وقف الرجل إلى المصرف ودون أن يشير اعد له النادل قهوته المرة ووضعها أمامه فترشفها رشفات متتالية متواترة ولم يكن على عجل ولكنه كان دائما هكذا يشرب بسرعة و يأكل بسرعة ويتكلم بسرعة ويحسم الأمور بسرعة وكان يقول لمن يسأله:
البطء يورث التردد والتردد يوهن العزائم. كان ينظر في المرآة التي تملا الجدار أمامه إلى الجالسين في القاعة وراءه والى السيارات التي تمر في الطريق شمالا والى العابرين على الرصيف في كسل وكانت الضوضاء تملا المقهى كطنين النحل وسال نفسه كيف لهم أن يتحدثوا ويسمعوا في هذا الصخب العجيب؟ وكان كل يهوم في عالمه. ولم يدر كيف التقت نظراتهما في المرآة ولا يدري هل ابتسمت فعلا أم توهم ولكنه رآها تستدير وتمضي ولكن ابتسامتها المشرقة ظلت مرسومة على المرآة.
واستدار يجري عله يلحق بها ولكنها غابت في الزحام كأنها لم تكن أو لعلها لم تكن. وعندما عاد خائبا إلى فنجانه كانت ابتسامتها ما تزال مرسومة على المرآة ولم يصدق عينيه و ما له أن يصدق أو لا يصدق وهو يجد في النظر إلى المرآة لذة لا تضاهيها لذة و هم أن يسال النادل أن كان يرى ما يرى ولكنه عدل عن ذلك ونظر في ساعته وبعد ليست ثمة ما يضير لو تأخر عن العمل ساعة أو بعض ساعة فلن تتوقف الدنيا ولن يغضب مديره وكيف له أن يغضب وهو يحمل عنه أعباء الإدارة كلها في حضوره وغيابه؟ ولن يتغير شيء حتى لو اختفت الإدارة كلها بجداولها ورسومها وحساباتها التي تحصي على الناس كم رغيفا يأكلون وكم لبنا يشربون وكم ثلاجة أو فرنا يكدسون وهي حسابات لا طائل منها طالما طالتها يد التحوير والتنقيح والتغيير. الآن ثبت أن القهوة كانت فعلا مرة فقد ألقى في البقية الباقية في الفنجان قطعة سكر ونظر إليه النادل مستغربا فابتسم, هذا يوم حلو, كل ما فيه حلو, حتى ابتسامتك الخبيثة حلوة أيها الخبيث. ومضت الأيام متتالية والرجل يأخذ مكانه إلى المصرف صباحا وظهيرة ومساء يرتشف قهوته في أناة على غير عادته متأملا الابتسامة المشرقة المرسومة على المرآة منصرفا عن ضجيج القاعة وروادها حتى جاءه صوت النادل يسال امرأة تقف إلى جانبه: ماذا تشربين يا سيدتي؟
فأجابت: شكرا,لا شيء وإنما تركت وديعة جئت آخذها. فالتفت الرجل وأجفل, كانت هي ذاتها صاحبة البسمة فهمهم مرتبكا: وديعتك في الحفظ والأمان. رجاء لا تأخذيها. وعندما استدارا وغادرا المقهى خلفا وراءهما مرسومتين على المرآة ابتسامتين تقطران رقة وتفيضان بشرا.