محاضراته حول أرسطو بنبذة عن سيرة المعلم الأول لا تتعدّى ثلاث كلمات، فقال:’’ ولد، تعب ومات‘‘ (1)، ثم دعا مستمعيه إلى الانخراط توّا في أسئلة الفكر’’الأساسية‘‘! ولكم وددنا مباشرة الحديث عن بول فيرباند، على ذات الشاكلة، لولا شناعة القياس وهول الفارق بين مقامين، مما لا يحوج إلى بيان.
لكن، على فرض هول هذا وسلامة ذاك، فما عسانا كنا سنضع بين حدّي الميلاد والموت؟ وعلام يحمل معنى ’’التعب‘‘ الفيرباندي، على الحقيقة، لو صحّ في حقه التوصيف الهايدغري الطريف؟ هل نقرؤه على ضوء البيوغرافيا ومواعيد ’’الضابط‘‘ البريختي القديم مع التاريخ - مع سابق علمنا بمحاذير هذه ’’الهيرمنوطيقا‘‘ منهجيا، وانحرافاتها البوليسية أحيانا- أم نقرؤه، بكل بساطة، على ضوء ’’روح العصر‘‘ الموسوم بالغارة الفلسفية والإيديولوجية على ’’مرويات‘‘ الحداثة الكبرى؟
ومما لا شك فيه أن فيرباند يتعب قارئه الشغوف بحديث المذاهب والفرق؛ فهو يدرج نظريته حول العلم في خانة ’’الفوضوية الإبستمولوجية‘‘، لكنه لا يخفي استعداده للأخذ ببعض ’’المبادئ‘‘ مما ينافي روح الفوضوية المناهضة لكل ’’مبدأ‘‘arkhê ،αρχn ؛ ويعلن انتماءه تارة إلى ’’النسبانية‘‘ البروتاغورية (نسبة إلى شيخ السوفسطائيين)، وطورا إلى ’’الواقعانية‘‘، لكنه سرعان ما يتنصل من ذلك كله منتسبا، بالأحرى، إلى ’’الدادائية‘‘Dadaïsme في العلم!؛ وينافح بحماسة عن التنجيم- فضلا عن السحر والتصوف والأسطورة - في وجه منتقديه من العقلانيين، مع أنه لا يخفي قرفه من ’’علم‘‘ البوني ونوستراداموس؛ ويهاجم ’’العقلانية‘‘ هجوما شرسا، كما سنرى، مع أنه لا يتردد في الثناء على أرسطو وليسنغ وهايني وبعض أقطاب ’’دائرة فيينا‘‘ الوضعانيين؛ ويبدي عطفه على نيتشه، لكنه يسخر من صيحة ’’موت الإله‘‘ واصفا إياها بالسخافة(2) .
هذه عيّنات من ’’عدم الاتساق‘‘ الذي يسم القول الإبستمولوجي الفيرباندي، بل هو يقرّه ويحثّ عليه حثّا، ويشهد له؛ إذ ما الضير في عدم الاتساق إذا كان يخدم تقدم العلم ؟ يتساءل فيرباند؛ بل ما الضير في مديح الفوضى- والكاووس واللامنهج- إذا كان ذلك هو ’’العلاج‘‘ المناسب لأسقام العقل والعقلانية؟ أمّا قراء فيرباند، عندنا، فتوزّعوا دائما بين معارض مندّد ومعجب مؤيّد ومتفهّم حذر؛ لكن ليس ثمة فاصل واضح ومضمون دائما، في دائرة المعجبين المهللين، بين المحسوبين على فكر ’’ما بعد الحداثة‘‘- بشتى أطيافه القارّية وغير القارّية- وبين المنتسبين، ذاتيا أو موضوعيا، إلى ذهنيات التقليد والارتكاس(3)؛ ونظرة ملقاة على ما نشر وينشر عربيا حول الرجل، ولاسيما المقالات العنكبوتية، تظهرنا على ذلك. فكيف نحمي أولئك من هؤلاء؟ وبعد ذلك : كيف نقرأ فيرباند؟ ولأية غاية؟ أسئلة لا ندعي في شأنها قولا فصلا؛ ثم إن الأمر مشكل وأعوص من أن يبسط في مقال آثرنا أن يكون محض مدخل إلى هذه الإبستمولوجيا المشاكسة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.فمن هو فيرباند؟
سيرة ’’ رجل رقيق القلب...‘‘:
بول كارل فيرباند؛ سيرة قوامها الاغتراب والخذلان والترحل الدائم. ولد في فيينا عام 1924، من أب موظف وأمّ خياطة. حملتهما ظروف البلد، الخارج لتوّه من الحرب العظمى، على حجب الصغير عن الأقران في بيت العائلة المكون من ثلاث غرف إلى غاية 1930، تاريخ التحاقه بالمدرسة؛ تجربة أورثت الصبي ’’المتوحد‘‘ حسا كفكاويا مبكرا لم يفارقه قط (4)، وشخصية حالمة، جامحة الخيال.
أدمن القراءة، وشغف بالمسرح والموسيقى والغناء فضلا عن الفيزياء والفلك، قبل أن ينهى دراسته الثانوية عام 1942. وبعدها رحل إلى ألمانيا حيث التحق بخدمة العمل الإجباري Arbeitsdienst التي أنشأها هتلر. ثم ما لبث أن انخرط في صفوف الجيش النازي ضجرا من أشغال الحفر والتعزيل التافهة؛ بل فكّر في الانضمام إلى جهاز SSلأسباب ’’جمالية‘‘ حسب تعبيره.
خلال ذلك، تلقّى نبأ انتحار والدته المفجع. خلّف الحدث ندوبا نفسية عميقة لم ينفع معها ترحل أو نسيان. وسرعان ما ترقى الجندي فيرباند إلى رتبة ضابط؛ لكن ثلاث رصاصات في إحدى معارك 1945 غيّرت المسار. استقرّت إحداها في قلب عموده الفقري، فأصيب على إثرها بشلل الأطراف السفلى؛ وصار العكّاز رفيقه الدائم.
وهكذا التحق بمعهد فيمار Weimar لدراسة المسرح والغناء، هناك حيث كانت الصولة لتلامذة بريخت الماركسيين. وعاد فيرباند إلى فيينا، فقرّر دخول الجامعة لدراسة التاريخ والاجتماع؛ لكنه سرعان ما غيّر الاتجاه ميمّما شطر الفيزياء- حيث تعرّف على الفيزيائي المنشقّ فليكس إهنرهافت- ثم شطر الفلسفة، منتسبا صراحة إلى تيّار الوضعانية المنطقية. لكن سنحت الفرصة عام 1948 لمقابلة كارل بوبر، ضيف الحلقة الدراسية المنعقدة بمدينة ألباخ Alpbach. وخلال هذه الفترة أيضا، التقى برتولد بريخت(5) ، وتأثّر به غاية التأثّر، قبل أن يهجره بدافع الكبرياء والرغبة في ’’الاستقلال‘‘؛ وسيعترف فيرباند، فيما بعد، أنّ تلك كانت غلطة العمر.
شارك فيرباند بحماسة، وهو طالب، في برامج ’’دائرة كرافت‘‘ الوضعانية التي استضافت بيلا يوهس، فون رايت، إليزابيت أنسكومب ولودفيغ فتغنشتاين. وأثمر لقاؤه بأنسكومب، تلميذة فتغنشتاين ومترجمته، عدة مقالات نشرت باللغة الألمانية حول مؤلف ’’التركتاتوس‘‘. في عام 1951 تقدّم فيرباند بأطروحة لنيل الدكتوراه في الفلسفة -عوض دكتوراه الفيزياء التي لم يحالفها التوفيق- ويتعلق موضوعها بمسألة ’’المنطوقات البروتوكولية‘‘ في العلم؛ وهي في غاية الأهمية بالنسبة لوضعانيي فيينا آنذاك. وقرّر الرحيل إلى إنجلترا قصد الدراسة مع فتغنشتاين في كامبردج، لكنّ وفاة هذا الأخير أحبطت أمانيه؛ فانتسب إلى كارل بوبر، صاحب الصولة في مدرسة لندن للاقتصاد LSE. وهكذا اعتنق الإبستمولوجيا ’’التفنيدية‘‘ البوبرية، ونافح عنها زمنا ضدّ النزعة الاختبارية الإستقرائية؛ بل ترجم لبوبر كتاب’’المجتمع المفتوح وأعداؤه‘‘.
وشغل لفترة قصيرة منصب أستاذ فلسفة العلوم بجامعة بريستول Bristolبمساعدة بوبر وإرفين شرودنغر، قبل أن يلتحق بجامعة بيركلي الأمريكية أواخر الخمسينات. وبين هذين التاريخين وتاريخ إصداره للكتاب- الظاهرة ’’ضد المنهج‘‘، عام 1975، سلسلة حلقات متتالية من العطاء والانعطاف والتفاعل مع أعلام القرن وأحداثه، مما لا يتسع المقام لذكره بالتفصيل. حسبنا الإشارة إلى بعض ذلك : نشره عام 1954 لمقالاته الأولى حول ميكانيكا الكمّ التي انتقد فيها مدرسة كوبنهاجن، مؤيّدا تأويلات دافيد بوهم؛ وكانت فرصته للدفاع عن مبدأ ’’وفرة النظريات‘‘؛ ومقابلته عام 1955 لفليب فرانك، الوضعاني القديم، الذي ألهمه دعواه المعلومة حول غاليلي - ويعترف فيرباند بأنّ الفصول المنذورة للعالم الإيطالي من كتاب ’’ضدّ المنهج‘‘ مدينة لفرانك (6) -؛ ولقاؤه مع توماس كون بجامعة بيركلي؛ ونشره لعدة مقالات، خلال الستّينات، دفاعا عن ’’واقعانية‘‘ مناهضة لوضعانية فيينا، ومعزّزة لمبدأ ’’وفرة النظريات‘‘ ومبدأ ’’ قابلية الاختبار‘‘؛ ونشره لمقال أساسي، عام 1962، تحت عنوان’’التفسير،الردّ والاختبارية‘‘ صقل فيه مفهوم ’’اللامقايسة‘‘ incommensurabilité الذي تعود إرهاصاته، في الواقع، إلى مداخلاته في الحلقة الدراسية المنعقدة عام 1958 بمدرسة لندن للاقتصاد ثم أكسفورد بحضور بوبر وثلّة من تلامذة فتغنشتاين؛ ومقابلته للفيزيائي والفيلسوف كارل فون فايزكر بمناسبة حلقة دراسية انعقدت، عام 1965، بهامبورغ؛ ثم نشره لمقاله الهام ’’العلم بدون تجربة‘‘ عام 1969، قاطعا بلا رجعة مع التقليد الاختباري؛ ثم إنّه كتب مقالا عام 1970 تحت عنوان ’’ضدّ المنهج‘‘؛ واتفق مع صديقه إيمري لاكاتوس على تأليف كتاب مشترك بينهما تحت عنوان’’مع المنهج وضد المنهج‘‘، حيث يكتب لاكاتوس دفاعا عن العقلانية العلمية بينما يكتب عنها فيراباند مهاجما ومبطلا. لكن رحيل لاكاتوس المفاجئ عام 1974 حال دون ذلك؛ فقرّر فيرباند نشر ما كتبه عام 1975.
وهكذا صدر أهمّ أعماله تحت عنوان : ضدّ المنهج، خطة لنظرية فوضوية في المعرفة‘‘؛ ومنه تفرّغ لنقد البوبرية، ذات النفوذ الواسع في الحقل الإبستمولوجي، ممعنا في النقد إلى درجة التشنيع والتقريع، واصفا بوبر والبوبريين- والسواد الأعظم من العقلانيين- بأقبح النعوت كالأقزام والفئران والمرضى، وما شابه ذلك؛ حتى أنه سيبرر ترجمته لكتاب بوبر، سالف الذكر، بمجرّد حاجته إلى النقود؛ ويفسّر إحالاته المتكرّرة على كتابات بوبر بإلحاح هذا الأخير وتلامذته على ذلك، وبأنه ’’رجل رقيق القلب(7)‘‘! نشرت لفيرباند نصوص أخرى لا تخلو من أهمية بالنسبة لدارسيه وقرائه؛ ونذكر منها :’’العلم في المجتمع المفتوح‘‘، 1978؛ و’’أوراق فلسفية‘‘ في ثلاثة أجزاء، 99-1981 (الجزء الأوّل، نشر قبل ذلك، باللغة الألمانية)؛ ’’العلم من حيث هو فنّ‘‘،1984؛ ’’وداعا للعقل‘‘،1987؛’’ثلاث محاورات في المعرفة‘‘،1991؛ ’’قتل الوقت‘‘،1995، وهو كتاب سيرته الذاتية الذي خطه قبيل الرحيل...
مروية المنهج: ’’كل شيء جائز‘‘!
من مفارقات فيرباند في كتابه ’’ضد المنهج‘‘ أنه يتوسل، في هجومه على ’’التفنيدية‘‘ البوبرية، بطائفة من ذات الحجج التي نافح بها عن مواقعه البوبرية العقلانية القديمة.
ولعل المؤلف منسجم، في ذلك، مع نفسه مادام يقدم عمله كخطة ’’فوضوية‘‘ بله ’’دادائية‘‘ في نظرية المعرفة؛ فضلا عن اعتراضه المعلن على منتقديه ممن يعتمد على كتابات سابقة. يمثل الكتاب، مع ذلك، حصاد الإبستمولوجي المترحل : ’’فوضوية‘‘، نسبانية وواقعانية، على أنقاض ’’تفنيدية‘‘ بوبرية كانت مطيته، ذات يوم، للتخلص من إرثه الوضعاني القديم. من العقلانية إلى النسبانية، ومن الوسيلانية إلى الواقعانية، ومن كرافت وبوبر إلى كوهن ثم لاكاتوس؛...فماذا كانت الحصيلة يا ترى؟ وددنا، قبل الحديث عنها، أن نعرج على ما ذكرنا من مذاهب واحدا واحدا لولا ضيق المجال.
حسبنا هذه اللمحة عن’’الصف الأول‘‘ من المعنيين بالهجوم الفيرباندي على عقلانية العلم؛ ونعني بذلك النزعة الاستقرائية Inductivisme والنزعة التفنيدية :Falsificationisme النزعة الاستقرائية : يبدأ العلم لدى الاستقرائيين- جون س. ميل ثم دائرة فيينا- بملاحظة ’’الوقائع‘‘ الموضوعية التي تنقلها إلينا الحواس دون أفكار مسبقة. ويتعين أن تكون ’’المنطوقات المفردة‘‘singuliers énoncés المطابقة لهذه الملاحظة قابلة للتبرير بالرجوع إلى خبرة الحسّ السليم في الزمان والمكان؛ لكن المعرفة العلمية، بطبيعتها، تطمح إلى صوغ القوانين والنظريات المكونة من ’’المنطوقات الكلية‘‘énoncés universels ذات المدى العام وغير المحدود؛ ومن هنا تنبع الحاجة إلى ’’الاستقراء‘‘ الذي ينبغي أن يستجيب لثلاثة شروط : 1- أن يكون عدد المنطوقات المفردة التي ينبني عليها التعميم مرتفعا؛ 2- أن تتكرر الملاحظات داخل شروط شديدة التنوع؛ 3- ألا يتعارض أي منطوق من منطوقات الملاحظة مع القانون الكلي المتأدى إليه بالاستقراء. وحالما يتوفر العلم على القوانين والنظريات الكلية، فإن في إمكانه أن يستخلص منها، بواسطة الاستنباط déduction، وبعد مراعاة ’’الشروط الأولية‘‘- عمليات وصف الأدوات والأجهزة التجريبية المستعملة مثلا- شتى النتائج التي تكون بمثابة التفسيرات والتنبؤات.
إن موضوعية العلم تنهض، قبل كل شيء، على ’’موضوعية‘‘ الملاحظة والاستدلال الاستقرائيين. وهو علم مطرد التقدم بسائق من قابلية منطوقاته غير المحدودة للتعميم و زيادة المحتوى. والحق يقال، إن عددا من أنصار الاستقراء، ولاسيما المتأخرين منهم، لا يجدون أنفسهم في هذه الصيغة الكلاسيكية و’’الساذجة‘‘ للبرنامج؛ لكن دعاوى من قبيل ’’الموضوعية‘‘ و’’التقدم‘‘ و’’زيادة المحتوى‘‘ ظلت ثابتة عندهم. ورغم التعديلات التي ألحقت بالبرنامج القديم، فإن ’’مشكلة هيوم‘‘ ما فتئت تقض مضجع القوم؛ وهي مشكلة ’’مبدأ الاستقراء‘‘ ذاته: كيف نبرره؟ لقد صيغ المبدأ، في صورته التقليدية، على النحو التالي :’’إذا تمت ملاحظة عدد كبير من(أ) في ظروف شديدة التنوع، وإذا لوحظ أن جميع (أ)، دون استثناء، تحمل الخاصة (ب)، فإن جميع (أ) تحمل الخاصية (ب)‘‘. ومعلوم أن صدق النتيجة في الاستدلال الاستنباطي يلزم عن صدق المقدمات بالضرورة؛ وهذا ما لا يتوفّر في الاستدلال الاستقرائي؛ فقد تكون نتيجته كاذبة بينما مقدماته صادقة، دون أن يقع بذلك في تناقض. لقد اتضح، على إثر هيوم، أن المبدأ غير قابل للتبرير المنطقي والتجريبي ، حيث لا يمكن تبرير مبدأ الاستقراء بالاستقراء دون الوقوع في الدور.
وفضلا عن ذلك، تم استشكال شرطي ’’العدد‘‘ و’’التنوع‘‘؛ فالشرط الأول هلامي، والشرط الثاني يستلزم التسليم بأسبقية ’’النظرية‘‘ على الملاحظة؛ وهو أمر لا يستسيغه البرنامج الاستقرائي ابتداء. لقد تصدى أنصار البرنامج المعدل لهذه المشكلة، متوسلين بنظرية الاحتمالات؛ لكن هذا المنحى لم يسلم بدوره من المطعن. وآية ذلك أن الصورة الاحتمالية لمبدأ الاستقراء لا تحل مشكلة هيوم، لأن المبدأ يبقى، مع ذلك، كليا، وبالتالي مشمولا بفحوى الاعتراض على المبدأ القديم؛ كما أن درجة احتمال الصدق تستعصي على الضبط والتدقيق، لأن لكل منطوق كليّ درجة احتمال منعدمة مهما كبر عدد منطوقات الملاحظة التي تعضده؛ وكأنه يعادل حاصل قسمة عدد متناه على عدد لامتناه (8).
النزعة التفنيدية : يتنكب التفنيديون، أو البوبريون، عن المطلب الاستقرائي الذي يرهن صدق النظرية بوقائع الملاحظة؛ ولايتحرجون من التسليم بتبعية منطوقات الملاحظة للنظرية؛ وهي المسلمة التي لم يستسغها البرنامج الاستقرائي كما سلف الذكر. ذلك أن مبدأ العلم هو المشكلات. وهذا مثال من أرشيف العلم:’’ لم تطير الخفافيش ليلا دون أن تصطدم بالعقبات مع أن عيونها صغيرة وبصرها حسير؟ ‘‘. إن سلوك الخفافيش لم يستشكل على هذا النحو إلا لأنه يفترض ’’نظرية‘‘ سابقة مفادها أن الحيوان ’’يبصر‘‘ بالعين. يصوغ العلماء حلولا لهذا المشكلات بواسطة ’’النظريات العلمية‘‘ التي ليست سوى تخمينات conjectures قابلة للتفنيد . إن هذه القابلية للتفنيد falsifiabilité هي وحدها معيار التمييز critère de démarcationبين النظريات العلمية وغير العلمية. ويكون الفرض أو التخمين قابلا للتفنيد إذا سمح المنطق بوجود منطوق أو سلسلة منطوقات ملاحظة تفندها أي تكذبها، متى اتضح أنها صادقة. وهكذا، فإن عبارة من قبيل’’ إن المطر لا يسقط يوم الأربعاء أبدا‘‘ قابلة للتفنيد؛ بينما عبارة مثل ’’إما أن تمطر السماء أو لا تمطر'‘ لا تقبل ذلك، لأنها صادقة كيفما كان الطقس.
ومعنى ذلك أن اختبار التخمينات أو الفروض النظرية لا يخضع إلا لمنطق الاستنباط، حيث تستدعى ’’قاعدة الرفع‘‘ الرواقية التي مؤداها أن نفي تالي الشرط يلزم عنه نفي مقدمه : ب←ج، ⌐ ج╡ ⌐ ب. وعلى ذلك، يرى بوبر أن المادية التاريخية والتحليل النفسي الفرويدي و السيكولوجيا الأدلرية، في بعض صيغها على الأقل، ليست نظريات علمية، لأنها لا تقبل التفنيد ابتداء. و تخضع التخمينات النظرية، التي ذكرنا، لسلسلة من الاختبارات الصارمة. هناك تخمينات لا تصمد طويلا، وأخرى تبدي مقاومة أطول؛ أما التخمينات التي وقع تفنيدها بالفعل، فتستبعد بلا هوادة.
وعلى أنقاض هذا التفنيد تظهر مشكلات جديدة بعيدة عن المشكلات الأصلية؛ وهي تسمح بإنشاء فروض وتخمينات جديدة، يتبعها النقد والتجريب، وهكذا دواليك؛ وعلى النحو، تنتصر التفنيدية لدعوى ’’تقدم‘‘ العلم. غير أن هذه الدعوى تستدعي توضيحات إضافية، نذكر منها، باقتضاب، ما يتعلق بدرجة القابلية للتفنيد degré de falsifiabilité. فالنظرية الأكثر قابلية للتفنيد أفضل من التي هي أقل قابلية لذلك؛ وهذه القابلية مرتبطة بالمحتوى الإخباري للتخمينات ومبلغه من العمومية. وبهذا الاعتبار نفسه رحب البرنامج التفنيدي بالتخمينات الأكثر إمعانا في التأمل، شريطة أن تكون قابلة للتفنيد، وأن تصاغ صياغة واضحة ودقيقة حتى لا تؤول بكيفية تجعلها تند عن التفنيد. ثم إن التخمينات الجديدة، التي تحل محل التخمينات المفندة، مطالبة بأن تبزّ سابقاتها في درجة القابلية للتفنيد؛ وعلى ذلك، فمن المفروض أن تستعيد النتائج الملائمة لسابقاتها وتتحاشى أخطاءها، ثم تصوغ تنبؤات إضافية لم يعبر عنها من قبل(9) .
ونعود الآن إلى سؤال الحصيلة الفيرباندية، فنقول : إنها تكمن في هذا الإعلان الجريء عن ’’موت المنهج‘‘- إن صح التعبير- موت ’’المروية‘‘ التي شكلت نواة التقليد العقلاني في الغرب، على الأقل منذ ديكارت وبيكون. وهي دعوى عريضة يشيب لها الولدان، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تصدر عن ’’رجل رقيق القلب‘‘! يتساءل فيرباند، في مقدمته لكتاب ’’ضد المنهج‘‘، عن مشروعية ’’التقليد العلمي‘‘ السائد، مشككا في جدارة ’’ التربية العلمية‘‘ التي ينشأ عنها، والمستوحاة رأسا من تعاليم الميتودولوجيين الاختباريين (10).
إن الميتودولوجيات القائمة ليست في موقع يسمح لها بقول ماهية العلم؛ فمن العبث اختزال العلم إلى جملة قواعد وتعليمات تفيد في قيادة المشتغلين به وإرشادهم. ثم إن مسعى من هذا القبيل محجوج بوقائع تاريخ العلم، وبخاصة تاريخ الفيزياء، الذي يعلمنا أنه ما من قاعدة اعتد بها الميتودولوجيون إلا وتم خرقها، يوما، على يد العلماء الأفذاذ من صناع المنعطفات؛ ذلك أن العلم- يقول فيرباند- ’’ هو في جوهره عمل فوضوي: و الفوضوية النظرية أكثر إنسية من العلم وأحثّ على التقدم من البدائل المؤسسة على القانون والنظام‘‘ (11) (الإمالة منه). ويجمل فيرباند خطته الفوضوية في عبارة واحدة، قائلا:’’ من الواضح أن فكرة المنهج الثابت، أو تلك المتعلقة بنظرية قارة للمعقولية، إنما تقوم على تصور ساذج للغاية حول الإنسان ومحيطه الاجتماعي. وبالنسبة لأولئك الذين يضعون في حسبانهم ثراء المعطيات التي يقدمها التاريخ ولا يتعمدون النيل منه إشباعا لغرائزهم المنحطة، وتعطشهم للأمن الفكري، في صورة طلب للوضوح، والدقة، و’’الموضوعية‘‘، و’’الحقيقة‘‘، بالنسبة لأولئك، فقد بات من الواضح أن هناك مبدأ أوحد يتعين الدفاع عنه في سائر الظروف وفي سائر مراحل التطور البشري.
إنه المبدأ القائل: كل شيء جائز‘‘(12) (الإمالة منه). ومع ذلك، يحرص فيرباند كل الحرص على تمييز فوضويته الإبستمولوجية هذه عن الفوضوية السياسية والمذهب الشكوكي. فبينما يؤثر بيرون الأليسيPyrrhon d’Elis وتلامذته موقف الحياد و’’تعليق الحكم‘‘، وبينما يقبل أنصار كروبتكن و برودون على العلم وقواعد المنهج مهللين مبجلين- وهذه مفارقتهم في نظر فيرباند- يلتزم الفوضوي ’’النظري‘‘ بألا يلتزم بشيء ابتداء. إن ديدنه الوحيد هو أن يمقت ويلعن المعايير والقوانين و كليات المعاني من قبيل ’’العقل‘‘ و’’الحقيقة‘‘ و’’الموضوعية‘‘ و’’الأخلاق‘‘، وهلم جرا. ولا غرو، فهو يعلن أن الفوضوية المعرفية صنو للنزعة ’’الدادائية‘‘، وأن الدادائي لا يكون دادائيا قحّا ما لم يبد استعداده لمناهضة الدادائية نفسها (13).
ولا يعتقد فيرباند أن من شأن هذه الفوضوية أو الدادائية المعرفية أن تؤدي إلى الفوضى أو ’’الكاووس‘‘ chaos بالفعل؛ فالدماغ البشري مزوّد بنظام متطوّر يحميه من كل ذلك(14). ثم إنه يذهب إلى أبعد من ذلك كله حين يقرر أن العلم لا يفضل الأسطورة في شيء البتة، وأن القول بخلاف ذلك إنما هو دعوى إيديولوجية لا يسندها دليل. بل إن العلم، في نظره، هو كنيسة المحدثين، بل هو أشد الأديان عدوانية وتزمتا ودوغمائية؛ ومن ثمة، فإن اللائكية السياسية، أو الفصل بين الدين والدولة، يجب أن تشفع بلائكية تكميلية يتم بمقتضاها الفصل بين الدولة والعلم! فهذه اللائكية ’’الإبستمولوجية‘‘ هي، بلا شك، الضامن الأول للحرية الفردية، وفرصتنا السانحة، نحن البشر، للترقي في مدارج الإنسية المأمولة .(15) يتوسل فيرباند إلى دعواه الفوضوية تلك بسلسلة من الدعاوى الفرعية هي حاصل شكوكه على نظريات العلم السائدة، وثمرة سياحته بين المذاهب؛ ولم يستثن من هذه الشكوك ’‘ميتودولوجيا برامج البحث‘‘ التي يصف صاحبها- وصديقه إيمري لاكاتوس الذي أهدى له كتاب’’ضد المنهج‘‘- بالفوضوي ’’المقنع‘‘(16)، ما دامت تلك الميتودولوجيا تستنكف، رغم عقلانيتها الصارمة، عن إملاء المنهج المناسب للعلم. فمن ذلك، نشير عرضا إلى دعاواه المتعلقة بعدم شرعية التمييز بين سياق الكشف contexte de découverte وسياق التبرير contexte de justification الذي أرساه الوضعانيون بعد هانز ريشنباخ، وشناعة الفصل الاختباري القديم بين حدود الملاحظة وحدود النظرية، وكذا دعوى توقف الملاحظة على النظرية التي تؤسس رأسا لمفهوم اللامقايسة؛ هذا المفهوم المفصلي الذي يشكل، مع ’’المباحث الغاليلية‘‘، ركيزة الدعوى الفيرباندية؛ بل هو، في تقديرنا، حلقة الوصل بين دعوى الفوضوية الإبستمولوجية وبين النزعة الإنسية أو الطوبىUtopie الليبرالية التي فرغ لها فيرباند بعد 1975.
ونقصد بمسمى ’’المباحث الغاليلية‘‘ مجموع ما كتبه فيرباند حول العالم الإيطالي غاليلي، في سياق الحجاج الفوضوي ضدّ العقلانيين البوبريين، ولا سيما الفصول الستة من كتاب ’’ضدّ المنهج‘‘. هل كان غاليلي عقلانيا على شاكلة بوبر؟ قطعا لا، يجيبنا فيرباند. لقد أفلح غاليلي في الدفاع عن نظام كوبرنيك القائل بمركزية الشمسHéliocentrisme في وجه معارضيه الأقوياء لأنه تصرف كعالم فذّ، أي كشخص انتهازي وعديم الذمة! ولو أنه طبق تعليمات الميتودولوجيا البوبرية لانحاز، بالأحرى، إلى الفلك الأرسطي- البطلمي الراسخ في ’’الحس المشترك‘‘ والمؤيد باللاهوت. لم يجد غاليلي أمامه من سبيل لتعضيد فرضياته الغريبة و’’المضادة للاستقراء‘‘ سوى الدعاية (17) والحيل السيكولوجية والأساليب الخطابية، فضلا عن استعانته بذوي السلطان والنفوذ؛ ومن قبيل ذلك، على الخصوص، ما يزعم من تجاربه الفيزيائية المشهورة التي لا تعدو أن تكون، في نظر فيرباند، محض تجارب خيالية.
هو ذا غاليلي عند فيرباند : رجل فذ خدم تاريخ العلم لأنه نصاب ومدلس. والحال أن لكل جواد كبوة؛ وتعظم الخسارة بقدر عظمة الرهان. فهذه القراءة الغاليلية تعد من دعامات الفوضوية الفيرباندية؛ لكن بطلانها بات أمرا مؤكدا مع تقدم ’’المباحث الغاليلية‘‘ الأكاديمية والجادة. وهي ليست جديدة على كل حال، إذ نجد لها نظائرعند ألكسندر كويري وآرثر كوستلر وإدوارد دكسترهوس وغيرهم. فقد أعاد طوماس سيتل تجربة غاليلية تتعلق بتسارع الأجسام، وتوصل إلى نتائج كادت أن تطابق نتائج غاليلي المعروفة.
ونشر مؤرخ العلم الكندي ستيلمان دراك Stillman Drak بعض مخطوطات غاليلي أوائل السبعينات؛ ثم توالت الأبحاث الجادة حول علم غاليلي وتاريخه كأبحاث رونالد نايلور وجيمس ماكلكلن ووليام ولاس لتثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أن غاليلي عالم مجرّب محنّك وما هو بالمدلّس عديم الذمة، كما زعم فيرباند وآخرون، وأن أعماله تنتمي، في الواقع، إلى تقليد البحث العلمي الذي دشنه أودكسوس وأرخميدس وأقليدس وغيرهم من العلماء الإغريق(18).
اللامقايسة : من العلم إلى الطوبى:
مرّ معنا أن مفهوم ’’ اللامقايسة‘‘ مفهوم مفصلي في المشروع الفيرباندي، وأنه يمثل ، إلى جانب ’’المباحث الغاليلية‘‘، أس هذه الدعوى الفوضوية بلا منازع. وأشرنا، كذلك، إلى أنه يمثل حلقة الوصل بين الإبستمولوجيا الفيرباندية وبين الدعاوى ’’الإنسية‘‘ و’’الليبرالية‘‘ الطوباوية التي فرغ لها لاحقا؛ أو لنقل: بين إبستمولوجيا فيرباند و’’سياسة‘‘ فيرباند.
فما هي اللامقايسة؟ إذا كانت دلالة المنطوقات ’’البروتوكولية‘‘ مشروطة بالسياق النظري الذي يؤطرها، كما سلف الذكر، فإنه يصير من المستحيل صياغة مبادئ نظرية علمية معينة بحدود أو ألفاظ نظرية أخرى منافسة لها. فالنظريتان المتنافستان لا تتقاسمان أي منطوق من منطوقات الملاحظة؛ وعلى ذلك، فليس من الممكن المقارنة بينهما بناء على التحليل المنطقي : إنهما، إذن، نظريتان غير متقايستين incommensurables. و من أمثلة اللامقايسة النظرية ، حسب فيرباند، العلاقة بين الميكانيكا الكلاسيكية وبين نظرية النسبية.
وآية ذلك أن الموضوعات الفيزيائية في الميكانيكا الكلاسيكية، متى أولت تأويلا واقعانيا، هي موضوعات ذات شكل وكتلة وحجم؛ وهي خصائص مباطنة لها ولا تحيد عنها. لكن هذه الخصائص، بالنسبة للنسبية، المؤولة تأويلا واقعانيا، لا توجد على النحو ذاته، وهي تكتسي دلالة مغايرة تماما؛ فهي لا تعدو أن تكون علاقات بين موضوعات وبين منظومة مرجعية محددة، ويكمن تعديلها بمجرد العبور من منظومة مرجعية إلى أخرى. ويذكر فيرباند أزواجا أخرى من النظريات اللامتقايسة : الميكانيكا الكلاسيكية والميكانيكا الكوانطية، نظرية الميل(19) théorie de l’impetus والميكانيكا النيوتونية، المادية وثنوية الروح-المادة. غير أن لامقايسة نظريتين متنافستين لا تعني استحالة المقارنة بينهما. فالنظريتان قد تتفاضلان، مثلا، من حيث درجة التماسك أو الجرأة أو ’’الجمال‘‘، أو غير ذلك؛ لكن مهما كانت المعايير المعتمدة في ذلك، يظل الاختيار، في نهاية التحليل، شخصيا وذاتيا؛ وما يبقى- يقول فيرباند- هو ’’الأحكام الجمالية، أحكام الذوق، الأحكام المسبقة الميتافيزيقية، الرغبات الدينية، و باختصار رغباتنا الذاتية‘‘(20) (الإمالة منه).
ولكم وددنا أن نجري مقارنة بين مفهوم اللامقايسة الفيرباندي ونظيره عند مؤرخ العلم الأمريكي طوماس كوهن(21)، لولا خشية التطويل والجور عن مقاصد المقال. وعلى كل حال، فقد حرص فيرباند نفسه على تعيين بعض مواطن الاختلاف التي يراها بين مفهومه ومفهوم طوماس كوهن(22). وما من شك في أصالة المفهوم الفيرباندي و ترهصاته الجنينية في بعض أعمال الخمسينات (23)؛ لكن المنحى الفوضوي اللاحق سينأى بالمفهوم عن دائرة العلاقة بين النظريات والإبدالات أو ’’البرادم‘‘(24) المتنافسة paradigmes concurrents في العلم وحده، بخلاف ما ظل عليه الحال عند كوهن. ينقل فيرباند مفهوم اللامقايسة من دائرة الإبستمولوجيا إلى حقل الإنسانيات الواسع.
اللامقايسة هي كذلك حجة ’’الإنسية‘‘ الفيرباندية ضد سلطان العلم و’’ديكتاتورية‘‘ العقل الأنواري الفخور بنياشينه وفتوحاته. لا مجال عنده للمقارنة بين العلم و الأسطورة mythe على أساس منطقي وعقلاني؛ ولو حصلت المفاضلة أو الموازنة بينهما، بعيدا عن ذلك الأساس، لكانت الأسطورة، على رأي فيرباند، هي الظافرة. العلم العقلاني، بخلاف المعتقد الشائع، يقتل فينا ملكة الشك والتحير والدهشة. وهو يؤثر الشك في المفاهيم والتصورات المغايرة، ولكنه يعفي من ذلك بضاعته ذاتها. ولا فضل للعلم على أساطير الشعوب’’البدائية‘‘، ولا على عزائم السحرة أو رؤى المتصوفة والمجاذيب؛ إذ ليس للعلم، كما مرّ، ’’منهج‘‘ كوني يفخر به على مناحي الإبداع الإنساني الأخرى. بل إن لدى الشعوب ’’البدائية‘‘ معارف وتقنيات، هي من العمق والفعالية مما لا يرقى إليه العلم العقلاني بأي حال من الأحوال.
لكن، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا اندحرت هذه المعارف والتقنيات أمام مدافع الغزاة الأوربيين ’’الفعالة‘‘ و’’العميقة‘‘ جدا؟ هل هناك علم شيطاني وعلم رحماني؟ هل تنفصل ’’إرادة المعرفة‘‘ عن ’’إرادة القوة‘‘؟ وما جدوى ’’الفعالية‘‘ و’’العمق‘‘ إذا كان ثمنهما هو الذل وتوديع الحرية والكرامة؟ وفي مواضع أخرى من كتاباته اللاحقة، يجذر فيرباد من موقفه الغريب هذا، الذي بزّ فيه، على ما يبدو، دعاوى بعض الأنثروبولوجيين والسيكولوجيين المعاصرين، ولا سيما كلود –ليفي ستروس وكارل غوستاف يونغ؛ بل هو يعانق، في أكثر من موضع، دعاوى الهرامسة والثيوصوفيين، القدماء والمحدثين؛ وقد لا يفرّق المرء، أحيانا كثيرة، بين أقواله وبين شطحات روني غينون وهيلينا بلافتسكي. ففي كتاب’’ المحاورات‘‘ يذهب إلى حدّ التصديق على طقس ’’استجلاب المطر‘‘ Rain-dance عند الهنود الحمر الأمريكيين؛ وهو شبيه بحفل ’’تاغونجا‘‘ عند بعض الأمازيغ من بلاد المغرب الأقصى؛ ولعله قريب من طقس ’’صلاة الاستسقاء‘‘ المعروف عند المصريين القدماء قبل أن يستعيره منهم غيرهم؛ يقول فيرباند لمحاوره:’’ فهذه الأسطورة تتعارض بالطبع مع بعض الاعتقادات السائدة لدى معظم العلماء، غير أنه، بقدر علمي، لا توجد صياغة محددة في أي نظرية يمكن أن تستخدم لاستبعادها.
كل ما نجده شعور غامض قوي مؤداه أن رقص استجلاب المطر لن ينجح و لا مكان له في مجال العلم. ولا أريد أن أذكرك بأن ملاحظة فشل رقص استجلاب المطر هذه الأيام ليس حجة كافية لاستبعاده(25)‘‘ . لكن، مرة أخرى، هل يحفل العلم بالقوانين والأصول أم بالنوادر و الاستثناءات؟ ألم يقل أرسطو إن ’’لا علم إلا بالكليات‘‘؟(26) ألم يفند إيمانويل كانط،، في ’’نقد العقل المحض‘‘، حجية ’’المعجزة‘‘ هاته، من غير أن يطعن، مع ذلك، في إمكان حدوثها بالفعل؟(27) وفضلا عن ذلك، ألا يكرس فيرباند، هنا، من حيث يشعر أو لا يشعر، معيار قابلية التفنيد البوبري الذي ماانفك يشجبه؟ من قال إن ’’الغراب الأبيض‘‘ – وهو مثال بوبري- غير محتمل الوجود؟ ثم، ماذا لو فكرت منظمة الفاو في الاستفادة من خدمات هنود الزوني Zuni لإطعام الملايين؟ بل ماذا لو فكرت وكالات الفضاء في استشارة أمثال هؤلاء ’’الربابنة‘‘ الذين يحدثنا عنهم فيرباند، بقوله:’’ هل تستطيع أن تتخيل أحد الأنبياء أو الرواد من النصارى الأوائل يتأثر برجلين يسيران على سطح القمر الأجرد في الوقت الذي يستطيع فيه أن يتحدث مع الخالق ذاته؟ أو تأمل حال الغنوصيين أو السحرة، أو الحاخام عقيبة Rabbi Akiba، فقد استطاعوا أن يأمروا أرواحهم أن تغادر أبدانهم وترتقي من مكان إلى آخر تاركة القمر وبقية العالم وراءها، حتى انتهت إلى رحاب الله ببهائه وجلاله‘‘؟!(28) في سياق هذه ’’الإنسية‘‘ الفائقة يتأبط فيرباند حجة ’’اللامقايسة‘‘، ليطالب المجتمعات الغربية، مقتفيا أثر جون ستيوارت ميل، بحماية حرية الفرد وبتحرير إنسانها، كما مرّ، من هيمنة ’’العلم‘‘ مثلما حررته من هيمنة الكنيسة؛ وهكذا، فإذا كان المواطن الأمريكي متمتعا بحرية التدين، فإنه، مع ذلك، محروم من حقه- يقول فيرباند- في’’ أن يطالب بأن يتعلم أطفاله في المدرسة السحر بدل العلم. إذ هناك فصل بين الكنيسة والدولة، لكن ليس هناك فصل بين الدولة والعلم(29)‘‘! يشتكي فيرباند، في بعض كتابات الشيخوخة، من سوء التأويل الذي تعرض له مفهوم ’’اللامقايسة‘‘، قائلا:’’ ولكن اللاقياسية تشعبت تشعبا شديدا وتحولت إلى خاصية هامة لكل فكر ’’خلاق‘‘، وسرعان ما استخدمت لكي تقدم أسبابا وجيهة لقصور الفهم بين الثقافات والمدارس العلمية المختلفة.
وفي رأيي، أن هذا مجرد هراء(...) وأنا أعتبر توسعة هذا التصور وتحويله إلى وحش ضخم مسئول بمفرده عن كل متاعب العلم والعالم ككل ليس فقط أمرا ساذجا وإنما جريمة حقيقية‘‘(30). شكوى أم نوبة دادائية؟ لكن، ما فائدة الشكوى إذا كانت ’’الفوضى‘‘ شرط الإبداع؟ وما الداعي إلى اللوم إذا كانت كل مناهجنا في الاستعارة والتأويل مشمولة، مقدما، بفتوى إعدام المنهج؟ هذه الأسئلة وسابقاتها، وغيرها من الأسئلة المشروعة حول أقاويل فيرباند، إنما نطرحها برسم التفاعل العاقل وتحريضا على القراءة الناقدة والمسؤولة لتلك الأقاويل، لا تسفيها لها أو حطا من قدر صاحبها الذي لا يمتري أحد في مكانته المرجعية المرموقة من مشهد ’’ما بعد الحداثة‘‘ القاري وغير القاري، ولا سيما تيار ’’المباحث الثقافية‘‘ الأمريكي Cultural Studies ورديفه الإبستمولوجي النسباني المتطرف : ’’المباحث العلمية‘‘ Science Studies . ربما يجدينا، في مقام التفاعل الذي ذكرنا، أن نستحضر’’قضية سوكال‘‘ Affaire Sokal التي سارت بذكرها الركبان- وأعرض عنها إعلامنا الثقافي الوسنان- لما لها من دلالة فائقة تتصل، في العمق، بقيمة ومدى مشروعية المقاربة ’’المباحثية‘‘ لقضايا نظرية العلم.
بدأت القضية بخدعة بطلها ألان سوكال، أستاذ الفيزياء بجامعة كاليفونيا، عام 1996، حين بعث إلى مجلة ’’سوشل تكست‘‘ Social text الأمريكية، ذات التوجه ’’المباحثي‘‘ و’’الما بعد حداثي‘‘، بمقال ملغوم تحت عنوان مثير هو’’ انتهاك الحدود: نحو هيرمنوطيقا تحويلية للجاذبية الكوانطية‘‘ Transgressing the Boundaries : Towards a Transformative Hermeneutics of Quantum Gravity. استقبلت إدارة المجلة مقال ألان سوكال بحماسة وبدون تردد؛ فهو شهادة نفيسة من فيزيائي محترم على مصداقية التوجه ’’المباحثي‘‘ النسباني الذي تتبناه. لكن، بمجرد صدور العدد الذي يتضمن المقال، سارع سوكال إلى الكشف عن خدعته من خلال مقال صادم نشره في مجلة ’’لينغوى فرنكا‘‘ Lingua Franca، معترفا بأن ما كتبه لا يعدو أن يكون فذلكة لفظية وصنعة بلاغية لا يعول عليها؛ ثم سيصرّح فيما بعد بأن باعثه على فعلته تلك هو إحراج دعاة النسبانية المتطرفة، بوصفها خطرا يهدد وجود العلم ذاته، واختبار مدى جدية وصرامة المنتسبين إلى ’’ما بعد الحداثة‘‘، ولا سيما حين يتعلق الأمر بموضوع العلم(31).
وكما حصل مع فيرباند، تباينت ردود الفعل حيال خدعة سوكال؛ وتوزّع الناس بين مهلل ومسفه ومتفهم. لكن الحال مع البريختي القديم مختلف؛ فما من طرف يستطيع أن يضمن مدده الدائم. إن الدادائي المحض يمقت الابتذال، ويعلم متى ينقلب على نفسه، ومتى يكون عليه العمل بنصيحة سلين إلى ميلر التي صدرنا بها المقال: عالم مليء بالصائبين والمحقين ألا يبعث على التقزز حقا؟
الهوامش:
1- في الأصل الألماني :’’ ولد أرسطو، اشتغل ومات‘‘Aristoteles wurde geboren, arbeitete und starb. وقد أورت ذلك حنا أرنت في رسائل هايدغر1925-1975: Hannah Arendt, Martin Heidegger, Ursula Ludz: Briefe 1925 bis 1975 und andere Zeugnisse. Frankfurt am Main 2002, S. 184؛ لكننا آثرنا ’’تعب’’ عوض ’’اشتغل‘‘ لدلالتها الوجودية العميقة؛ و هي نفسها ترجمة عبد الغفار مكاوي: مارتن هيدجر، نداء الحقيقة، ترجمة وتقديم ودراسة عبد الغفار مكاوي؛ القاهرة، دار الثقافة للطباعة و النشر، 1977، ص 22.
2- فيرباند،بول(1993)، ثلاث محاورات في المعرفة، ترجمة ودراسة محمد أحمد السيد؛ الإسكندرية، منشأة دار المعارف، د.ت، ص 173.
3-يعترف مترجم ثلاث محاورات، نفسه، ص 1، قائلا:’’ربما كان من المناسب أن أصارح القارئ بأنني ترددت بعض الشئ في الكتابة عن فيرابند ؛ فهو يهاجم المنهج العلمي والعلماء هجوما ضاريا، بل يهاجم فكرة العقلانية ذاتها، ويدافع- أو هكذا يبدو – عن التنجيم والسحر والأسطورة واللاعقلانية دفاعا مجيدا؛ وهي أمور تؤدي إلى البلبلة وسوء الفهم خاصة في ظل المناخ الفكري السائد في بلادنا والذي لايحتمل ترف مثل هذه المناقشات. فقد يتسرع القارئ ويضع فيرباند، والمدافعين عنه، في خندق واحد مع المشعوذين والرجعيين و اللاعقليين... ‘‘.
4- نفسه، ص 102-103 :’’ أعتقد أن أولئك البائسين الذين وفدوا إلى الدنيا لمجرد أن رجلا و امرأة أصابهما الملل وشعرا بالوحدة، وحداهما الأمل بأن ولادة طفل مدلل قد يصلح ما أفسده الدهر بينهما، أو لأن ماما غفلت عن أن تتعاطى وسيلة منع الحمل، أو لأن ماما وبابا كاثوليكيان لا يجرؤان على الاستمتاع باللذة الجنسية دون إنجاب- أعتقد أن هذه المخلوقات البائسة في حاجة إلى حماية. لقد جاء هؤلاء الناس إلى الحياة دون أن يطلبوا ذلك (...)أليس لهم الحق في أن يسعدوا أنفسهم حتى ولو أدى ذلك إلى إزعاج معلميهم، وآبائهم، وأمهاتهم وقوات الشرطة في بلدهم؟ لماذا لا يقررون ما يتعارض مع العقل والحقيقة؟‘‘.
5- هناك نقاش قديم حول ’’فوضوية‘‘ بريخت الشاب، ولا سيما مسرحية ’’البعل‘‘ التي تعود إلى عام 1918، وما انفك المؤلف يتعهدها بالزيادة و التنقيح إلى غاية وفاته عام 1956 . انظر على سبيل المثال:
Jean Verdeil, Dionysos au qoutid