هذا هو عنوان النسخة الفرنسية لكتاب شومسكي وجيلبر أشقر الصادر مؤخرا عن دار فايار في باريس. أما العنوان الانكليزي فمختلف: السلطة المتهورة أو الخطرة المغامرة، أي سلطة بوش وجماعته. فمن الواضح ان شومسكي يصب جام غضبه عليهم وعلى تصرفاتهم الرعناء التي حولت الشرق الأوسط من أقصاه إلى أقصاه إلى برميل بارود متفجر يحرق بشظاياه الأخضر واليابس ويحول المنطقة كلها إلى جحيم مشتعل. فردهم على ضربة 11 سبتمبر الإجرامية ما كان ينبغي أن يتخذ هذه الطريقة الهمجية التي شاهدناها في أفغانستان والعراق..
بل ويصل الأمر بشومسكي إلى حد القول بان الولايات المتحدة هي اكبر دولة إرهابية في العالم تليها إسرائيل مباشرة. وهما مترابطتان بشكل لا ينفصم. فسياستها الخارجية منذ عهد المغفور له ريغان تقوم على البطش أو التهديد بالبطش من أجل نيل غايات سياسية وهذا هو بالضبط تعريف الإرهاب بحسب القانون الأميركي نفسه. وبالتالي فمن فمك أدينك..الإرهاب ليس فقط أن تقتل الآخر وإنما أن تخوفه وترعبه بأساليب مختلفة حتى يستسلم لك ويخضع وينفذ رغباتك. بالطبع فان هذا التعريف ينطبق أيضا على القاعدة وكل المنظمات الأصولية المتطرفة كما ينطبق على الدول والحكومات التي تلجأ إلى نفس الأساليب لتحقيق أغراضها. ولكن بما أميركا هي أقوى دولة في العالم فإنها تبدو كأكبر إرهابي أو أكبر شرطي.. فهذا ما فعله ريغان في نيكارغوا وأماكن أخرى من أميركا اللاتينية عندما سحق القوى اليسارية والتقدمية سحقا. وهذا ما فعلته المخابرات المركزية في التشيلي بأمر من كيسنغر، أو ما فعلوه في إيران عندما أسقطوا الزعيم الوطني محمد مصدق عن طريق انقلاب عسكري ووضعوا الشاه محله، الخ.. وهذا ما فعلته إسرائيل مع الفلسطينيين منذ عام 1948 عندما هجرتهم من مدنهم وقراهم بمئات الآلاف بعد أن أرعبتهم وخوفتهم.
بعد أن يقرأ المرء هذه التصريحات النارية يستغرب كيف يمكن أن يظل شومسكي أستاذا في إحدى أهم الجامعات الاميركية بل كيف لا يعتقلونه ويحاكمونه بتهمة الخيانة العظمى..ومن المعلوم انه أستاذ علم الألسنيات في معهد ماساشوشسيت الشهير للتكنولوجيا بل ومخترع إحدى النظريات الجديدة التي ارتبطت باسمه. نقول ذلك على الرغم من ان شهرته كناشط سياسي غطت في الآونة الأخيرة على شهرته كعالم كبير وكفيلسوف. يبقى صحيحا القول بأن شومسكي هو أحد الضمائر الكبرى في اميركا تماما كسارتر سابقا في فرنسا عندما كان يدين بعنف غير مسبوق التصرفات الاستعمارية لبلاده في الجزائر. فشومسكي يفكك السياسة الخارجية لبلاده في الشرق الأوسط على مدار الخمسين سنة الماضية ويساعده على ذلك بكل تمكن واقتدار المفكر اللبناني المستنير: جيلبر أشقر.
وهذا الأخير غادر لبنان عام 1983 إلى فرنسا حيث أصبح أستاذا للعلوم السياسية في إحدى الجامعات الباريسية قبل أن ينتقل مؤخرا إلى كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن. ويتهم أشقر الولايات المتحدة بأنها سبب القضاء على الحركة القومية العربية العلمانية في المنطقة بقيادة جمال عبد الناصر. فقد دعمت القوى المحافظة المتزمتة إلى أقصى الحدود وكان أن حصدت 11 سبتمبر بعد أن ارتدت عليها هذه القوى بالذات. ومعلوم أن امريكا أقامت عندئذ الحزام الأخضر ضد الشيوعية الممتد من الجزيرة العربية وحتى ضياء الحق في الباكستان. وناصبت العداء لكل الحركة التقدمية العربية على مدار خمسين سنة من الحرب الباردة. وبالتالي فهي تستحق ما حصل لها على الرغم من إدانتنا للإرهاب الأصولي بكل أشكاله. يضاف إلى ذلك أن سياسة العولمة الرأسمالية الفاجرة التي اتبعها الغرب بدءا من ريغان وتاتشر وانتهاء ببوش والمحافظين الجدد ساهمت أيضا في إثارة رد الفعل الأصولي العنيف. فقد أفقرت جهة وأغنت أخرى بشكل فاحش. ولا ينبغي أن ننسى الدور السلبي المدمر الذي لعبه التيار الرجعي العنصري في إسرائيل بهذا الصدد. فهو المسؤول بأعماله العدوانية والتوسعية اللاأخلاقية عن تغذية الأصولية المتطرفة في العالم العربي على الأقل. وبالتالي فالرد على الأصولية المتطرفة والإرهابية لا يكون بهذه الطريقة الوحشية واللاإنسانية التي يتبعها اليمين المتطرف الاميركي الإسرائيلي، وإنما يكون باتباع سياسة جديدة تؤدي إلى تحقيق العدالة والتنمية في المنطقة.
جيلبر أشقر: الأصولية، والمحافظون الجدد، وصدام البربريات...
وهنا يتوقف جيلبر أشقر لحظة لكي يعرف الأصولية قائلا: الأصولية المتزمتة لا تعني فقط التفسير الحرفي للنصوص الدينية وإنما أيضا الرغبة في فرض هذا التفسير الجامد على المجتمع والحكم وإجبار كل المواطنين على التقيد به وبكل العقائد والقيم التي تعتبرها مقدسة ومعصومة: أي إلهية وفوق بشرية. بهذا المعنى فان الأصولية أصبحت ظاهرة عالمية ولا تنطبق فقط على الإسلام وإنما تنطبق أيضا على المتزمتين اليهود والمسيحيين والهندوسيين الخ... فهناك أصولية وأصوليون في كل الأديان.
لكن يبقى صحيحا القول بان الأصوليين الإسلامويين هم وحدهم تقريبا الذين يرتكبون عمليات الكاميكاز والتفجيرات الإرهابية باسم نصوصهم الدينية أو قل ما يفهمونه منها. ولذا تحولوا إلى ظاهرة كبرى تشغل العصر والعالم كله بدون استثناء. وهنا يلاحظ شومسكي مدى خبث بن لادن وفساد تفكيره. فقد استخدم المحاجة التالية لتبرير دعوته إلى قتل المدنيين الأميركان حيثما وجدوا. قال بما معناه: بما أن حكومة اميركا، أي بوش وجماعته، منتخبون من قبل الشعب الاميركي فان هذا الشعب كله مسؤول عن جرائمهم ضد المسلمين. وبالتالي فيحق لنا شرعا أن نقتلهم في كل مكان..
إن هذا الكلام يقتل الديمقراطية والأبرياء في آن معا. ولكن متى كان بن لادن مهتما بشؤون الديمقراطية؟ الأصوليون يعتبرونها بدعة من بدع الشيطان ومضادة للحاكمية الإلهية التي هي وحدها النظام الشرعي في نظرهم. ومن الذي يمارس هذه الحاكمية على وجه الأرض نيابة عن الله؟ بن لادن وعلي بلحاج والزرقاوي وكل هذه الأشكال..كلام بن لادن يعني بالحرف الواحد: سوف نقتل الاميركان مهما فعلوا سواء أكانوا أخيارا أم أشرارا، معارضين لحكومتهم أم مؤيدين لها.
هذا المنطق الأعوج والإجرامي هو الذي يهيج ديك تشيني وريتشارد بيرل وبقية المحافظين الجدد فيحقدون بدورهم على كل ما هو عربي أو مسلم ويرون فيه عدوا محتملا. ألم نقل لكم بان التطرف يدعم التطرف ويشد من أزره؟ وهذا ما عبر عنه جيلبر أشقر في كتاب سابق بعنوان: صراع البربريات. فنحن لا نشهد الآن صراع حضارات على عكس ما توهم صموئيل هنتنغتون وإنما صراع وحشيات وهمجيات. فعلى وحشية القاعدة وأقطابها ترد وحشية أخرى وبقوة مرعبة لا تضاهى..
حقا إن الحوار بين شومسكي وجيلبر أشقر ممتع ويتناول مختلف القضايا الساخنة لمنطقة الشرق الأوسط الجريحة. ويدير الحوار بذكاء شخص ثالث هو: ستيفن شالوم أستاذ العلوم السياسية في جامعة ويليم باترسون في نيو جيرسي. وليس هدفنا التعرض لكل شيء لأنه لا يمكن لمقالة واحدة أن تلخص كتابا ضخما يحاذي الأربعمائة صفحة من القطع الكبير. ومن يريد أن يطلع عليه كله فما عليه إلا أن يقرأ الترجمة العربية الصادرة عن دار الساقي في بيروت والتي ليست في حوزتي الآن لأني أعتمد على الترجمة الفرنسية. كنت فقط أتمنى على دار الساقي التي هي دار نشر رائدة وطليعية ألا تسلم زمام أمورها لمصححين متقعرين جدا من الناحية اللغوية. فما معنى السلطان الخطير؟ وهل هذا عنوان صحيح أو مناسب؟ هل نحن في عهد الأصمعي أو السلطان العثماني لكي نستخدم تعبيرا من هذا النوع؟ كان الأجدر بها أن تستخدم عنوانا آخر مثل : السلطة الخطرة أو السلطة المغامرة بمصير العالم أو المقامرة.. فالفكر الذي يعبر عنه شومسكي وجيلبر أشقر في هذا الكتاب الممتع ليس تقليديا لكي نضع عليه عنوانا عتيقا باليا. على العكس انه فكر مستنير جدا حتى ولو اختلفنا معه في بعض النقاط . هناك أصولية لغوية مثلما أن هناك أصولية دينية وكثيرا ما تجتمعان معا في نفس الشخص. وينبغي علينا نحن المحدثين أن نتيح للغة العربية فرصة التحرر والتجدد والانطلاق لا أن نسجنها في قوالب مهترئة وصياغات لغوية جامدة عفى عليها الزمن. ذلك انه لا مضمون جديدا بدون صياغة لغوية جديدة كما يقول الشاعر الفرنسي الكبير آرثر رامبو بكل حدسه الإبداعي الخلاق. رحم الله الكاتب اللبناني والعربي الكبير ميخائيل نعيمة الذي أعطانا درسا لا ينسى عن ضرورة تجديد اللغة العربية شكلا ومفردات وتراكيب لكي تساير لغة الحياة ، لكي تقترب من نبض الحياة المعاشة. وكان ذلك من خلال كتابه الجميل الرائد: الغربال. فلنعد إليه ولنقرأه من جديد. ولكن ألاحظ أن هناك ردة لغوية مثلما أن هناك ردة دينية للأسف الشديد. والمسؤولية لا تقع على دار الساقي بالذات بقدر ما تقع على بعض المترجمين أو المصححين الذين ينتمون إلى عقلية العصور الغابرة..بالطبع فان كلامي هذا لا يعني إطلاقا إدانة لترجمة الكتاب التي لم اطلع عليها حتى الآن وإنما فقط تعليقا على ترجمة العنوان..
العراق وإيران
لكن لنعد إلى صلب الموضوع بعد هذا الاستطراد اللغوي الطويل. ما الذي يقوله الكتاب عن مصير العراق؟ أعتقد أن شومسكي لخص زبدة الموضوع في الكلمات البسيطة التالية: الولايات المتحدة إذا استطاعت لن تخرج من العراق إلا بعد أن تخلف وراءها نظاما مؤيدا للغرب يضمن لها مصالحها البترولية وغير البترولية. فبعد كل التضحيات التي قدمتها والخسائر البشرية الجسيمة التي منيت بها لا يمكن أن تهرب من العراق تحت جنح الظلام وتتركه لحكم معاد وإلا فسوف يكون ذلك كارثة بالنسبة لها: أي سوف تفقد مصداقيتها إلى الأبد في نظر العالم ولن تقوم لها قائمة بعد الآن. وبالتالي فالخروج من فييتنام، على مرارته، كان أسهل عليها من الخروج من العراق. من هنا ضراوة معركة كسر العظم الجارية حاليا في بلاد الرافدين..ثم يردف شومسكي قائلا هذا الكلام الهام: لا وجه للمقارنة بين فييتنام والعراق. هذا هراء.. في حالة فييتنام كان بإمكان أميركا أن تدمرها عن بكرة أبيها لو شاءت لأنه لا يوجد فيها بترول. أما في حالة العراق فان أميركا لا تريد تدميره على الإطلاق وإنما المحافظة عليه لأنه مليء بالبترول. وإذا ما خرجت أميركا من العراق مهزومة فسوف تفقد ماء الوجه وتتحول إلى قوة من الدرجة الثانية وتخسر ليس العراق فقط وإنما كل المنطقة: أي أكبر احتياطي للنفط في العالم. وهذا مستحيل.
ننتقل الآن إلى مشكلة إيران التي لا تقل خطورة عن مشكلة العراق إن لم يكن أكثر، وعلى كل حال فهما مرتبطتان. شومسكي ، على عكس جيلبر أشقر، لا يتوقع ضرب إيران. وإنما سوف تكتفي أميركا بتهديدها من أجل تركيعها وهذا أيضا نوع من أنواع الإرهاب. بهذا المعنى فان أميركا كما قلنا سابقا هي أكبر قوة إرهابية في العالم. فأوروبا تخشاها وتستسلم لها وكذلك اليابان وحتى الهند تحسب لها الحساب وبقية دول العالم. هناك دولة واحدة في العالم لا تخاف من أميركا أو قل لا تنصاع إلى رغباتها بسهولة: هي الصين. وهنا يدخل شومسكي في تحليل استراتيجي عميق وبعيد المدى. يقول بما معناه: أميركا سوف تؤدب إيران بطريقة من الطرق لأنها عصتها وتمردت عليها عام 1979. ولكن ليس بالضرورة عن طريق الغزو كما فعلت مع العراق. وذلك لان السلطة الإمبراطورية لا تسمح لأحد بأن يتحداها علنا. لماذا؟ لأن ذلك يشكل نيلا من عظمتها أو هيبتها أمام الآخرين. كما وقد يشجع دولا أخرى على أن تفعل نفس الشيء. وهذا ما لا تسمح به الإمبراطورية العظمى أبدا. هنا تكمن مشكلة أميركا: الويل لمن يتحداها علنا على رؤوس الأشهاد. ولكن هناك سيناريو يرعبها هو التالي: أن تستطيع الصين مع روسيا تشكيل كتلة كبيرة من أجل تأمين البترول والغاز خارج إرادة أميركا وضدها. وعندئذ قد تنضم إلى هذه النواة المصغرة كل من الهند وكوريا الجنوبية وربما اليابان. وإذا ما استطاعت الصين أن تقنع إيران بالانضمام إلى هذا المحور الكبير فان أميركا سيجن جنونها وستفقد صوابها. نقول ذلك وبخاصة إذا ما استطاعت إيران أن تشكل محورا شيعيا مع العراق الجديد بل ومع شيعة السعودية على الطرف الآخر من الحدود حيث يوجد أكبر احتياطي للنفط في العالم.. هذا السيناريو إذا ما حصل فان ذلك يعني أن الصين حققت هدفها ووصلت إلى نفط الخليج. وهذا خط أحمر لا يمكن لأميركا أن تسمح به. هنا يكمن قدس الأقداس بالنسبة لها ولا ينبغي لأحد أن يقترب منه أو يمسه.. ولكن ماذا تستطيع أن تفعل تجاه تكتل ضخم يضم الصين وروسيا والهند والعالم الآسيوي بمجمله؟ والواقع أنه إذا ما أحست إيران بأن أوروبا انضمت إلى أميركا ضدها فسوف تلقي بنفسها في أحضان الصين والعالم الشرقي وتدير ظهرها كليا للعالم الغربي. وهذا هو الكابوس المخيف الذي يرعب قادة واشنطن..ولكنه لا يزال سيناريو بعيدا بطبيعة الحال.
ويرى جيلبر أشقر أن هناك سببا آخر لحقد أميركا وإسرائيل على إيران هو تصريحات محمود احمد نجاد الاستفزازية ضد المحرقة وضد وجود إسرائيل والتي جرحت اليهود في معظمهم سواء أكانوا صهاينة أم لا. ويرى المفكر اللبناني أن هذه التصريحات موجهة للاستهلاك المحلي وإرضاء الرأي العام العربي السني بالدرجة الأولى. فإيران على أهميتها تظل نقطة في بحر من الإسلام السني الذي يحيط بها من كل الجهات. ولذا فهي بحاجة للمزاودة أكثر من غيرها على هذا الموضوع الحساس: أي موضوع فلسطين الذي يحظى بالقداسة السياسية في العالم العربي بل والإسلامي ككل. وقد نجح الرئيس الإيراني في مزاوداته هذه بدليل أنه تلقى فورا تأييد خالد مشعل بل ومن هو أهم من مشعل: أي زعيم الإخوان المسلمين في مصر محمد مهدي عاكف. هكذا نلاحظ أن الأمور أكثر تعقيدا مما نظن..
الصراع العربي- الاسرائيلي وصناعة الهلوكوست
هنا يكتب شومسكي صفحات مضيئة تستحق التقدير والإعجاب. فهو يثبت لنا أن معاداة اليهود كيهود أي معاداة السامية انتهت من أميركا والغرب كله بعد الحرب العالمية الثانية واكتشاف الناس لفظائع المحرقة. وأصبح اليهود معززين مكرمين في كل أنحاء الغرب الأوروبي الأميركي. ومع ذلك فان غلاة الصهاينة لا يزالون يتاجرون بهذا الموضوع خدمة للسياسة الإسرائيلية التوسعية أو تغطية على جرائمها. والشيء المدهش هو أنهم سكتوا عن الموضوع طيلة ربع قرن تقريبا ولم يحركوه إلا بعد عام 1967 بعد أن أصبحت أعمال إسرائيل التوسعية الاستيطانية تثير استهجان العالم الذي أخذ يتعاطف مع الفلسطينيين. ويرى شومسكي أن نورمان فنكلشتاين على حق عندما فضح كل هذه المؤامرات في كتابه الشهير: صناعة الهلوكوست. وقد تعرض بعده لحملة هجوم عنيفة من قبل اليمين اليهودي الأميركي. والواقع انه من العار أن تُستخدم فاجعة اليهود الذين قضوا في المحرقة النازية الرهيبة من اجل التغطية على أعمال القمع الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد 5 حزيران 1967. ثم يردف شومسكي قائلا: أسوأ خدمة يمكن أن نقدمها لضحايا المحرقة هي أن نتاجر بآلامهم وعذاباتهم من اجل تعذيب أناس آخرين. هذه خيانة بالمعنى الحرفي للكلمة. هذه نذالة. ومع ذلك فهذا ما يفعله إيلي فيزيل وآخرون عديدون من أساتذة الجامعات والمثقفين الأميركان والأوروبيين سواء أكانوا يهودا أم غير يهود. ومعلوم أن هذا المشعوذ الساحر إيلي فيزيل يستطيع أن يبكي كل خمس دقائق عندما يظهر على شاشة التلفزيون حزنا على ضحايا المحرقة حتى بعد مرور خمسين سنة أو أكثر على الحادثة. انه يذرف دموع التماسيح بسهولة لا تكاد تصدق ويستدر عطف الناس على جيش الدفاع الإسرائيلي في الوقت الذي يسحق فيه هذا الأخير عظام الفلسطينيين..وهذا ما يثير اشمئزاز شومسكي إلى أقصى حد ممكن.
هذه الصفحات تشرف شومسكي وكل المفكرين الأحرار الذين يقفون ضد جماعتهم أو طائفتهم إذا لزم الأمر. لقد مللنا من هؤلاء المثقفين العضويين، أي المرتبطين عضويا بعصبياتهم الطائفية والمذهبية، لأنهم لا يرون العيب إلا في الجهة الأخرى ويغضون الطرف عن جرائم جهتهم . نحن بحاجة إلى مثقفين نقديين لا عضويين. هنا تكمن عظمة شومسكي في هذا الكتاب حيث يقدم لنا صورة حية ودقيقة عن معاداة السامية في المجتمع الأميركي على مدار قرن كامل تقريبا وكيف انقلبت من النقيض إلى النقيض. ففي طفولته، أي في الثلاثينات من القرن الماضي، كانوا يركضون وراءه ويضربونه بالحجارة لأنه يهودي. وكان يتحمل نظرات الاحتقار بشكل شبه يومي تماما كالسود. ولكن الامور اختلفت الآن وأصبح اليهودي معززا مكرما. وحل محله في درجات الاحتقار والمهانة العربي أو المسلم. والدليل على ذلك الحكاية التالية: في احد الأيام دعاه رئيس قسم الأنثربولوجيا في جامعة هارفارد ، وهو أميركي اسود، إلى إلقاء محاضرة عن معاداة السامية في أميركا. فانفجر شومسكي بالضحك قائلا: أنت تمزح بدون شك. أين هي معاداة السامية يا صديقي؟ رئيس جامعة هارفارد يهودي والعديد من أساتذتها يهود والكثير من طلابها المعززين المكرمين يهود. فاين هي المشكلة إذن؟ هل نخلقها من العدم؟ فألح عليه الرجل و عندئذ قبل على مضض. ثم جاء في اليوم الموعود وألقى محاضرة طنانة رنانة عن تاريخ معاداة السامية في أميركا وكيف تغيرت الأمور ولم يعد لها من وجود... وفي آخر المحاضرة فكر في إنهائها بطريقة مثيرة فقال لهم: للأسف فقد صدرت مؤخرا عبارات بذيئة في حق اليهود كالتالية: ثم ذكرها وراء بعضها البعض بكل بشاعتها وعنصريتها وحقدها. وعندئذ صدم الجمهور وران عليه وجوم كبير وامتعاض لا يوصف. فقد بدت وكأنها عبارات خارجة للتو من الأرشيفات النازية.. ولكن شومسكي استدرك فورا قائلا: هذه العبارات لم تقل في حق اليهود أيها السادة وإنما في حق العرب. وقد صدرت عن بعض أساتذة هارفارد الذين يدرسون هنا.. وكان يتوقع أن يستنكروا الأمر فإذا بهم يشعرون بالارتياح ويتنفسون الصعداء ويحمدون الله على أنها لم تقل في حق اليهود! أما العرب فليأخذهم الشيطان إلى الجحيم...بالطبع فان الأمور ازدادت سوءا بعد ضربة11 سبتمبر..والواقع أن هذه الشتائم العنصرية صدرت بالفعل عن بعض الأساتذة اليهود في الجامعة من أمثال: ميكائيل فالزر وهو فيلسوف مشهور ، وروث ويس، ومارتن بيريتز وكلهم من غلاة الصهاينة..
المثقف العربي ونقد الذات
في ختام هذا المقال يحلو لي ان أعرف المثقف على النحو التالي: إنه ذلك الشخص الذي ينقد نفسه وجماعته ويكنس أمام بيته أولا قبل أن يفكر في نقد الآخرين ويصب جام غضبه عليهم. فشومسكي اليهودي الأصل يبدأ أولا بمهاجمة المتطرفين اليهود لا المتطرفين العرب أو المسلمين. وكذلك كان يفعل فولتير الكاثوليكي الذي أمضى حياته في مهاجمة الأصولية الكاثوليكية والدفاع عن الأقلية البروتستانتية المضطهدة في فرنسا. ولم يكن هناك أي شيء يجبره على ذلك، ما عدا ضميره بطبيعة الحال وحبه للعدالة والحقيقة... ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن مفكرين آخرين عديدين على مر التاريخ. وكنت أتمنى لو أن المثقفين العرب أعلنوا صراحة إدانتهم القاطعة للأعمال الإرهابية التي ارتكبت باسم الإسلام داخل مجتمعاتنا وخارجها بدلا من محاولة إيجاد التبريرات والتخريجات الواهية لها. ومعلوم أن الكثيرين منهم ركبوا الموجة الأصولية بعد السبعينات وبعضهم تراجع لاحقا وبعضهم لم يتراجع. كنت أتمنى لو أنهم أدانوا بصراحة ووضوح كل الدعوات الطائفية والعنصرية الصادرة عن الأصوليين والقومجيين في بلادنا بما فيها تلك الموجهة ضد اليهود أنفسهم.. بالطبع فان بعضهم فعل ذلك لحسن الحظ كادوارد سعيد وصادق جلال العظم وسواهم من الكبار المستنيرين. ولكن الكثيرين أحجموا عن ذلك خوفا من أن يفقدوا شعبيتهم لدى الشارع العربي المخترق كليا تقريبا من قبل الايدولوجيا القومجية الأصولية. والبعض الثالث أدان هذه العمليات الطائفية من رؤوس الشفاه ولرفع العتب كما يقال ليس إلا. والسؤال المطروح هنا هو التالي: هل يحق للمثقف أن يضحي بالمبادئ الكونية لحقوق الإنسان أم لا؟ هل يحق له أن يستسلم للغرائز الشعبوية والعصبيات الطائفية أم انه ينبغي عليه أن يقاومها بأي شكل حفاظا على المبادئ الإنسانية الحديثة؟ لنتفق على الأمور منذ البداية: إذا كان المثقف ينتمي إلى مرجعية الفرقة الناجية والفقه القديم، أي فقه القرون الوسطى، فانه لا يمكن أن يعترف بالمساواة بين البشر. لا يمكنه أن يساوي بين المسلم وغير المسلم أو حتى بين السني والشيعي لان ذلك يدخل في دائرة اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه بالنسبة له. ولكن إذا كان المثقف ينتمي إلى مرجعية الفقه الحديث أو بالأحرى الفكر الحديث والإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن فانه لا يمكن أن يقيم الناس على أساس الأماكن التي ولدوا فيها لأنهم لم يختاروا أماكن ولادتهم. وبالتالي فلا يمكن أن نحاكمهم على شيء لا حيلة لهم فيه. ينتج عن ذلك أنه لا ينبغي عليه أن يسكت على الدعوات الطائفية والعنصرية التي تصدر عن قادة الأصوليين والقومجيين. قد يبدو هذا الكلام بدهيات أو تحصيل حاصل ولكن بالنسبة للعالم المتقدم لا بالنسبة لنا نحن للأسف الشديد.
ففي البلدان المتطورة التي تحررت من عقلية القرون الوسطى واللاهوت الكنسي المسيحي هناك قانون يعاقب كل من تسول له نفسه أن يستخدم محاجات طائفية أو عنصرية للنيل من خصومه أو حتى من طوائف وفئات بأسرها. فهذه المحاجات هي عبارة عن سلاح فتاك إذا ما استخدمت في مجال السياسة لان الشعب ميال لها ومتشبع بها منذ مئات السنين. من هنا صعوبة مواجهتها وخطورة المعركة غير المتكافئة التي تجري حاليا بين الأصوليين والعلمانيين على مدار العالم العربي والإسلامي كله. أقول ذلك وأنا أستخدم كلمة علماني ليس بمعنى الإلحاد كما يتوهمون عن خطأ في العالم العربي وإنما بمعنى حرية الاختيار فيما يخص قضايا الضمير والمعتقد: أي أن تتدين أو لا تتدين، أن تمارس الطقوس والشعائر أو لا تمارسها على الإطلاق. فحسابك عند ربك فقط ولا يحق لمخلوق على وجه الأرض أن يحاسبك. هذا هو النظام العلماني في معناه العميق: إنه يعني تأمين حق الاعتقاد أو عدم الاعتقاد لجميع المواطنين دون استثناء أيا تكن أديانهم أو طوائفهم أو مذاهبهم.
ولكن بالطبع لا يمكن أن يتحقق ذلك في مجتمعاتنا بين عشية وضحاها وإنما سوف يستغرق سنوات طويلة. وعلى أي حال فقد كلف أوروبا نضال عشرات السنين. ولكن إذا كنا لا نستطيع تحقيقه فورا فهذا لا يعني انه ينبغي أن نحابي العصبيات الطائفية والعنصرية أو نستسلم لها. فهذا لا يليق بأي مثقف يحترم نفسه أو على الأقل ينسب نفسه إلى المرجعية الفلسفية والسياسية بل وحتى الإيمانية الحديثة. فالفقه الحديث، أي فقه التنوير، يتجاوز كل الانغلاقات المذهبية والطائفية ويخرج كليا على لاهوت القرون الوسطى. وقد توصلت إليه أوروبا مؤخرا. ولكن أين نحن منه؟ بيننا وبينه خرط القتاد..فالقراءة العقلانية الحديثة للتراث الإسلامي العظيم هي التي ستنقذنا عندما تحصل. مهما يكن من أمر فانه لا ينبغي التساهل مع القراءة الانغلاقية المتزمتة أو مع مقولات الفقه الطائفي والمذهبي حتى ولو كانت راسخة في العقلية الجماعية رسوخ الجبال. لماذا؟ لأنها تؤدي بكل بساطة إلى بلبلة السلام الاجتماعي بل والى تمزيق وحدة المجتمع ودق إسفين عميق فيه. انها المقدمة المباشرة للتقسيم والحروب الأهلية والمجازر.. وهذا ما حصل مؤخرا في عدة أقطار عربية او اسلامية حيث كفرت فئات بأسرها وأبيحت دماؤها على أيدي الإخوان الأصوليين دون أن يحرك أحد ساكنا.. أنظر الزرقاوي في العراق وسواه.
ضمن هذا المنظور الفلسفي الحديث لا يسعني إلا أن أشيد بالمقالات الرائعة التي نشرت، هنا على صفحات الأوان، من قبل المفكر السوري ياسين الحاج صالح حول هذا الموضوع بالذات. فلأول مرة على حد علمي يناقش أحدهم هذا الموضوع الحساس بمثل هذه الجرأة الموضوعية والمرونة الفكرية والإحساس الكامل بالمسؤولية. أقول ذلك وأنا أتحدث عن الساحة السورية فقط وليس العربية ككل. ربما كان محمد علي الأتاسي يمشي في هذا الاتجاه أيضا بل هو حتما يمشي فيه مع قلة قليلة نادرة. ولكنها مرشحة لان تتكاثر وتكبر. فهل انتهى عهد الخوف والامتثالية الفكرية والمجاملات الخاطئة التي تتم على حساب الحقيقة والمستقبل والوطن؟ ثم بشكل أخطر فإنها تتم على حساب المبادئ التي ما كان ينبغي المساومة عليها بأي شكل أيا يكن رأينا في الأنظمة القائمة واستبدادها. هل ابتدأ التنوير السوري يشع أخيرا علينا؟ أكاد ألمح وهجه من بعيد..أقول ذلك وأنا أعتذر لجيل الأساتذة: لصادق جلال العظم وبعض الآخرين
الإثنين فبراير 10, 2014 11:45 pm من طرف هرمنا