عُنِيَت الفلسفة الحديثة بتحليل المفاهيم والتصوُّرات، ومصادر تشكُّلها في الذهن. وقد نجم عن هذا الاهتمام إبراز قدرة العقل على معرفة ما يقع في متناوله، وتحليل ضروب المعرفة البشرية، بما في ذلك الظواهر السيكولوجية والاجتماعية والحيويَّة.
لقد كان "ديكارت" أوَّل فيلسوف في العصر الحديث، تناول أفكار العقل ومبادئَه، فذهب إلى أنَّها أفكار فطرية تتَّسم بالوضوح والتميُّز، وما يعنيه الفكر عنده هو «... كلُّ ما يختلج فينا بحيث ندركه بأنفسنا إدراكاً مباشراً...»(1) فالعقل يدرك كلَّ ما ينطوي عليه من أفكار فطرية، إدراكاً مباشراً بحدس بديهي لا يشوبه خطأ أو خداع.
غير أنَّ العقل، في نظره، يعتمد أيضاً على الاستدلال الرياضي لاستنباط أفكاره عن موضوعات العالم والحياة، مستنداً إلى جملة من القواعد التي تمكِّنه من ترتيب القضايا، واستنباط اللاحق من السابق، والنفاذ إلى لبِّ الحقيقة وتمييز الحق من الباطل. وإنْ كان الحدس البديهي عنده إدراكاً مباشراً، فالاستنباط هو حدسٌ مؤجَّل. ومن ثمَّ، فالعقل، بالنسبة له، قادرٌ على بلوغ المعرفة اليقينية في كافة المجالات، بما في ذلك المجال الحيّ.(2)
وفي مقابل ذلك، نظر "برغسون" إلى العقل على أنَّه غير قادر على معرفة الوجود، من حيث هو تغيُّر وصيرورة، معرفة حقيقية مهما حاول إلى ذلك سبيلا، ويرى «أنَّ عقلنا المعجب بنفسه إعجاباً لا سبيل إلى شفائه منه يتخيَّل أنَّه يملك، بحكم ما زُوِّد به منذ ولادته،... جميع العناصر الأساسية لمعرفة الحقيقة، فطرية كانت أو مكتسبة،...»(3) فالثقة التي يشعر العقل بها في قدرته على معرفة كلِّ شيء، أشبه بوهمٍ أو حلمٍ لن يتحقق، سواء امتلك أفكاراً فطرية أم اكتسبها بالتجربة.
وبينما ينطوي العقل، في رأي "ديكارت"، على أفكار فطرية، فإنَّ تطور الحياة، في رأي "برغسون"، قد وهب العقل طبيعة فطرية تمكِّنه من إدراك الصور من حيث هي الإطار الخارجي للمادة. ويتجلَّى الجانب الفطريُّ في العقل في نزوعه إلى الربط بين الأشياء بعلاقات، وإلى استنباط المجهول من المعلوم. وهو ما يعني أنَّه لا وجود لحدس عقليٍّ، في نظر "برغسون" على الأقل، بل العقل يقوم دوماً بالاستدلال الذي يُعدُّ جزءاً لا يتجزأ من عمله. ويدلُّ هذا النزوع على وجود ما هو فطريٌّ طبيعي في العقل لمعرفة بعض العلاقات العامة، فضلاً عن أنَّ تكوينه مفطور على التأثير في المادة من الخارج، ممَّا يمكِّنه من الانتفاع بها.(4)
ولكنَّ اهتمام "برغسون" لم يكن منصباً على الدخول في الجدال القديم الحديث حول ما إن كانت الأفكار فطرية أولية وقبلية، أم أنَّها بعدية ومكتسبة من التجربة.(5) ولهذا، بدا حذراً جداً في هذه المسألة، وهو ما جعله، في بعض الأحيان، يردُّ السلوك الفطري إلى الغريزة، وفي أحيان أخرى، يسمِّيه علماً طبيعياً أو نزوعاً طبيعياً. وبصرف النظر عن هذا وذاك، فاهتمام "برغسون" الرئيس كان يتَّجه صوب إبراز الطابع العملي والنفعي للعقل الذي يمكِّنه من إدراك العلاقات وليس الأشياء، والتركيز على الصورة وليس المادة.
وقد حدَّد "ديكارت" علاقةَ المعرفة بالوجود انطلاقاً من ثنائية الفكر والامتداد التي شملت أنواع الوجود بأكمله، بما في ذلك الإنسان من حيث هو عقل وجسد. فالعقل، في نظره، جوهر روحي ماهيته التفكير، وهو بسيط لا يقبل الانقسام، ثابت ويُعرَف بحدس مباشر. أمَّا الجسد، فهو جوهر مادي ممتد، مركَّب مما يسمح بتقسيمه، خاضع للتبدل والتغيُّر، ويُعرَف بتوسُّط الحواس. ولكنَّ الوحدة التي تجمع تلك الصفات المتناقضة لكلٍّ من الجوهرين، ترجع في الإنسان الواحد، في نظره، إلى مشيئة الله.(6)
ووفقاً لتلك الثنائية - على صعيد الوجود بعامة، والإنسان بخاصة- أقام ديكارت فصلاً بين الروح والمادة، من جهة، وبين العقل والجسد، من جهة ثانية. وهو ما أفضى به إلى القول بنظرية التوازي السيكوفيزيقي التي يقرِّر فيها وجود سلسلة من الأحداث المادية الدماغية توازيها سلسلة من الأحداث الروحية العقلية والنفسية وتكافئها.(7)
أمَّا "برغسون"، فلم يوافق على الفصل الذي أقامه "ديكارت" بين العقل والمادة، ورأى بدلاً من ذلك، أنَّ «...المعقولية والمادية هما من طبيعة واحدة، وحاصلتان بطريقة واحدة.»(8) وهو يؤكِّد في موضع آخر أنَّ «... بين العقل والمادة تناظراً وتطابقاً وتقابلاً...»(9) فالانسجام والتطابق بين العقل والمادة، يكافئ استحالة فصل أحدهما عن الآخر، كاستحالة عزل البياض عن الثلج، أو فصل الوردة عن عطرها.
ولكنَّ احتجاج "برغسون" لم يقتصر على هذا الفصل فحسب، بل امتدَّ، بطبيعة الحال، إلى النتائج المترتبة عليه. فهو يرفض النظر إلى الحالات الدماغية على أنَّها مكافئة للإدراك والذكرى، وأنَّ تلك الحالات هي ما يولِّد التصورات العقلية أو الحالات النفسية. وكأنَّ القائلين بالتوازي السيكوفيزيقي يذهبون، في رأيه، إلى أنَّ الجزء مساوٍ للكل. أمَّا فيما يتَّصل بالعلاقة بين الدماغ والشعور، فلم ينفِها، ولكنَّه اعترض على الشكل الذي وضعه دعاة التوازي. ويحدِّد العلاقة بينهما، بدلاً من ذلك، في حدود المنفعة، لأنَّ وظيفة الدماغ هي انتخاب الذكرى التي تنفع في إنجاز العمل الراهن وإبعاد كلِّ ما لا يسهم في ذلك العمل.(10)
وهنا نلمس من جديد، الوظيفة النفعية والعملية للعقل عند "برغسون"، وهو قد وضع في هذا الإطار العلاقة بين المادة والروح انسجاماً مع رؤيته للعقل، فرأى أنَّ علاقة الدماغ بالذاكرة تقوم، بصورة أساسية، على المنفعة والمصلحة العملية.
ولما كانت الطبيعة، في رأي "ديكارت"، تخضع لجملة من القوانين، وتحكمها الآلية والحتمية الصارمة، فإنَّ العمليات العقلية والنفسية، هي الأخرى، محكومة بجملة قوانين فيزيولوجية أو سيكولوجية، شأنها في ذلك شأن العمليات الطبيعية. ومن شأن هذه القوانين أن تجعل العمليات العقلية والنفسية قابلة للقياس الكمِّي وليس الاكتفاء بالتعبير عنها كيفياً. ومن ثمَّ، أصبح تحليل الأفعال الإنسانية وقياسها والتنبؤ بها قبل وقوعها، أمراً ممكناً بالاعتماد على جملة قوانين منها، على سبيل المثال، قانون حفظ الطاقة.(11)
وعلى العكس من ذلك، يرفض "برغسون" أن يكون كلُّ شيء محكوماً بالحتمية والآلية، لأنَّ من شأن ذلك أن يفضي إلى النظر للحقيقة على أنَّها متعيِّنة بشكلٍ مسبق، أو أنَّ العالم معطى منجز، وما على العقل سوى البحث والاكتشاف. ويرى بدلاً من ذلك أنَّ «... جزءاً من هذه الحوادث يمكن التنبؤ به، وجزءاً آخر كبيراً لا يمكن التنبؤ به.»(12) فثمَّة أحداث تبدع في كلِّ آن شيئاً جديداً، وتأبى الدخول في القوننة والترميز. ومن ثمَّ، فقدرة العقل على التنبؤ ببعض الأشياء وتحليلها وقياسها، لا تطال الإبداع الحقيقي في الحياة، لأنَّه غير قابل للتحليل العقلي.
الهوامش:
1- ديكارت، رينيه، مبادئ الفلسفة، ترجمه وقدَّم له عثمان أمين، دار الثقافة: القاهرة، 1975، ص57.
2- انظر: سلامة، يوسف، المنطق عند أدموند هسرل، السلسلة الفلسفية، دار حوران: دمشق، ط1، 2002، ص64، 65، وانظر: وهبة، مراد، المذهب في فلسفة برجسون، دار المعارف: القاهرة، 1960، ص22.
3- برغسون، هنري، التطور المبدع، ترجمة جميل صليبا، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع: بيروت، 1981، ص48.
4- انظر: المصدر السابق، ص136-139، 226.
5- انظر: المصدر السابق، ص135.
6- انظر: ديكارت، مبادئ الفلسفة، ص90، وانظر: ديكارت، رينيه، التأملات في الفلسفة الأولى، ترجمة وتحقيق عثمان أمين، مكتبة الأنجلو-المصرية: القاهرة، ط1، 1951، ص216، 218، 248، وانظر: ديكارت، رينه، مقالة الطريقة لحسن قيادة العقل وللبحث عن الحقيقة في العلوم، ترجمة جميل صليبا، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع: بيروت، ط2، 1970، ص136، وانظر: أمين، أحمد، ومحمود، زكي نجيب، قصة الفلسفة الحديثة، لجنة التأليف والترجمة والنشر: القاهرة، ج1، ط5، 1967، ص82.
7- انظر: سلامة، يوسف، المنطق عند أدموند هسرل، ص67.
8- برغسون، التطور المبدع، ص199.
9- برجسون، هنري، الفكر والواقع المتحرك، ترجمة سامي الدروبي، دار الأوابد: دمشق، [د.ت.]، ص35.
10- انظر: برجسون، الفكر والواقع المتحرك، ص80، 151، وانظر: برجسون، هنري، الطاقة الروحية، ترجمة سامي الدروبي، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر: القاهرة، 1971، ص34، 66، 179، 180، 184، 185، 188.
11- انظر: سلامة، يوسف، المنطق عند أدموند هسرل، ص93، وانظر: ڤال، جان، طريق الفيلسوف، ترجمة أحمد حمدي محمود، مراجعة أبو العلا عفيفي، مؤسسة سجل العرب: القاهرة، 1967، ص207.
12- برجسون، هنري، منبعا الأخلاق والدين، ترجمة سامي الدروبي وعبد الله عبد الدائم، دار العلم للملايين: بيروت، ط2، 1984، ص159.
الثلاثاء أغسطس 11, 2015 5:49 pm من طرف هرمنا