في كتابه “هرطقات: عن الديموقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية”، الصادر عن رابطة العقلانيين العرب ودار الساقي، يضع جورج طرابيشي عددا من القضايا الفكرية التي اتخذت ما يمكن وسمه بالمعضلات الثقافية في التفكير النقدي والاجتماعي العربي، يضعها من جديد على طاولة المساءلة والتشريح، ليبين لنا بعضا من الطبقات التحتية لهذه المعضلات، والتي غابت عن طارحيها في معمعة الطروحات والسجالات والمعارضات والسلطات...الخ.
ومن هذه القضايا إشكالية الديمقراطية، العلمانية في الإسلام، الفلسفة العربية، الإنتجلنسيا العربية، إشكالية التراث والحداثة، المثقف والماركسية...الخ. وإذ يميز طرابيشي بين “إشكاليات الديمقراطية” و“مشكلاتها”، فإنه يقر بأن الديمقراطية هي من أكثر الإشكاليات إلحاحاً اليوم. خاصة وأنها رفعت كشعارٍ لدى كثير من الجهات (وهي أحيانا كما نرى جهات متناحرة ومتناقضة وكل منها يلعب على وتر الديمقراطية من وجهة نظره وحسبَ موقعه، هدفه تحقيق الخلاص من واقع سياسي عربي خانق ومستبدّ، كما رُفعت كشعارٍ من خلال رميها كفزّاعة في أوجه الأنظمة الشمولية لإجبارها على تحقيق مجموعة طلباتٍ غالباً ما تكون أميركيةٍ، وإن كان يعبَّرُ عنها بصيغٍ أوروبية وأمم متحدية... لهذا تصحّ صفة الإيديولوجيا على هذه النظرات الموظفة توظيفا مسبقا للديمقراطية... حيث كل يدعي بها وصلاً وهي لا تقر لهم بذاك (على نمط بيت الشعر المعروف: وكلّ يدّعي وصلاً بليلى!...)
يقف طرابيشي من هذه الإشكالية موقف المفكك، رافضا قبل أي شيء أن يبقيها رهن الشعار المطروح (أي أنها إيديولوجيا خلاصية) ويردّ على هذا الفهم المؤدلج بجعل المسألة تقف عاريةً أمام ضوء النقد والتحليل المعرفيّ.
ويختصرُ طرابيشي في هذا السياق إشكاليات الديمقراطية إلى ستّ إشكاليات محورية، هي: إشكالية المفتاح والتاج، إشكالية الثمرة والبذرة، إشكالية المفتاح، إشكالية الشرطي ورجل المباحث، إشكالية الذئب والحمل، إشكالية الصندوقين...
وتعني إشكالية “المفتاح والتاج”، ما يعنيه السؤال الأبديّ: منِ الأسبقُ: البيضة أم الدجاجة؟ أي هل أن الديمقراطية سبب أم نتيجة؟ فالذين ينطلقون من أنها هي الخلاص المطلق لكل ما نعانيه في حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، يجعلونها “شرطاً سابقاً لكلّ نتيجة لاحقةٍ”، ولكن يذكّرنا طرابيشي بأن ثمة حالاتٍ لم تحتمل فيها مجتمعاتٌ بعينها قبول الديمقراطية مع أن جسم هذه المجتمعات كان مريضاً، ومع ذلك رفضها كترياقٍ سحريّ. وهذه المجتمعات ليست إلا بعض الدول التي يقال عنها إنها مسقط رأس الديمقراطية وليست دول عالم ثالث أو متخلف أو متأخر أو مفوّتٍ... ومثالا على ذلك يذكر تجارب كل من الديمقراطية الأميركية المكارثية والديمقراطية الفرنسية في الجمهورية الرابعة... وغيرها.
ومن هنا، يتساءل ليصل إلى الإشكالية الثانية: “هل الديمقراطية ثمرةٌ يانعةٌ أم هي أيضاً برسمِ الزرع؟”، ويعتبر أنه إذا استنبتنا الديمقراطية عن طريق المثاقفة في تربة غريبةٍ عن شروطها وطبيعتها ولم نجعل منها كائنا داخلياً وصالحاً للتكيف مع ما هو خاصّ فسرعان ما تذوي “وتتحوّل إلى عشب سامّ”... وقد فعل هذا كثيرٌ من الحركات السياسية التي استوردت البضاعة الأجنبية إلى جانب “الديمقراطية” لتنشرها في سوقٍ داخلية غير مؤهّلة للتعامل معها. فالديمقراطية، على هذا الأساس وكما يدعون، هي مفتاحٌ لكل الأبواب، ولكن لماذا يتجاهلون أنها “هي نفسها لحاجة إلى مفتاح، ولعل بابها لا ينفتح إلا بعد أن تكون سائر الأبواب الأخرى قد فتحت”؟
ويعتبر طرابيشي أن المفتاح الحقيقي للديمقراطية هو: شرطُ الحامل الاجتماعي لها. ويفسر ذلك بأن الديمقراطية هي من نتاج الحداثة التي كانت أصلاً نتاجاً للطبقة البرجوازية الأوروبية ولهذا “إن الديمقراطية وان لم تتواجد حيثما تواجدت البرجوازية فإنها تغيب حيثما غابتْ”. ومن الطبيعي إذن أن نرى في تجربة الماركسية والعالم الثالث نموذجين لتغييب الطبقة البرجوازية، على أنها خطرٌ يتهدد الأمن والسلام المحليين!...
ويمكننا أن نقول هنا إن الأنظمة الشمولية التي تشكلت في مناخ ثوراتٍ فلاحية وعماليةٍ وجهت ضربة قاضية إلى البرجوازية، فوجهت معها ضربةً قاضية إلى كل مفهومٍ سياسي تبلور ونما في ظلّ تشكل الطبقة البرجوازية، ومن هنا تغيب الديمقراطية عن الدول التي تحكمها “الأنظمة الثورية الانقلابية” التي كانت تعتمد على توظيفِ المجتمع في خدمتها جاعلةً منه حقل صراعٍ مخابراتيّ يفسد بعضه بعضاً... و“يُفسد” فيه الأخ على أخيهِ، والابن على أبيه. وذلك من خلال الاعتماد على رجل المباحث في إدارة شؤون الدولة، لا رجل الشرطة...
وهذه هي الإشكالية الثالثة، التي تغيب معها وظائف القانون التي يسعى إلى تحقيقها رجل الشرطة كحارسٍ للقانون وتمت الاستعاضة عنه برجل المخابرات الذي يشتغل وفق منطق الولاء الشخصي والطائفي والعشائري، أي غابت الدولة عن المجتمع العربي وحضرت بدلا منها صيغ وتشكيلات هجينة سرقت دورها وغيبت وظائفها... ويقول طرابيشي: “وبدون أن نماري في ضعف المجتمع المدني العربي وطرواة عوده وضيق هامش استقلالية المنظمات الناطقة باسمه ومحدودية فاعليتها، فإننا نعتقد أن مردّ المأزق الديمقراطي في العالم العربيّ ليس إلى قوة حضور الدولة، بل على العكس – ومهما بدت المفارقة قويةً – إلى استضعافها وتغييبها”.
وقد يذكرنا هذا الكلام بأطروحة برهان غليون “الأمة ضدّ الدولة” التي تصبّ في إحدى زواياها في المعنى الذي نراه هنا. لقد هجمت السلطة على الدولة وغيبتها لصالح شريعة الحزب الواحد الذي من خلال الولاء له يتم تقييم العمل والترفيع والفرص والكفاءات، وكل ذلك من عمل مؤسساتٍ دولتية وليس من عمل حزب حاكمٍ... يقول طرابيشي: “المأزق الديمقراطي يتمثل في أن الشرطي مجرد من سلاحه أمام رجل المباحث، وفي أن المخافر واطئة السقف أمام أقبية الاستخبارات، وفي أن العنف الشرعي لما فوق الأرض مصادرٌ أو مكفوفٌ عن الاشتغال لمصلحة العنف اللاّشرعيّ لِما تحتَ الأرض”. ويُضمر هذا بطبيعة الحال إيمانا راسخا بضرورة إعادة الاعتبار إلى الدولة وتحجيم تدخل السلطة الحاكمة كحزب ومباحث وولاءات هامشية، في شؤون الدولة.
ومع هذا لا يقف طرابيشي موقف المعجبِ الرومانسي بالدولة أو المجتمع، فهذان ليسا ضحية ولا حملاً ولا يمكنُ اختصارُ المسألة إلى ثنائية نبرّئ أحدَ عنصريها ونلقي التهمة كلها على الجانب الآخر. وهذه ما يسميها بإشكاليةِ “الذئب والحمل”. وفي الحقيقة، ومع قسوة الموقف هنا على المجتمع وناسهِ وعبادِه، فإنّ الواضحَ أن طرابيشي يريد من هذه القسوة المفرطة أن يذكّرُ المجتمعَ ولاسيما “المدَنيّ – الأهلي” بدورِهِ ومسؤوليتِه في قضيةِ الديمقراطية... ولكن ما يراه من أمراضٍ خطيرةٍ مصاب بها هذا المجتمع ما هي في النهاية حسبما نرى إلا نتيجة لكل ما ذكره هو نفسه من تغييبِ دورِ الدّولة وإعطاءِ الأولوية للمباحث على حساب القانون، مما خلق شخصيةً اجتماعية متحلّلةٍ من مسؤولياتها، تتمتع بالانتهازية والطائفية والفئوية، شخصية قبلتْ أن يُعادَ تجهيلها ثقافيا وسياسياً، إضافة إلى أميتها، وكل ذلك شكل أرضا خصبةً قابلةً لأن يؤثر فيها الدين العموميّ وخاصة القادم من مواقع قرار النفط، وهذا يقود إلى غرقٍ إراديّ في ظاهره، ولا إراديّ في بعدِهِ العميق، في شركِ تقبّل العنفِ المسمّى في الذاكرة الجمعية العربية “بالجهادّ... وهذا ما يشير إليه طرابيشي إذ يضع يده على”اللوبيات الدينية المموّلة بالدولارات النفطية“وهي اللوبيات التي تمارسُ جهادَها سياسيّا أو معنويّاً بتنصيب نفسها رقيبا عتيدا على أقوال وأفكار الكتاب والأدباء وتسعى إلى”إصدار الفتاوى والأحكام بالتفريق عن زوجاتهم كما في حالة نصر حامد أبي زيد، أو بالتهديد بالقتل كما في حالة سيد القمني، أو حتى بشنقهم كما في حالة محمود محمد طه، كل ذلك غدا مشهدا مألوفاً في الوضعية العربية“.
الإشكالية الأخيرة التي يراها طرابيشي في قضية الديمقراطية عربياً، هي إشكالية”الصندوقين“، صندوق الاقتراع وصندوق جمجمة الرأس، على حد تسميته. ولأن المجتمع العربيّ مجتمع فيه ما يزيد على مائة مليون أميّ (!!!) فإن السؤال عن المكان الحقيقي الذي ينبغي أن تتجلى فيه الديمقراطية يجب أن يكون سؤالاً أكثر شفافية وشجاعةً أيضا: هل هي في صناديق الاقتراع؟ أم هي في مكان آخر؟ كيف ينتخب الأميون قياداتهم السياسية وممثليهم للبرلمانات العربية وهي برلمانات مصنعة وفق الأكثرية الحاكمة دائماً؟ وما معنى صفة”المستقلين“التي يتم إطلاقها عادةً على المرشحين الذين لا ينتمون إلى أحزابٍ مشاركة في الحكم؟ لقد أثبتت التجربة السورية على سبيل المثال أن معظمَ المستقلين هم شيوخ بدو وعشائر يفيضون بمكرماتهم الباهظة على قطاعات واسعة من الشعب”بدوا وغير بدو، مسلمين ومسيحيين، في سبيل خلق جو نفسي محرج لينتخبوا هذا الشيخ أو ذاك. هل يعرف المنتخبون – بكسر الباء – شيئا عن الحق الذي يقول لهم الإعلام إنهم يمارسونه: وأعني الديمقراطية؟ وهل يكفي أن يرمي هؤلاء بورقة الاقتراع في الصندوق لنقول إننا حققنا الديمقراطية؟ وهو ما تركز عليه السلطة بإعلامها وكتابها لتمييع معنى الديمقراطية؟“، يقول طرابيشي”فالديمقراطية هي بالأساس ظاهرة مجمتعيةٌ ، والمجتمع هو في المقام الأول نسيج من العقليات. ولئن تكن الحرية الديمقراطية تنتهي لا محالة إلى صندوق الاقتراع، فإن الصندوق الأول الذي تنطلق منه وتختمر فيه هو جمجمة الرأس. وان لم يتضامن صندوق الرأس مع صندوق الاقتراع فان هذا الأخير لن يكون إلا معبرا إلى طغيان غالبية العدد"...
كتاب جورج طرابيشي مهمّ في تشريحه النقدي والثقافي للمقولات الراسخة أو التي شبه لنا أنها راسخة، ونحن اخترنا في هذه المطالعة تقديم جانب واحد من جوانب الكتاب وفي ذهننا أنه كتابٌ سوف يسيء إليه التلخيص والعرض السريع..
الأحد فبراير 16, 2014 1:25 pm من طرف فيصل