في اللّيل الشّتويّ تتدثّر بنصف قمر وتتذكّر أنّ فيك من الحياة بقيّة. تحاول أن توازن بين النّور والظّلمة. تفتح نافذة من سحاب. تجمع المُفردات للمعنى. توالف بين الأضداد. تُزاوجها على صفحة ماء. تسترجع عطرًا ذات فراش. تنثر زهرا على الحُلم. تخرج للنّجوم. تكتب تحت السطر. ترسُم خطًّا طويلا. تكسر الدائرة. تُغرق في الضحك.
يأتيك هتاف. تتسلّح بالخوف. تلبس رهبة. تتلمّظ قشعريرة. تشربُها. يسيل لعابك. تبدأ لحظة التّنزيل. تشعّ الظلمة. تتعرّى. تتدثّر بالبرد. تنزل القطرة الأولى ماءً ثلجيّا. ترفض الوعي. تتّخذ مكانا فسيحا. السماء أوسع من الوهم. الكواكب أكثر من العدد. المسافة أطول من عمرك. البحار تأتي إليك. الماء يدغدغ كعبك. يستأذن للصعود. يداك مشرعتان. فمك فاغر. عيناك الحُمرة. عُريك ثوبك. فتحة فمك البداية. لسانك سلطانك. اللحظة أطول من الزمن. المقابر تدخل اليقظة. الرماد يعطس. السّؤال بأربع عيون.
تسقط في نتوء بين اسمك والنّداء. رأسُك إلى أعلى. تتذكّر جنازة. كنت ماشيا. مُمدّدا. هربت مع الكفن. تسلّقت السماوات. شهدت حفلا للعراة. وطِئت عجوزا. كُنت تحبّها. لازلت تحبّها. سبقتك إلى هنا/هناك. كَبُرت. فمها بلا أسنان. نظرتها لم تتغيّر. لهاثها لعنتك. اسمك على شفتيها جُرحك الكبير. تلاحقك الوجوه. تتعدّد ولا تحصى. تنفض الغبار عن آثامك الجميلة. تجمعُها. تحميها من الأقدام العمياء. تلعقها. بريقُها الذّاكرة. تشتهي اقترافها. تريد أن تعود. التراب بلا رائحة. حمرة تشقّ السماء. تتمنى الزّرقة. تتخيّل عصفورا.
تبدأ التراتيل. تأتي اللّغات من الأبد. الأصوات سوداء. العويل يسري في دمك. لحمك يتشنّج. خلاياك تستغفر منك. جلدتك ترفضك. شعرك يهرب. أملس كحجر الوادي القديم. بلا مفاصل. رقمٌ في نهايات العدد. حّبة رمل في محيط. تدخُل تيه الكثرة.
الوجع جافّ. تتمنّى دمعة. جفناك انفصلا. الرّمشة انكسرت. الآهة ضاعت في الفراغ. الغربة تقتات من قلبك. الشكّ يتّسع. اليقين لا يكتمل. النسيان ذكّرك بكلّ شيء.
تنظر في صفحة يدك. تعيد رسم الخطوط. تتعرّج أكثر. تتكاثر. تتشابك. تنزل إليها. تجرى بين وديانها وجبالها الجرداء. تبحث عن نقطة البدء. النهايات تتعدد. الأفعال ميّتة ومَنْهِيَّةٌ وناقصة كلّها. الوهم يأكل الحقيقة. أنت لم تُنجز شيئا. لا أثر. أتيت من عدم وعدت إليه. تحفر كفّك. تبحث عن الحضارات الّتي مرّت عليها. عن القصور والجيوش والخُطب. تبحث عن الغابات وأولى الأغنيات. عن أوّل الأشعار وبدايات اللذّة. عن تفّاحة مقضومة وورقة توت.
تنزل عند المعصم، تريد أن تحرّكه. تتمنى زلزال بدء جديد. صيحة خلق في الملكوت. سيلا يجرف اللحظة. تريد الأنواء. رعدًا يقتل الصّمت. خروجا عن الجمود. تريد أن تُعيد التوافق بين اللذة والألم. الحسنة والسيّئة. الجزاء والعقاب. تريد أن تكسر الصّراط، وكُلّ نفس بما كسبت تعود إلى أرضها. أن يفيض الجحيم على النعيم. يعيدان تشكّل الفكرة. هذا الخطّ غير المنتهي مُفجع. هذا اللانهائيّ رهيب. هذا اللامعنى. الدخول بلا خروج. التطهّر بالنار للأنصاف. الرضاء السّهل على أهل التسليم. على العاجزين. على غير المتشبّهين بفكرة الخلق. والآخرين. لا معنى للرفض الآن. للتفكير. للمحاولة والمجابهة والمجادلة والشكّ ونبش الربّ في غيبه. والآخرين. لا معنى للصمود. للثبات على جبهة الفكرة. يثبتون في العذابات. أبد بلا آخر. أكثر من نهاية. لا هروب. لا شفاعة. لا ثورات. سيكفرون أكثر. يؤمنون بالعدل أكثر والإنسان.
يناديك مناد. لم تسمع. ادّعيت. تتذكّر محطة قطار زمن الحقيقة. تغمض عينيك. وجه صاف يعبُر. عينان وضحكة. ثوب كعطر. سفرة في اللّيل. سجائر. جريدة. غمزات. ملاطفة عند الباب. حقيبة. شجر يجرى في الخارج. بيوت قديمة. دفء داخلها وأطفال. يناديك المنادى. تُفتح السّجلات. لماذا خُلقت؟ لماذا قَبِلت بُويضة نطفة؟ لماذا كبرت؟ لماذا مشيت وجريت وتحمّلت الصّعاب ونمت واستيقظت وأكلت وشربت وجرّبت وأخطأت وأخطأت. ثمّ لماذا أتيت؟
يناديك المنادي. يقرأ اسمك بلكنة الأوّلين. وبكلّ اللغات. هل تذكر؟ ما قصدت وما لم تقصد. هل صدّقت؟ قالوا لك، هل تنسى؟ نبّهوك. حذّروك. توعّدوك. أخرجوك من المدينة ألف مرّة. أحرقوا ورقك. جرحوا لسانك. فرّقوك عن قلبك. رجموا فكرة بين شكّك وعزمك. نحروا شوقك. أكلوا خبزك. كلّ هذا ولم تصدّق؟ باعوا دمك. اشتروا بثمنه عطرا للإمام قبل أن يفضّ صبيّة. ولم تصدّق؟
عُدت الآن. قال: عُدت الآن. الآن أنت هنا، الآن. هل صدّقت؟ سنُميتك ونحييك. ستكون أنت أنت في كلّ مرّة. وأنت أنت سترفضنا. ونحن كما قيل لك. ونحن كما كفرت بنا. ونحن العدل. قلت لم ترنا. لو صدّقت ولم ترنا؟ لو سلّمت بنا؟ لو دعوت؟ لو صلّيت؟ لو قتلت باسمنا، وأكلت وشربت ونكحت باسمنا؟
عُدت. هذه ليست الحياة. لا مفرّ. هنا الموت. قلنا البعث. ذلك سرّنا الإلهيّ الكبير. بل هنا الموت نعيد تشكيله. نصنع وقائعه. ونرجعك في أيّ عمر نريد. مع كل إثم. نحن نحدّد الآثام لا أنت. والجرم. نحن نعرف الصّواب... لا زلت لا تصدّق!!
أُخرج من باب إلى باب. تحدّث. اسأل. قل: نحن في وهم. هؤلاء تجّار. سرقوا أختام الربّ. الله لا يزال نائما. لقد أنزلنا ثمّ نسِينا. أعطانا الأوّل والآخر. وحرمنا الأبد. هؤلاء. هناك مؤامرة. تواطؤوا مع خطيب الجمعة وقارئ قداس الأحد وحبرٍ ورئيسِ خدمِ السلطان والسلطان. قل: لا تلبّوا النداء. عودوا إلى قبوركم. ناموا جيدا. تعبتم. اهدؤوا. جربوا الحياة بالتذكّر. أعيدوا ترتيب الأحداث. تندّروا بالأخطاء. اجتمعوا تحت القمر. غنّوا. أقتلوا الوقت.
اللّحود تنظّم مسيرة. واقفة كلّها. تندّد بهذا العبث. تدعو أهلها للعودة. تصيبها النبال والسيوف والرصاص والقنابل والصواريخ. كلّ حسب عصره. تختلف في من يمثّلها للتفاوض. تشكّل لجنة من بضعة ملايين. تنقسم. تشقّها خلافات حقيقية. لقد صُبغت كُلّها بأفكار البشر الذين ناموا تحتها طويلا. بعضها يتآمر على بعض. تتفتّت. تنتهي ثورتها.
تهرب. إلى أين تهرب؟ هذا العراء. الحقيقة واحدة. تريد أن تؤسّس منظمة لغوث الطفولة. ومنظّمة للتبرّع بالعيون للعميان. ومنظمة للمعاقين. وللمشتاقين. وللعاجزين على دفع بعض الحسنات لتناول وجبة. وللمحرومين من الجنس. ولجمع أثواب للسيّدات العاريات. ولتخفيف الأحكام عن أهل اللذّة. وللمشكّكين. وللمتمرّدين على المحراب والصليب وآلة نفخ دينية.
تهرب. يلاحقك جيشان. جيش من جماعة الربّ، وجيش من جماعتك يريدون مقايضتك بعفو.
في الملكوت. هناك. حيث وجدت نفسك فجأة/أوّل مرة. وأعلنت رفضك للمرة الثانية. لا زلت تتمنّى نوما بلا خوف. ظلاّ. سكينة. صديقا. حبيبة بلا شكّ. فكرة بلا سرّ. مترين للاستلقاء بلا أجر تدفعه.
يساومك أحد قادتهم. يغضب. تريد أن تشرب كأسا وتدفع لنادل. إذا. تريد أن تتسوّق. تريد عملا بأجر. تريد نساء يُردْنك. تريد أن تعرَق. تريد شمسا وظلا. تريد عراء. تريد أن تطبخ. بخلاصة. تريد ما تريد. نحن وعدناكم. لم تفِ. أعطيناك. ترفض. ما رأيك بالجحيم؟ هناك تتجّدد. هناك لك ما تريد. هناك تُصارع. وقد أردت. هناك ننوّع في العذاب. الطعم يتجدّد. يمكنُكَ أن تصرخ. يمكنك أن ترفُض. يمكنك أن تنّدد. يمكنك أن تكفُر بنا. نأخذُك هناك. إذًا.
أَتَيْتَ. قال صديق قديم. سمعنا. قال آخر. ركضتَ طويلا على الصراط. جرّبت. حاولت. فشلت. رفضت. تمسكّت.. غبيٌّ. همس صاحب أنف أفطس. ونقل حديثنا إلى أقرب حارس هناك. تحت نظرنا. بكلّ وضوح. أعطوه جُرعة ماء قبل أن ينزل القاع من جديد.
ما الفرق بين العالمين؟ لا سلطان لك هناك. الأقدار تحكمنا. لا سلطان لك هنا. جزاؤكم جاهز. هذا العالم الغيبيّ كان يحكُم الأوّل من وراء ستار. حدَّدَ مسيرتك. ثم يحاسبك الآن. ما هذا العبث؟ لماذا اصطفيتم أولئك؟ جمهورا في النعيم وجمهورا في الجحيم؟ ثم. لماذا تعاقب الأغلبية مرّتين؟ يُشرّدون ويُجوّعون ويُضربون ويُقتلون. ثمَّ/هنا/في العالم الثاني. يُحرقون ويُسحلون. ويُمَّوتون ويُحيَوْن بلا آخر.
يا عدالة السماء أجيبي. هل لي أن أكون نبيّ الآخرة. أن أجمع صَحْبِي. وأهاجر ألف مرّة إن أردتم؟ نكتُبُ بياننا ونرفض النزول إلى القاع؟ نحمي المُتعبين. نزرع زهورا. نغرس شجرا بلا شوك. نطالب بتخفيض درجة الحرارة. بتتبّع المغالين في التعذيب. على الأقل؟ نطلب مساواة في التعذيب. فسحة للتّزاوج. حقّ اقتراف الذنوب. لا بأس إن تضاعف العقاب. أبدٌ مع أبدٍ عمليّةُ جمْعٍ حمقاء!! ولو زدتَ ألف أبدِ لأبدٍ ماذا سيتغيّر؟
يا عدالة السَّماء! لقد كان الناس ينظرون إلى أعلى للدّعاء. وقد حللنا فيك. أين نتوجَّه؟ وَهْمُ الأعلَى سقط. نحن في حقيقة الوهم الآن. لازلنا على رفض. التصديق لا يُناسبنا. مازلنا نُؤمن بالإنسان. نحن نسترجع قيمنا كلَّما جمعتم رمادنا من سَقَرْ. ولا زلنا نعتقد أنّ الأحداث الأخيرة تجرى في ذهن العالَمين جميعا في لحظة واحدة. لكننا نجابه الوهم برغبة اليقظة. نريد توحيد المملكتين لتلتقي الأضداد من جديد. ويستفيق البشر.
في المرّة الأولى. مقيما جديدا في الجحيم. لم أكن قد جرّبت بعد. قلت لمن استقبلني: لن أشعر بألم مع حرارة على هذه الدّرجة. سأموت قبل أن أتألّم. مثلك توهمنا. أجابوا. يجعلون رمادك يتعذّب. يوما كاملا. خمسين ألف سنة. والشّفاعة؟ سألت. أنظر. قالوا. كان هناك رهط من الزّبانية يلتقي رهطا من أهل الأديان على الصراط. عند نقطة تفتيش. دُفعت رشوة. تبادلوا ضحكات. همسات. تصافحوا بحرارة. عاد الزّبانية بعزم كبير. ماذا؟ سألت. قال صحبي: إنهم يدفعون للزبانية ليؤخّروا موعد الإفراج عن معتقلين وقتيين. مقيم جديد في النعيم سيشاركهم نساء وأنهارا وقصورا.
يا عدالة السماء! حللنا فيك. أينك؟ أين يقيم أبناؤك الأنبياء؟ تخلّوا الآن عن أبنائهم؟ انتهى دورهم؟ ذهبوا للمتعة، يشربون الخمر الآن ويتسلون بالأطفال؟ هل جعلت لكلّ منهم قضيبا طويلا وخصيتين كبيرتين؟ يتقاضون راتب تقاعد وامتيازات شتى؟ كانوا عندنا، حيث نأمل العودة، على نبل كبير. كانوا يصارعون. يقاومون. يجابهون المصاعب. يصبرون. يتألمون لأجلنا. كانوا يهاجرون. يُبعدون ويعودون بالرسالات. يجمعون الضعفاء. يعدلون. لا ينامون. يمشون طويلا. يُفكّرون. يتسامحون. يُخرجون الماء من الجدب. يسقون العطشى. يحاربون من أجل فكرة.
الآن جمعتهم (أيتها الذات السامعة الغائبة) مع من تاجَر باسمهم. لم أجد خليفة هنا (في الجحيم) أو إماما. لم أجد شيوخ الفقه، هنا في الجحيم. لقد باركوا كلّ الجرائم وشربوا كأسا من دمنا مع كلّ الغزاة.
أنت لا تنام. إذًا لا تستيقظ. أنت لا تجوع. لا تأكل. تشتهي. لا تتمتع. تموت وتحيى. فقط. العذاب ليس النار. ليس الحرق. إنه هذا المسطّح من المكان والزمان. قال صاحبي (بلحية رومانية ووجه صخريّ، ويعشق الحجارة والخطابة)، لو قبلت عرضهم!! قلت: ألا ترى أنهما عذابان؟ نعيم تام أو ألم تامّ.
ما الرغبة بلا سعي؟ ما اللّذة بلا انتظار؟ ما النوم بلا تعب؟ ما الكسب مع المُتاح؟ ما الأنثى بلا اسم؟ ما النهار بلا آخر والليل بلا آخر؟ ما الصواب بلا خطأ؟ ما العقل بلا هدف؟ ما الناس بلا جَمْعٍ؟. هنا أرحم. تمتم (صديقي صاحب اللحية الرومانية والوجه الصخريّ، عاشق الحجارة والخطابة) ونزل إلى القاع قبل الموعد ليتجدّد.
لم يبق لك إلا اليمين والشمال. تشبك كفّيك. آخر توحيد ممكن لمتضادَّيْن. تتمتع بوجودهما. تتمعّن في كلّ الفوارق بينهما. تتعجب في شكل الإبهامين. تمتصّ الواحد منهما بعد الآخر. تتصوّر طعمين مختلفين. تنظر تحت. رجلاك مختلفتان أيضا. مُتعة. جميل. ولك أيضا رئتان. وعينان. وفتحتان في أنفك. وخصيتان. تلهو بهما. واحدة أكبر من الأخرى. اليمنى أكبر. وأحيانا اليسرى. إنهما تتنافسان ولا شك. تنظر في أصابع اليدين. رائع. ممتاز. وأصابع الرجلين أيضا. تبحث عن بعض الزغب الباقي على جسدك. تقارن طول كل شعرة. اختلافها عن الأخرى. تتسلّى. تضحك. يناديك المنادي. تدخل الغيب. تعود. كنت في العشرين. الآن أنت في الخمسين. أوف! الحساب سيكون أثقل الليلة.
في غمرة النشوة، أشدو. والسما(...) قفر. والحفرة وطن المبعدين. من خلف الصراط صوتُها. صوّروا لي صوتَها. أتعذّب مرّتين. ملاعين. يأتون بصورتها. وأنا في نار. يعرّونها. يركبونها. شكلهم كالقردة. وأعضاؤهم بشوك. يسيل دمها يضحكون. يبولون على جروحي. يأتون بها. تبول. يعبثون بأسفلها. يتركونني على بعض الوعي. يتسلّون بمؤخّرتي. فأر يقضم أنفي. أذهب بعد الوعي.
النّحيب. ملح الدمع على الجُرح. وجع المعذّبين. الصورة قادمة من عهد الحفاة إلى دم سال في الحرب الأخيرة قبل النّشر. النحيب. أنا واحد. الكلّ هنا واحد. لا يجتمع اثنان إلا على صراخ. هؤلاء أيضا صنيعة الربّ. كيف صوّرنا وصوّرهم؟ كيف خلقنا وخلقهم؟ سرق الربّ الأضداد وخبّأها في درج مكتبه. نحن نصف الحقيقة، وهؤلاء نصفها الثاني. وأهل النعيم بلا صفة.
نحن اقترفنا الحياة. جرّبناها. لم نصدّق. نتمسّك بالتكذيب. لم نقترف ذنبا. القاتل أنهى مدّة محكوميته. والمغتصب جاءه قرار العفو وذهب هناك يغتصب بلا رقيب،، بلا حساب ولا حساب. السارق عادت له اليدان أعطي ما سرق في الدنيا وزادوه الأضعاف. نحن هنا. لم يأت نصّ في الكتاب بموعد للنهاية. سنبقى. أهلنا الطيّبون لا يذكرون. ومن نزل معنا هنا ينسانا عند البوّابة الكبرى.
النحيب. منه أغانينا. فيه أشواقنا. فيه نداؤنا. فيه أعمارنا التي نعيش كلّ يوم. فيه لعبتهم. تسليتهم. الربّ لم ينزل بعد للتفقّد. عليه أن يستقبل وفود أهل النعيم. تقف بين يديه. تستغفره إذ تلعننا.
الجنازة. هذا ما نذكر. نعود إلى ما قبل الجنازة. نتثبّت. نكون شبه متأكّدين أنّ هذا الذي نعيش وهم. هناك من تآمر علينا. ربّما لم نمت بعد. ولو متنا. نحن رفضنا النعيم. نحبّ الحياة. بكلّ ما فيها. نعم نحتار(أحيانا) بين العذاب وعذاب الملل. نخجل من لقاء السفلة. من المصالحة معهم.
رأيت عددا من الشهداء في جهنّم. قالت الزبانية: لم يكونوا صادقين كما يجب. كانوا صادقين مع أنفسهم. صادقين مع قضاياهم. محبّين لأوطانهم. مضحّين. ولكن.. كان في نفوسهم بعض الشكّ. فيهم من لم يدخل كنيسة ولا صلّى ركعة ولا هزّ رأسه عند جدار.
حدّثت أحدهم، فارس من قرطاج. مات في جبل بالشمال. قال إنّه راضٍ على وجوده هنا. لقد تعّود الصراع. لم يُخلق للجلوس ولا للخنوع. وقد أقسم لأبيه أن يكون أبدا كما هو لا يتغيّر.
بعض أصحابي يأخذونهم للنّعيم تشفّيا حتى يتعذّبوا أكثر (حسب ما يعتقد العسكر). يعودون على يقين أكبر أنّ هنا أفضل. هناك تريد كما تشاء. يمكنك أن تصبح شاعرا. فلا قيمة للشعراء أو الشعر. يمكن لصوت أيّ أحد أن يصبح جميلا. فلا قيمة للغناء والمغنّين.. وأسرّ لي أحد من زار النعيم البارحة: إنهم لا يشتهون، فقط يُمارسون، وأحبُّ إليَّ أن أتخيَّل إحداهنّ فأنكح يدي وأتلذّذ وحدي. سمعه أحد الزبانية فجعل يده من نار. أمره أن يفعل. رأيت عينيه تخرجان من الألم. هربت.
نعيمنا. ساعة بعد العذاب. ما ألذّها. لها ضدّها. نتلذّذها. نستمتع بها كاملة. كلّها. لا نهدرها. ليس فيها خمر أو نساء. لكننا نصنع في خيالنا ما نريد. يكفى أن نتحدّث عمّا نتمنّاه. نهمس. نشير بنكات. نغمز. نضحك كثيرا. نتواعد على لقاء. يمضي كلّ واحد إلى حيث يغيظ جلاّديه بعدم الاهتمام. ومع الزمن لم يعد الزبانية يجدون لذّة.
بدأنا نخشى أن يأخذونا إلى النعيم. الجنّة ليست لنا. نحن نرفضها. صدر تقرير عن لجنة التحقيق. حاولنا التمثيل. أصبحنا نصدر أصواتا. نتلوّى. نتظاهر بالإغماء. نرتعش مع النداء. لا فائدة. سيُغلق نعيمنا.
أعلنّا ثورتنا. قلنا عذِّبونا. أقتلونا كلّ لحظة. لن نتراجع. نريد أن نبقى هنا.
أكلتهم الحيرة. قومٌ يتمرّدون على النعيم.
خرج الربّ من غيبته. باركنا. طلع الفجر. كان الجميع على الأرض. تفطّنوا لعريهم. عوى ذئب. حلّق عصفور ورفرف. لم ينزل أهل النعيم. كانوا قد ملّوا. لن ينزلوا. لن ينعموا بالعودة. قال الربّ: الأرض لأهلها، أولئك اختاروا السماء. كونوا أنتم الإنسان. ولكم حياة وموت. ولكم التاريخ. لكم الأضداد أنثُرها. كافحوا. تقاتلوا. تصارعوا. لا غيب. سأذهب حيث لا يتعلّل بي أحد. لتكن الفكرة. لكم الممالك أسّسوها. أهدموها. أعيدوا البناء. لكم العقل. وأعفوا عني واغفروا وسامحوني...