متاحة ثـــــــــــــــائر محــــرض
الجنس : عدد المساهمات : 330 معدل التفوق : 924 السٌّمعَة : 20 تاريخ التسجيل : 27/02/2012
| | رواية سليم بركات “هياج الإوز” كرديّات يحترقن على لهيب شبق وشتائم يأس | |
هي رواية حنين واحد وخيبات كثيرة. نساء سليم بركات، خرجن هاربات من السجن الكردي في سوريا، (ممّا يجدر ذكره في سياق المصائر المفتوحة على الذعر وحده، رواية “معسكرات الأبد” التي اختبرت عزلة نساء عشن كأطياف على حافة التاريخ الجغرافي والسياسي الذي دوّن سرّاً على حسابهنّ، آناء سطوة فرنسا وتلفيقها حدودَ القدر السوري المرير..)، النساء فررنَ بمزحة مأساوية، تُدعى التهريب أو اللجوء الإنساني أو الاستيراد للزواج. بدلن بياض ثلج السويد بحرارة سهول ميردين، تركن حقول الزيتون في عفرين، اختفين ومنحدرات قاسيون حي الأكراد، التي أضجرَ فقهاء عصمتها إحالة الاسم القومي الصريح، فعبثت به لتحصره مخنوقاً في زاوية رفيعة الشأن تدعى زوراً “ركن الدين”. لذن بخضرة الشجر الكثيف بحثاً عن نجاة تنشلهنّ من أرض الخوف، محتميات بحصانة القوانين هرباً من نظام الفوضى المدمرة. خابت رغبات الاندماج المأمول. منفيات الماضي خائفات المستقبل. من هرب من سقم الجغرافيا، سقط في جحيم الذاكرة. يحمل المرء مكانه كما يحضن المرض. وعورة الهوية المحطمة ومهانات الجوع، وهمٌ يفضي إلى لا مكان. تنفرط الروابط، وتبقى أرض اللذة. اكتسبت النساء شخصيات فردية على نحو ما، حزن بعض ثقافة، لغة وترجمة واختلاطاً، تحركن وشخن داخل علب متعة مغلقة. أصوات صارخة مفزوعة وشرهة، نشيج مؤلم طويل يرتفع من قاع نظام “عالم ما بعد حداثي” حوّل ملاذ الحرية حاوية قمامة. ما كان سليم بركات مدوّن وقائع صرفة، إذا استثنينا سيرتي الصبا والطفولة، ولا كان معاصراً بهذا القدر من القرب السردي المراهق والحسية السائلة المرحة، والسخونة الطارئة لحاضر كردي منفي وممزق في روايته الأخيرة “هياج الإوز” التي استهلها بتنويه يوحي باعتماد الراوي أحاديث واعترافات نساء مسجلة، أرفق أسماءهن بلائحة أعمار وأرقام هواتف تحمل الرواية على الشهادة والتوثيق. سير منفصلة متصلة، كحال جغرافية الكورد الممزقة وسط لغات إمبراطوريات اندثرت سطوتها، ولم يبق منها غير مزاعم كاذبة. هي سير مجتزأة يوحدها تقدم بطلاتها في العمر، دون أن تتخطى الاستعادة الوهمَ الذي يسعفه تضخيم باذخ وتعمقه مبالغة تصويرية منتشية بنظامها المشهدي البارع، فينفذ ويترسخ ولا يعود وهماً في شيء. حيوات مسحوقة، لكن الرغبة التي تبدو متقدة تهوي ساقطة إلى حيث تهلهل الواقع الذي طردها كسيرة إلى أقصى الأرض، وإذْ فشلت المصالحات الفجة ونزعات التكيف ومرواغات النسب العائلي مع ثقافة جديدة أشبه بجزر مفككة ولا مبالية، برزَ إحباط الأصل الكلي محتقناً ومغلقاً. إنها لصورٌ كابوسية يحميها الاعتباط الذي أنشاها. حجب الغريزة حجب للحياة نفسها.لم يكن بركات معاصراً ولا مرحاً، ولا “خفيف” البناء. ثمة هذر يجدر بمتاهة حسية رائعة، اعترافات ملتهبة، وبوح ساخر. إنه لهذر يليق بجنون لا طمأنينة بعده. عدا طابع المرح والثرثرة المسهبة، نعثر على أوربا هزيلة تكاد تختفي تحت جليد قوانينها، وندم مهاجرين مرضى بكسل حنين مقفل الأبواب على وقع عطلات السبت متعاقبة، “سبت النساء” عطفاً سائلاً بهزء على سبتٍ يريح ربَّ الحرب، تديرها تباعاً، مهاجرات كرديات على ولائم تلو أخرى. يقاس برد العقل بمدى سخونة الرغبة، وتوزن أدوار الحياة العابثة بشتائم أكثر عبثاً، ويمتحن الجسد الخائف بغمر الجنس الطاهر. ما ينبغي احتقاره يحتقر علناً، وما تعطل وترهل يشع شبقاً لاهباً. سنوات الجفاف وشناعة القمع وتبديد الأرض والبشر، ودوام الاضطهاد، يعاد مخموراً حتى عظامه، وليمة إثر أخرى على أنخاب الجعة والنبيذ وأنفاس المطبخ الكردي المهاجر مع نساء تجاوز معظمهنّ سنّ الأربعين فاهتجن ناقمات على عمر سخيف متردد ومحاصر تهدل وذبل هنا وهناك، حيث تحولت النجاة عسراً مربكاً وضيقاً بلا منفذ. روائح تبغ لا ينطفئ، ونظرات شهوانية وألسنة إباحية، كلها تتجمع في مركز واحد، أين منه هياجاً وغرابة ولطفاً، تركة أستاذ كالنفزاوي ونصائح شاعر كأوفيد وآلاف من الليالي الملاح. من لم يجد أرضَ أمانٍ تحمي رفات أجداده من العبث لن يجد أرضاً تنقذ أبناءه من دخان المستقبل في أرض الصقيع. قلق أمهات هاربات يولد إهمال أبناء ورخاوة بنات. صدّ مقابل صدّ. حبْس الماضي يعاد مغمى عليه داخل حبس الغد. “تاسو عارف ميران بك”، ملكة القدرة على تخطي عقد القانون، ضاربة رأس ابنها “رَنْد”، تفتتح الرواية بالشتائم. تاسو الجارفة الثقيلة تسعى، تحت طيات شحمها، حشْدَ مؤيدين لمظاهرة تغيير اسم الشارع الذي تقطن إحدى بناياته، من السويدية الأم إلى “ملا خابوت” الأب، وهو صانع قشدة شهير في “قامشلو” النائية نأيَ العذاب المعافى عن كل عافية مريضة. حنين مراوغ ومنكسر يحمل عن المكان المهجور عبء تدمير أسمائه، بعد أن عرّبها نقاءُ “البعث السوري الخالد”. يرد الفتى على أمه بعد اتهامها له نزع لوحة اسم الشارع السويدي: “سأقتلكِ يوماً يا أمي”. حنين الأم يقابل برفض الفتى. اتهام يبرر الضربة على الرأس. ولا يتأتى العنف صريحاً من سرد وقائع قدر ما يتكثف من تلقيها داخل النفس وتذكرها، وما طغيان السمة الجنسية الخشنة والشاكية ولعاً، وهي مدارة على عنف لفظي لا غير، سوى الشكل المعبر حسياً ومباشراً عن “مجون” يعيد امتحان العقل. ثمة أيضاً أثر الهجرات المتعاقبة، وصوت أقرب إلى نبرة معولمة. تدار الأحاديث والكؤوس، وتفتح علب التبغ، على خلفية قاتمة من عالم التفجيرات وغدر الشراكات العاطفية، والخيانات الزوجية. يبدو العالم الطارئ عالم عنف شهوي شبق. تتقلص الجغرافيا المتصارعة شرقاً على غرب. مكمن البهجة والنسل آلتا حزن وكآبة. ما ألغي في زمن مضى، ما منع وحوصر، يفور ويلطخ، ينقسم ويتمزق. لا تظهر المرأة الكردية مناضلة حلم قومي في هذا العمل الروائي الساخر. إنها تخلق نفسها بنفسها عبر طرح كل ما أخرسها لعقود. لا ندم ولا قيد. الكرم كله أن تكون مرحاً حياً، بل مسرفاً حينما يكون الشح علامة بؤس. جسدٌ يؤكل بالعين ويُشتهى بالخيال ويلبي بسخاء. رواية نشيد في المتعة والوحشة. متعة لم تهدد أحداً من قبل مثلما منعت وتفسخت لدى نساء مقسمات الذاكرة والجسد. في قاع المنزل الذي كانت فيه “تاسو” كلمة البداية، حالمة بكلبة، هي صورة تاسو عن نفسها: “أنا هنا. أخرجي. لا أحد في السويد جلب لكلبة مثلك أحد عشر طوقاً بألوان شتى سواي. لا أحد. أخرجي”، تجلس وحيدة، بعد حفل تدمير جدير بكل “كتاب يكون كالفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا”، على قول شاعر آخر في الرواية، السيد كافكا. | |
|