قبل أن خُلِقت السموات والأرض، أي في البداية الأولى، كان الكون بأسره فوضى جسيمة مائية مضطربة. ومن هذا الاضطراب المخيف خرجت كائنات إلهية بدائية إلى الوجود. بيد أنها كانت على حالٍ من الفوضى والارتباك لا يمكن وصفهما. ومرَّت الدهور والأحقاب واتخذت الآلهة أشكالاً واضحة، وأخذت تعمل. وسرعان ما قررت زمرة منها أن تسنَّ للفوضى نوعاً من القانون والنظام. وكانت هذه الخطوط مقدامة ولاشك أثارت خصومة الكثير من المعبودات المحافظة التي ظنت أن "النظام" القديم كان صالحاً جداً ويجب أن يستمر على حاله. وقد جابه قرارها استنكار الآلهة تعامة خاصة. وتعامة هذه هي أم الفوضى، وهي معبودة بشكل تنين يتجسم فيه الشر تارة والخير تارة أخرى. وعندما علمت تعامة بعزم الآلهة على جلب النظام إلى ملكها لتقضي به لا على سلطتها فحسب بل وعلى أبَّهتها، صممت على القتال، وأدركت أن وقته قد حان. وكانت قد خلقت من هذه الفوضى مردة جبابرة لها أطراف حيوانات مختلفة تمتلك قوة مخيفة من الدمار. وهكذا دعت إليها زوجها وجيشها الفتي وتهيأت للنزال. وقد فزعت الآلهة الداعية للنظام أول الأمر، إذ إن المهمة التي تنادت من أجلها أصبحت مهدِّدة لكيانها نفسه. وأخيراً تجرأ إله منها وتقدم إلى ساحة المعركة، وشهر أسلحته، وأمر الرياح الأربع الجبارة أن تحارب إلى جانبه. فتقدمت تعامة مشخَّصة بالفوضى، وفغرت فاها الرحيب لابتلاعه، فأتاحت الفرصة لهذا الإله الذي ساق على الفور الرياح القوية إلى فمها باندفاع شديد، فجعلت جسم الإلهة–التنين ينتفخ لدرجة لم تعد تستطيع معها حراكاً. وعندئذ قضى عليها بأسلحته. ثم ظهرت المشكلة: وهي ماذا يجب عليه أن يفعل بهذه الجثة الهائلة. إنها هائلة الحجم ولها شكل يشبه القربة الكبيرة. وبعد تفكير طويل، قرر الإله شطر الجثة شطرينـأن، وجعل القسم الأول منها مسطحاً فكانت الأرض. أما النصف الثاني فقد بَسَطَه فوق الأرض، فكانت السموات. وهكذا ماتت الفوضى وبدأ عمل النظام يستقر الآن في العالم. وقد أُسِر في المعركة زوج تعامة، وهو الإله كونكو الشرير. وكانت قوته قد تضاءلت بعد مقتل زوجه، فقطعت الآلهة رأسه، وخلقت البشر من طين التراب الممتزج بدمه.
يعكس هذا الملخص لأسطورة الخلق البابلية المحاور الأساسية التي سيدور بحثنا حولها. فمع رمزيتها الأسطورية، تطرح هذه القصة بوضوح تجذُّر وسيادة مفهوم النظام في عقلية الإنسان منذ العصور السحيقة. ومع ذلك، لم ينجح أحد حتى الآن في تحديد ماهية النظام أو الفوضى! كذلك فإن نسبية هذين المفهومين ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالكون وبمعرفتنا لبدايته ولنهايته ولقوانينه.
كان الهدف الأساسي للعلم حتى فترة قريبة اكتشاف نظام الطبيعة. غير أن العلماء يكتشفون الآن "الفوضى" في الطبيعة، في حين بدأت تترسخ فكرة إعداد "علم الفوضى". فهل تغيرت نظرة العلم، وكيف يجب أن نقدر وأن نفهم هذا التحول الذي يهدف إلى خلق نوع غير اعتيادي من العلم؟ وهل يمكننا أن نحافظ على مفهومنا الاعتيادي للفوضى إذا هي أصبحت موضوع دراسة علمية، بل ومحددة بقوانين رياضية؟! وفي كافة الأحوال، هل يمكننا إعطاء الفوضى أي معنى دون اللجوء لمفهوم النظام؟ ثم ما سيؤول إليه عندها مفهوم النظام الكوني الذي ساد تصوراتنا الميثولوجية والفلسفية والعلمية حتى الآن؟ وأي موقع سيحتله الناس فيه؟ وهل سيقترن عندها مفهوم الحرية البشرية بمفهوم درجات الحرية في الفوضى؟!
يعترف أينشتاين نفسه بأن نظرية النسبية تدين بالكثير لإلهام ديني. ويقول جان جاك روسو: "ولد علم الفلك من الأسطورة." ويشير القولان إلى وجود ذكاء شامل في العالم. إن الديانة الكونية التي تحدث عنها أينشتاين، وأعطى مثالاً عليها شخصيتي نيوتن وكبلر، تظهر كمصدر للطاقة الروحية في الوقت نفسه الذي تحدد فيه موضوعاً معرفياً (إبستمولوجياً): ألا وهو البحث عن النظام. ولاشك أن أسلاف هذه الثالوث الخطي: كبلر–نيوتن–أينشتين قديمون جداً، حتى إننا لا نستطيع تقديم نقطة أولية لانطلاقتهم. فلابد أن الفيثاغوريين وإخوان الصفا مثلاً كانوا ينتمون لخطِّهم. كذلك فإن الفلسفة الأفلاطونية تمدنا بركيزة هامة لإبراز الأصالة الإبستمولوجية للأبحاث الحالية حول الفوضى. فكلمة كوزموس COSMOS اليونانية تتضمَّن معنى النظام الكوني مقابل الفوضى CHAOS. وبحسب أفلاطون فإن التنظيم والذكاء يشكلان العالم الذي يحيط بنا ويميِّزانه. فبرأيه أن الكوزموس هو نتيجة العملية التي تقوم بها قوة منظِّمة. ويقدم لنا تفسيراً موازياً للأسطورة البابلية. فثمة كائن إلهي يدعى الذميورغوس Démiurge، قاد نوعاً من المغما التي لا شكل لها، من الفوضى إلى النظام. وهكذا فقد اضطر إلى اللجوء إلى مادة أولية، إلى فراغ ما، بمعنى الفوضى المطلقة، أي غياب أي نظام أو كمونه. والحق أنه لم يكن ثمة فوضى حقيقية لأنه لم يكن ثمة نظام ليخرقها. واستطاع الذميورغوس تحقيق النظام بإدخاله للأشكال وللتناسبات الهندسية والبنى الرياضية. إلا أن العمل الناتج، أي العالم، خضع للصيرورة، للزمن والحركة الدائمة. وهكذا فإن عالمنا يشتمل على النظام والفوضى بآن واحد. فهو منظم ويخضع لقوانين محددة بفضل الذميورغوس. ومع ذلك فإن الاحتمالية قائمة فيه، لأن الفوضى وضعت بمجرد وجودها البدئي شروطاً بدئية منتظمة ومعقدة جداً، بل وفوضوية، بحيث لا يمكن وصفها. كذا فإن دراسة الفوضى لا تتطلب فقط مناظير ومفاهيم جديدة، بل وظهور حدس وحساسية جديدين. عندما سئل إيليا برغوجين I. Prigogine حول تمجيده للفوضى أجاب: "بل إنني على العكس تماماً، مقتنع أننا بحاجة إلى مخططات محددة وإلى مخططات احتمالية في آن واحد." ويوافقه بشكل آخر الرياضي إيفار إيكلاند I. Ekland: "إن تحديدية قوانين الطبيعة لا تستبعد النزوة والصدفة واللامتوقع." فإذا كانت دراسة الفوضى تتطلب، بالتالي، التخلي عن رياضياتنا الأفلاطونية، إلا أن رياضيي الفوضى لا يتخلون بالتأكيد عن كافة أشكال النظام. إنما هم لا يفرضون النظام مسبقاً. فحساباتهم الخوارزمية تحتوي باستمرار على شكل من الذكاء والانتظام مهما كانت نتائجها غريبة. وهذا التغير الجوهري في أسلوب دراسة واختيار الظاهرة، لا يقتصر على الرياضيات، بل وعلى الثقافة والفلسفة بشكل عام. ومهمة رياضيات الفوضى الأساسية هي تقديم تشكيل قياسي يسمح بالوصف المباشر أو غير المباشر، الحقيقي أو الافتراضي، لمختلف أنماط الفوضى. ومن هنا فإن لغة الفيزياء ستنقلب. فبدلاً من التعامل مع الظاهرة من عَلُ، أي بتطبيق النظام على الظاهرة أو على الحركة غير المفهومة لتفسيرها، فإن الفيزياء ستبدأ من الأدنى أي من الظاهرة، من الحركة–الفوضى، لتفهم جوهر بنيتها الحقيقية، ولتكتشف نظامها الذي لا يخضع إلى حدٍّ كبير لمقاييسنا الذاتية المبدئية.
والمثال الشهير على هذا التحول في المفهوم العلمي هو تطبيق مكسويل للحسابات الإحصائية على جزيئات الغاز ليتوصل إلى فهم وتحليل الآليات الخفية التي تسبب الحركات والصفات الظاهرية للغازات، كالحجم والحرارة والضغط. كذا فقد استطاع مكسويل استخلاص النظام من الفوضى التحتية، وكانت النتيجة الصاعقة، بالتالي، أن كثيراً من الحركات الظاهرية المنتظمة أو المحددة مبنية على أسس أكثر عشوائية. وكان من أسباب انتشار وتعمق هذا المفهوم مقارنة مكسويل لنظريته الحركية للغازات بالظاهرات الاجتماعية. وقد بيَّن المؤرخ هنري توماس بَكُّل Henry Thomas Buckel أنه لو أخذنا مجموعات كبيرة بما يكفي من البشر فإن عدد الوفيات والأمراض والجرائم والزيجات والانتحارات سيكون ثابتاً بشكل عام. وهذا الثابت بحسب بولتزمان يمكن تطبيقه على الأحداث التي تجري في حجرة مقفلة تحتوي على الغاز: "فالأمور، كما يقول، لا يمكن أن تتم بشكل مختلف ضمن مجموعة من الجزيئات". وقد أعد الرياضي الإحصائي أدولف كيتليه A. Quételet (1796-1874) علماً جديداً بناء على ذلك هو الفيزياء الإحصائية الاجتماعية.
هكذا أعادت الفوضى طرح نفسها بقوة على الفكر البشري، بعد أن قتلتها آلهة الأساطير.