سالار ثـــــــــــــــائر نشيـط
الجنس : عدد المساهمات : 239 معدل التفوق : 547 السٌّمعَة : 22 تاريخ التسجيل : 28/01/2012
| | هوسرل وأزمة الثقافة الأوروبية | |
هناك سمتان طبعتا المسار الفكري لهوسرل، انعكستا بشكل واضح على إنتاجه الفلسفي الذي امتد حوالي نصف قرن. من جهته، حرصه الشديد على الدفاع عن مواقفه وآرائه، وذلك بتبديد أشكال سوء الفهم التي تعرضت لها، ومواجهة دعاوي نقاده، الذين سبق لبعضهم أن تتلمذ عليه. ومن جهة أخرى، قدرته النموذجية على ممارسة النقد الذاتي، واستعداده الدائم لمراجعة ذاته ولإعادة النظر في آرائه، عندما يبدو أنها غير مؤسسة بكيفية تامة. لهذا السبب لا نجد أنفسنا عند متابعة كتابات هوسرل أمام إنتاجات، ينضاف فيها اللاحق ببساطة إلى السابق، بل أمام حركة حية دائبة للبناء وإعادة البناء. ستبلغ هذه الحركة الدائبة أوجها في مؤلف هوسرل الأخير "أزمة العلوم الأوربية والفينومينولوجيا الترنسندنتالية"، الذي صدر قسم منه سنة 1936 ببلغراد، ولم ينشر بكامله إلا سنة 1954. ويتميز هذا المؤلف بأنه يقدم الفينومينولوجيا بصفتها الفلسفة القادرة على إخراج الثقافة الأوربية من أزمة المعنى والتوجه، التي ترجع إلى سيطرة العلوم الحديثة والنزعة الموضوعية المرتبطة بها، وهو بذلك يبرز بوضوح علاقة فينومينولوجيا هوسرل بقضايا العالم الراهن. يتطلب التفكير في أية أزمة العمل أولا على إبراز مظاهرها وأبعادها. هوسرل يتحدث عن "أزمة العلوم الأوربية"، سأعمل على توضيح ما يقصده هوسرل بذلك من خلال التوقف عند الألفاظ التي تتكون منها هذه العبارة. 1 – ينعت هوسرل الوضعية التي ينصب عليها تحليله بأنها وضعية أزمة، أزمة تعاني منها العلوم. عند الحديث عن أزمة للعلم، ينصرف اهتمامنا عادة إلى مفهوم الأزمة كما تم استعماله في حقل الإبستمولوجيا، حيث تشير الأزمة إلى اللحظات الحرجة التي تعرفها العلوم في تطورها، التي يبدو فيها أنها قد أصبحت عاجزة عن الاستمرار في النمو والعطاء. عادة ما يتم إرجاع هذه الأزمة إلى غموض في المفاهيم التي يتأسس عليها العلم والتي يتحدد انطلاقا منها مجال بحثه، أو إلى مفارقات في مبادئه أو ثغرات في مناهجه. وقد كان هوسرل، بحكم تكوينه العلمي في مجالي الرياضيات والمنطق، وبحكم تتبعه لحركة العلوم في عصره، على معرفة دقيقة بوضعية هذه العلوم. كما سبق له أن بين، في مناسبات عديدة، أن العلوم الوضعية ليست قائمة على أسس متينة، وأنها تستعمل مفاهيم غير واضحة بما فيه الكفاية، وتنطلق من مبادئ غير شفافة. ومع ذلك لم يكن هوسرل يرى داعيا للشك غي علمية هذه العلوم. وهذا الموقف سيعبر عنه كذلك في مؤلف "الأزمة". فالنجاحات النظرية والتطبيقية التي حققتها هذه العلوم تعد في نظره مؤشرا على صرامتها وعلميتها. وحتى التحولات الحاسمة التي عرفتها بعض العلوم لا يرى فيها هوسرل مساسا بعلميتها. يقول عن الفيزياء: "سواء أكانت الفيزياء ممثلة من طرف نيوتن أو بلانك أو أينشتاين أو من طرف أي كان في المستقبل، فإنها انت دائما وستبقى علما دقيقا. وأنه لا ينبغي أبدا أن نتوقع بلوغ شكل نهائي مطلقا لأسلوب بناء النظرية في كليتها، ولا حتى أن نطمح إليه"(2). لا معنى إذن للشك في علمية الفيزياء ولا غيرها من علوم الطبيعة والإنسان. هناك استثناء واحد هو السيكولوجيا، التي كان هوسرل ينبه دائما إلى قصورها الناتج عن التوجه الوضعي الذي اتخذته منذ تأسيسها. إن هوسرل رغم تأكيده على المشاكل، بل والمفارقات التي تعرفها العلوم الحديثة، لا يضع علميتها موضع شك، ولا يعتقد أن أفق نموها أصبح مسدودا. ومع ذلك، فإنه لا يكتفي بأن يؤكد على أن العلوم الحديثة تعرف في عصره أزمة عميقة، ب يجعل من هذه الأزمة موضوعا لمؤلفه الأخير. بأي معنى يتحدث هوسرل إذن عن أزمة للعلوم؟ لفهم ما يقصده هوسرل بأزمة العلوم يجب أن نتخلى عن تصور العلم كبناء قائم بذاته ومستقل عن باقي مجالات الحياة البشرية، فهذا التصور يتعارض تماما مع المنظور الفينومينولوجي للعلم، الذي ستتضح بعض ملامحه بكيفية ملموسة في القسم الثاني من هذا العرض. إن الأزمة التي يتحدث عنها هوسرل تتعلق بدلالة العلوم الحديثة بالنسبة للإنسان وللوجود البشري. فنظرة الإنسان الحديث إلى العالم أصبحت، ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر، تتحدد بكيفية شبه تامة من قبل العلوم الوضعية؛ والأسلوب الذي تعالج به هذه العلوم موضوعاتها، أصبح يطبع تفكير الإنسان في مختلف المجالات نتيجة ذلك هي التخلي عن كل الأسئلة الحاسمة بالنسبة للإنسان، واتخاذ موقف اللامبالاة إزاءها. إن العلوم الحديثة ليس لديها ما تقوله في الوضعية الحرجة التي نعيشها(4)، بل وأكثر من ذلك، إنها مسؤولة بكيفية ما عن هذه الوضعية. تتجلى أزمة العلوم، حسب هوسرل، في إقصائها للأسئلة الأساسية والحاسمة بالنسبة للوجود البشري كله، تلك الأسئلة التي تتعلق بمعنى الوجود البشري أو لا معناه، التي تتعلق بالعقل واللاعقل، والتي تتعلق بسلوك الإنسان إزاء المحيط البشري وغير البشري، وبحريته في أن يشكل محيطه حسب معايير العقل(4). إن علوم الطبيعة لا تطرح هذه الأسئلة، لأنها تقوم على استبعاد كل ما هو ذاتي. أما العلوم الإنسانية، التي عليها أن تهتم بالوجود الروحي للإنسان في تاريخيته، فإن علميتها الصارمة تفرض على الباحث أن يتجنب اتخاذ أي موقف، أو إصدار أي حكم قيمة حول القضايا الحاسمة بالنسبة للإنسان(4)؛ فالعلمية تقتضي، حسب المنظور السائد الاقتصار على مراقبة الوقائع وتسجيلها، سواء كانت هذه الوقائع متعلقة بالعالم الفيزيائي أو الروحي. وواضح أن إبعاد الأسئلة الأساسية بالنسبة للوجود البشري من مجال العلم، يجعل العلوم الحديثة عاجزة عن مساعدة الإنسان في إعطاء معنى لوجوده وفعله، وعن توجيه حياته الفكرية والعلمية. لا يتعلق الأمر إذن عند هوسرل بأزمة تهم العلم والعلماء، وينحصر وجودها في المعاهد والمؤسسات العلمية فقط، بل بأزمة شاملة تمس الوضعية العامة وتنتشر في كل مجالات الحياة. واضح أن هوسرل يشير هنا إلى الوضعية التي كانت سائدة في العقود الأولى من هذا القرن، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، تلك الوضعية التي كان تشغل بال كثير من المثقفين الألمان آنذاك، والتي يربطها هوسرل بهيمنة التصور الحديث للعلم. 2 – بهذه الملاحظات نكون قد فهمنا، بكيفية أولية، ما يعنيه هوسرل بالأزمة، التي تنتاب العلوم. يجب أن نلاحظ بأن هوسرل يتحدث عن العلوم بصيغة الجمع واستعمال صيغة الجمع في هذا السياق يمكن أن يعتبر هو ذاته، إشارة إلى وضعية الأزمة التي تعرفها العلوم. فهوسرل شديد التشبث بالفكرة التقليدية للفلسفة كعلم كلي تنضوي تحته كل العلوم الجزئية بصفتها فروعا تابعة له. إن الفلسفة والعلم هما، حسب معناهما الأصلي والحقيقي، شيء واحد بالنسبة لهوسرل. العلم الحق هو الفلسفة، أي المعرفة الصارمة التي تؤسس ذاتها من منطلقات راسخة، وتبرر قولها في كل خطوة من خطوات إنجازه (الفلسفة الأولى 13,I ). لا يعني ذلك أن هوسرل ضد التخصص في العلم، بل بالعكس، إنه لا يرى مانعا من تقسيم كلية الموجود إلى مجالات يدرس كل منها حسب طرق ومناهج تلائمه. إن ما يفرضه هوسرل هو اعتبار كل فرع من فروع المعرفة البشرية علما مستقلا قائما بذاته، لا تربطه علاقة جوهرية وداخلية ببقية العلوم وبالفلسفة. وهذه هي وضعية العلوم الحديثة التي ينبه هوسرل إلى خطورتها. إن العلوم الحديثة انفصلت عن بعضها البعض، ولم تبق هناك روابط داخلية بينها. إن أزمة العلوم الحديثة تتجلى في تشتتها، الذي يرجع بالأساس إلى استقلالها عن الفلسفة. وهكذا فإن أزمة العلوم الحديثة هي، في نفس الآن، أزمة الفلسفة الحديثة. إن الفلسفة لا يمكن أن تحقق مهمتها ومعناها الأصليين إلا إذا كانت تحتضن كل العلوم الجزئية. هذا هو المعنى الأصلي الذي اتخذته الفلسفة منذ نشأتها الأولى في اليونان القديمة، والذي تم في عصر النهضة إحياؤه من جديد والعمل على تحقيقه. ورغم ما يبدو في ذلك من مفارقة ظاهرية، فإن هوسرل يرجع إحياء الفكرة الأصلية للفلسفة في عصر النهضة الأوربية إلى الرغبة في التجديد الشامل، وفي التخلص من الأشغال والأساليب الحياتية المألوفة التي سادت أوربا طوال القرون الوسطى(5). فالفلسفة حسب هوسرل، ليست مجرد شكل ثقافي مثل بقية الأشكال الأخرى، بل إن الوجود الفلسفي الحقيقي هو ذلك الذي ينفذ بعمق إلى كل أشكال الحياة البشرية ويطبع كل ميادينها. إن الرغبة في التفلسف ليست، حسب هوسرل، سوى الرغبة في أن نوجه حياتنا حسب معايير العقل وباستقلال عن كل المسبقات. أن نعيش فلسفيا، يعني أن نوجه حياتنا كلها حسب مبادئ ومقتضيات مستمدة من التفكير العقلي المتحرر من إسار التقليد والعادة. "إن الفلسفة بوصفها نظرية لا تجعل الباحث وحده حرا، بل تجعل كل من له تكوين فلسفي حدا. وعن الاستقلال النظري يترتب الاستقلال العلمي(5-6). ليس للفلسفة مهمة نظرية فقط، بل كذلك وظيفة علمية. وليس المقصود بالوظيفة العملية للفلسفة أن يوجه الفيلسوف حياته الأخلاقية الفردية فقط، بل أن يشكل كل المحيط البشري، كل الوجود السياسي والاجتماعي للإنسانية، انطلاقا من العقل الحر، وإن يوجهه على ضوء تصورات فلسفية كلية. هذا هو المعنى الأصلي للفلسفة الذي تم إحياؤه في بداية العصر الحديث. إلا أن محاولات تحقيقه باءت بالفشل، لتنتهي أخيرا إلى فقدان الثقة بالفلسفة كعلم كلي، وهو ما يعني فقدان الثقة بالعقل وبقدرته على توجيه الحياة المعرفية والعلمية. إن المنهج الذي تم اعتماده في بداية العصر الحديث لبناء الفلسفة أو العلم الكلي لم يؤت ثماره إلا في مجال علوم الطبيعة. وهذا ما سيساعد على سيادة تأويل موضوعي النزعة للعلم، بقوم على الاعتقاد في إطلاقية المنهج الفيزيائي، ويفهم العلمية والحقيقة بمعنى الموضوعية الميتة التي تسود منهجيا في علوم الطبيعة. ومع سيطرة النزعة الموضوعية وتأويلها الضيق للعلم، يتم وضع علمية الفلسفة وصرامتها موضع شك، وذلك بدعوى أنها لا تحقق مقاييس العلمية كما بلورتها علوم الطبيعة وفي مقدمتها الفيزياء. وخطورة هذا الموقف تكمن، حسب هوسرل، في أن التشكيك في إمكانية بناء فلسفة لها طابع العلمية والصرامة، معناه تخلي العلم عن المشاكل التي تنتمي للفلسفة بمعناها الدقيق، أي عن الأسئلة العليا للوجود البشري، أسئلة الحرية والمعنى والغاية والتاريخ، وبالتالي التخلي عن كل طموح في توجيه الحياة البشرية استنادا إلى العلم والعقل. فالعلوم التي تحقق النموذج الفيزيائي، ويعترف بالتالي بعلميتها، يجب أن تبعد من ميدانها كل ما هو إنساني؛ أما الدراسات التي تنتمي للفلسفة وتعالج القضايا الأساسية للوجود البشري، فيلقى بها خارج دائرة العلم. 3 – لنتابع تلمس معالم الأزمة التي يحللها هوسرل موجهين انتباهنا الآن إلى النعت الذي ينعت به هوسرل العلوم التي تعرف وضعية الأزمة. هوسرل ينعت هذه العلوم بأنها أوربية. وهذا النعت له دلالة عميقة، لهذا يجب الوقوف عنده بإمعان. يعتبر هوسرل أن العلوم الحديثة علوم أوربية، وهو لا يعني بذلك أن هذه العلوم نشأت في رقعة جغرافية هي أوربا، بل أنها نشأت في أحضان الثقافة الأوربية، وأن جذورها تمتد في أعماق التاريخ الأوربي. فأوربا هي، حسب هوسرل، كيان ثقافي تاريخي ووحدة حضارية متميزة. إن ميلاد العلم والفلسفة الحديثين في أوربا ليس أمرا عرضيا، ذلك أنهما يتجذران في الواقع الثقافي الأوربي، إن فكرة العلم والفلسفة هي فكرة أوربية نشأت لأول مرة عند الإغريق الذين وضعوا الحجر الأساسي للثقافة والتاريخ الأوربيين. يشير هوسرل في كثير من الأحيان إلى الأهمية الكبرى لبعض الإنجازات الثقافية السابقة على الحضارة اليونانية القديمة. إلا أنه يرى، مع ذلك، أن الفلسفة والعلم، بمعناهما الحقيقي، لم يظهرا إلا في اليونان القديمة. العلم والفلسفة أوربيان في أصلهما، ولم تعرفهما أي من الثقافات السابقة على اليونان القديمة، حتى تلك التي حققت في مجالات أخرى منجزات مهمة. إلا أن العلاقة بين الموقف العلمي-الفلسفي والثقافة الأوربية ليست وحيدة الجانب. يجب، حسب هوسرل، ألا نتوقف عند القول بأن أوربا هي مهد العلم والفلسفة، بل يجب أن نقول كذلك بأنه مع انبثاق العلم والفلسفة تم تأسيس الكيان الثقافي لأوربا وميلاد الروح الأوربية. لا يرى هوسرل أن أوربا كانت قائمة كواقع ثقافي تاريخي، ثم قامت في وقت ما بابتكار هذا الشكل الثقافي الخاص، الذي هو العلم أو الفلسفة. بل على العكس من ذلك، إن ميلاد أوربا قد تم مع نشأة الفلسفة والعلم(1-2-3). وعليه فإن حياة أوربا ومصيرها يرتبطان ارتباطا وثيقا بوضعية العلم والفلسفة. إن فكرة الفلسفة كعلم صارم، يوجه الإنسان بمقتضى مبادئ حياته النظرية والعلمية، هي الفكرة المؤسسة لأوربا، هي المعنى الذي تتجه الثقافة الأوربية نحو تحقيقه، هي القوة الدافعة التي تحرك التاريخ الأوربي. ليست الفلسفة والعلم ظاهرة فكرية معزولة، بل إنها أساس التاريخ الأوربي بأكمله، فالفلسفة تقتضي، حسب هوسرل، العمل على صياغة كل مجالات الحياة وتوجيهها على ضوء العقل الحر ومعاييره وقيمه. إن تأكيد هوسرل للعلاقة الداخلية القائمة بين فكرة العلم والفلسفة من جهة والثقافة الأوربية من جهة أخرى، لا يعني الإدعاء بأن الفلسفة شكل ثقافي خاص بأوربا فقط، أو أنها تحمل سمات نوعية ترتبط بالثقافة الأوربية وحدها. فهوسرل يرى أن الفلسفة إمكانية كامنة ضمنيا في أفق كل ثقافة بشرية كيفما كانت؛ هذه الإمكانية تجد أساسها في ماهية الوعي البشري، وبالضبط في بيئته القصدية. إن الوعي يتجه، تبعا لبنيته القصدية، إلى تحقيق أقصى درجات الحقيقة والعقل. وهذا النزوع إلى الحقيقة والعقل قائم في الوعي، حتى قبل ظهور كل نشاط نظري وكل اهتمام علمي فلسفي. إلا أن الحاجات المباشرة للحياة العملية اليومية والآفاق الضيقة المرتبطة بها، تجعل الوعي يتخلى عادة عن نزوعه نحو الحقيقة والعقل، بمجرد ما يعرف موضوعه بدرجة تسمح بتحقيق الحاجيات العملية المرتبطة به، إن الحاجات العملية للحياة اليومية هي بمثابة قيود تضيق أفق الوعي وتكبح نزوعه نحو الحقيقة والعقل عند حد معين. ولهذا، فإن التحقيق الأقصى لهذا النزوع لا يمكن أن يتم إلا مع نشأة الموقف النظري العلمي-الفلسفي، الذي يحرر الوعي من الآفاق الضيقة للحياة العملية ومن قيود العالم المحيط المباشر، عالم الحرفة أو العائلة أو الثقافة الخاصة. لينفتح على العالم كعالم. بفضل اتخاذ هذا الموقف المتحرر من أسر الحياة اليومية والآفاق الضيقة المشروطة بالحاجات العلمية، يتمكن الوعي من استعادة نزوعه نحو التحقيق الأقصى للحقيقة والعقل. لا تحمل الفلسفة إذن، حسب هوسرل، سمات نوعية خاصة بالثقافة الأوربية، بل إنها إمكانية كامنة ضمنيا في كل ثقافة بشرية، بل إنها الشكل الذي تتجه نحوه كل ثقافة مهما كانت خصوصياتها. ومع ذلك، فإن الثقافة الأوربية تتميز عن كل الثقافات الأخرى، بأنها الثقافة التي جعلت تلك الإمكانية ترى النور وتنتقل إلى السطح. ففي اليونان القديمة تم لأول مرة التعبير عن فكرة الفلسفة كمعرفة تنشد الحقيقة المطلقة، بقطع النظر عن كل الأغراض المنفعية وكل القيود النابعة من الثقافة المطلقة، بقطع النظر عن كل الأغراض المنفعية وكل القيود النابعة من الثقافة البشرية الأخرى كالصين أو الهند (320,14 ). إن فكرة الثقافة الأوربية كثقافة تنزع إلى توجيه الحياة النظرية والعملية على ضوء العقل ومعاييره، هي الفكرة التي تتجه نحوها كل الثقافات، هي الغاية التي تتجه نحوها كل مجموعة بشرية كيفما كانت. إن النموذج الأوربي لبشرية فلسفية هو، في نظر هوسرل، نموذج كوني يتعالى على كل خصوصية ثقافية أو تاريخية. ورغم أن فكرة الفلسفة التي رأت النور لأول مرة في اليونان القديمة لم تتحقق بالفعل، فإنها بقيت حية في الثقافة والتاريخ الأوربيين. ولهذا فإن البشرية الأوربية عندما أرادت في عصر النهضة تجديد ذاتها والتحكم في مصيرها وأشكال وجودها، التجأت إلى فكرتها المؤسسة، فكرة الفلسفة والعلم كمعرفة حقة يتم الاعتماد عليها لتشكيل كل مجالات الحياة(5). إلا أن هذه الفكرة تتحقق هذه المرة أيضا. فالمسار الذي اتخذته العلوم الحديثة أدى إلى سيادة تأويل موضوعي النزعة، يبعد من مجال العلم كل ما لا يمكن دراسته بواسطة المنهج الفيزيائي-الرياضي، أي كل ما لا يمكن التعبير عنه بكيفية موضوعية رياضية. بناء على هذا التأويل الضيق يلقى بكل الأسئلة المتعلقة بالإنسان خارج مجال العلم مع سيادة هذا التأويل فقدت الثقافة الأوربية ثقتها بالفلسفة وإيمانها بإمكانية الفلسفة كعلم صارم، يؤسس للإنسان وعيا عقليا بوجوده، وبمكانته داخل كلية الموجود، ويلعب دورا موجها بالنسبة لكل مجالات الحياة. هذه هي أزمة الفلسفة في الوقت الحاضر، وهي في نفس الوقت أزمة العلوم الجزئية التي فقدت كل دلالة بالنسبة للإنسان. وحيث أن البشرية الأوربية تم تأسيسها انطلاقا من روح الفلسفة والعلم، فإن أزمة الفلسفة والعلم هي في نفس الوقت أزمة البشرية الأوربية بأكملها. إن "مرض" العلم والفلسفة يعني "مرض" الثقافة الأوربية، والعجز عن تحقيق الفكرة الأصلية للفلسفة، هو في نفس الوقت عجز أوربا عن أن توجد وتحيا حسب الفكرة المؤسسة لها. 4 – لنجمع الآن العناصر التي تم تفصيلها حتى نكون فكرة متكاملة عن تصور هوسرل لأزمة العلوم الأوربية. إن الأزمة التي يتحدث عنها هوسرل هي أزمة فقدان المعنى، أزمة التوجه الأخلاقي والاجتماعي والسياسي لدى البشرية الأوربية. وهي في نفس الوقت أزمة العلم والفلسفة باعتبارها المبدأ المؤسس للبشرية الأوربية. إن أوربا التي تأسست انطلاق من روح العلم والفلسفة لا يمكن أن تكون "سليمة" إلا إذا حققت الفكرة التي تملأ كيانها وتعطي معنى لوجودها. وما يدل على أن هذه الفكرة لم تتحقق هو توزع الفلسفة إلى تيارات ونزعات مختلفة. (199) إننا لا نتوفر، كما يلاحظ هوسرل، على فلسفة واحدة، تساهم الأجيال المختلفة في بنائها، وتتقدم تدريجيا نحو التحقق الكامل(6). "بدلا من فلسفة واحدة حية، لدينا أدبيات فلسفية تتزايد بلا حدود، ولكن تفتقد تقريبا كل رابط بينها: وبدل حوار جدي بين نظريات متعارضة تعلن رغم تضاربها ترابطها الداخلي ووحدة اقتناعاتها الأساسية وإيمانها الثابت بفلسفة حقيقية، لدينا توافق مظهري ونقد مظهري، لا تفاعل جدي للفلاسفة فيما بينهم". (تأملات، 7) في مقابل وضعية التراجع والتمزق التي تطبع الفلسفة، تعرف العلوم الجزئية تقدما هائلا يتجلى في تحقيقها لانتصارات باهرة، سواء على المستوى النظري أو التقني-التطبيقي. وإذا كانت العلوم الجزئية تتابع مسيرتها غير مكترثة بالوضعية المزعجة التي تعاني منها الفلسفة، فإن ذلك لا يعني بتاتا أن هذه العلوم لا تعيش الأزمة؛ فوضعية الفلسفة تنعكس على العلوم أيضا، لأنها بدون فلسفة تفقد ما يعطي معنى لوجودها وما يربطها بوضعية الإنسان. بدل أن تحقق البشرية الأوربية الحديثة فكرتها المؤسسة للفلسفة كعلم كلي يوجه حياة الإنسان، اتخذت العلوم مسارا آخر أدى إلى نشأة تصور العلم تحتل فيه الرياضيات المكانة الأساسية، وتلعب فيه دور النموذج، ليس فقط بالنسبة للعلوم الجزئية، بل حتى بالنسبة للفلسفة. وهكذا سقطت الفلسفة ذاتها ضحية التصور الموضوعي النزعة للعلم، الذي يقصي، بدعوى احترام مقاييس العلمية والموضوعية، كل ما هو ذاتي، أي، في نهاية المطاف، كل ما يتعلق بالإنسان وبالأسئلة التي تهمه في حريته ومسؤوليته وتاريخيته. هكذا تجد الثقافة الأوربية ذاتها في وضعية حرجة: من جهة، علوم جزئية تحقق النموذج الموضوعي للعلم، ولكنها عاجزة تماما عن أن تقدم للإنسان أي معنى أو قيمة، بل إن عجزها هذا بالضبط هو ما يمنحها الاعتراف بصفة العلمية؛ ومن جهة أخرى، فلسفة تهتم بالأسئلة الأساسية للإنسان، ولكن في مقابل ذلك، بل وبسبب ذلك، لا يعتقد بإمكانية بلوغها إلى مستوى العلمية، بدعوى أن العلمية تشترط الموضوعية التامة، أي غض النظر عن كل ما هو ذاتي، كل ما يهم الوجود البشري في صميمه. على أن ما يثير في الحقيقة قلق هوسرل إزاء هذه الوضعية، هو أن فقدان الثقة في الفلسفة أصبح شائعا حتى عند الفلاسفة أنفسهم. فإزاء التناقض بين التقدم الذي تحققه العلوم الجزئية والتشتت الذي يطبع الفلسفة، بدأ الفلاسفة أنفسهم يتخلون عن الفكرة الأصلية للفلسفة كعلم كلي، وذلك تحت تبريرات متنوعة وفي ظل توجهات مختلفة. فالبعض يرى أن الفلسفة أصبحت مع تقدم العلوم الجزئية غير ذات موضوع، وهي لكي تحافظ على وجودها مدعوة للتكيف مع المفهوم السائد لعلم، وذلك بأن تتخلى عن مهمتها التقليدية، وأن تلتقي بمهام مرتبطة بالعلوم. هذا التوجه يريد المحافظة على وجود الفلسفة وعلميتها، ولكن ثمن ذلك هو التخلي عن مهمتها الأصلية. والبعض الآخر يدعو إلى المحافظة على المهمة الأصلية للفلسفة، حتى وإن كان ثمن ذلك هو التضحية بعلميتها. هذا التوجه يرى أن العلوم الوضعية غير قادرة على تلبية كل حاجيات الوجود البشري، وانطلاقا من ذلك يبرر ضرورة الفلسفة، إلا أنه يفهمها كشكل خاص للحياة الروحية لا يمكن إخضاعه لمقياس العلمية. وعلى العكس من هؤلاء وأولئك، يتشبث هوسرل بالفكرة الأصلية للفلسفة وبدورها في توجيه الحياة النظرية والعملية للإنسان، ويرفض في نفس الوقت التنازل عن علميتها وصرامتها. "إن أزمة الوجود الأوربي لا يمكن أن تعرف إلا نهايتين: إما أفول أوربا في الاغتراب عن المعنى العقلي الخاص لحياتها، السقوط في عداء الروح وفي البربرية، أو إعادة إحياء أوربا انطلاقا من روح الفلسفة، بواسطة بطولة للعقل تتجاوز نهائيا كل نزعة طبيعية" (347-348) إن المخرج الوحيد من الأزمة التي تهدد كيان البشرية الأوربية يكمن، حسب هوسرل، في تحقيق الفكرة المؤسسة لأوربا، فكرة الفلسفة كعلم كلي صارم. إن التشبث بالفكرة المهمة الأصلية للفلسفة لا يعني إذن التخلي عن علميتها، وذلك بشرط أن نفهم العلمية في معناها الحقيقي، وأن نتحرر من التصور الضيق للعلمية، ذلك التصور الذي تروجه النزعة الموضوعية السائدة. هكذا سيضع هوسرل على عاتقه مهمة القيام بمساءلة نقدية للنزعة الموضوعية، ترمي إلى النفاذ إلى جذورها، والكشف عن تحريفاتها ومزالقها. تقوم النزعة الموضوعية على تأويل للعلم يجعل من الفيزياء الرياضية نموذجا للعلمية، ويجعل من احترام الشروط التي تتوفر في هذا العلم مقياسا للعلمية بوجه عام. لكي يقوض هوسرل هذا التأويل الضيق للعلم ويؤكد إمكانية تحقق الفلسفة كعلم صارم، يعمد إلى إبراز حدود النموذج الفيزيائي استحالة تعميمه على كل المجالات، وذلك من خلال القيام بتحليل فينومينولوجي تكويني يعمل على التذكير بالإنجازات والحوافز الأصلية التي انبثقت عنها الفيزياء الرياضية التي تم نسيانها من قبل هذا العلم. 1 – إن الأزمة التي تعرفها أوربا هي، حسب هوسرل، أزمة معنى وتوجه ناتجة عن سيادة النزعة الموضوعية وتصورها الضيق للعلم. هذا التصور يقصي من مجال العلم كل الأسئلة التي تتعلق بالإنسان في وجوده الصميمي، والتي تنتمي إلى الفلسفة بالمعنى الدقيق، أي الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا. والعلم هو، حسب هذا التصور، مركب يضم كل العلوم الجزئية التي تغطي في مجموعها كل قطاعات الموجود، وتجعلنا بالتالي في غنى عن الفلسفة. لكي يؤكد هوسرل إمكانية تحقيق الفلسفة كعلم صارم، ولكي يثبت ضرورتها حتى في زمن سيادة العلوم الوضعية، يعمل على الكشف عن جذور النزعة الموضوعية وعلى تعرية افتراضاتها المسبقة. تقوم هذه النزعة على تأويل خاطئ يعتبر أن علم الطبيعة الرياضي الحديث هو النموذج الوحيد للعلمية، وأن هذا النموذج صالح، بل وملزم لكل العلوم الأخرى. يرجع هوسرل الاعتقاد في نموذجية علم الطبيعة الرياضي إلى أن العلوم الوضعية لا تهتم بتأمل الإنجازات الخلاقة والحوافز الأصلية التي انبثقت عنها، ولا تقوم بترسيخ فعل التأسيس الأصلي الذي تدين له بوجودها. لدحض النزعة الموضوعية إذن، يجب إخضاع علم الطبيعة الرياضي لتحليل فينومينولوجي تاريخي يهدف إلى التذكير الأساسي المنسي لهذا العلم. وبعبارة أخرى، إن تشخيص أزمة الثقافة الأوربية يتطلب تذكرا أساسيا لما قبل تاريخ هذه الأزمة. لا يقوم هوسرل في تحليله لعلم الطبيعة الرياضي بعمل مشابه لعلم مؤرخ العلوم، الذي يجمع الوثائق المختلفة ويفحصها من أجل تقديم نظرة دقيقة عن تاريخ إحدى المفاهيم أو النظريات العلمية. إن الأمر لا يتعلق عند هوسرل بتتبع وقائع، بل بتحليل يريد النفاذ إلى الإنجازات الخلاقة والحوافز الأولية والبداهات الأصلية التي انبثق عنها هذا العلم. وهوسرل لم يصبح قادرا على القيام بهذا التحليل التاريخي للعلم إلا بفضل تطوير منهجه الفينومينولوجي وانتقاله، مع بداية العشرينات من هذا القرن، من الفينومينولوجيا الستاتيكية إلى الفينومينولوجيا التكوينية. ينطلق هوسرل في تحليله من أن العلم شكل من الأشكال الثقافية. كل شكل ثقافي يوجد أمامنا كمعطى مكتمل أو جاهز؛ ومع ذلك، فهو نتاج لصيرورة تاريخية حية. كل شكل ثقافي له تاريخيته، وهو مدين بوجوده لأفعال وإنجازات محددة. هذه الأفعال تبقى حاضرة بكيفية في هذا الشكل الثقافي، حتى وإن تم نسيانها. في كل شكل ثقافي أو مؤسسة ثقافية هناك تاريخ مترسب، هدف التحليل الفينومينولوجي التكويني هو أن يكشف عنه، أن يجعله يتكلم ويصفح عن ذاته. تاريخ كل شكل ثقافي إذن ليس سلسلة من الأحداث والوقائع، بل هو تاريخ الحوافز الأصلية والأفعال الخلاقة التي أسست هذا الشكل وانتقلت إليه لتعيش فيه بكيفية ضمنية. لهذا يكفي أن نتأمل حاضر هذا الشكل الثقافي لكي نستخلص الطبقات المترسبة فيه والأفعال التي أسسته. هذا الأمر صحيح بالنسبة للعلوم كذلك. إن حاضر كل علم يضم بكيفية انفعالية تاريخية كله، وذلك إلى حدود مكتسباته وإنجازاته الأولى (381, 373, 367 ). إن ماضي العلم يعيش في حاضره على شكل رسوبات. وعليه، فسيكون منطلق التحليل الفينومينولوجي للعلم هو الإنتاجات النظرية كما نتوفر عليها، أي كمعطيات جاهزة ومكتملة. هذه الإنتاجات هي وحدات للمعنى تم بناؤها في الوعي، ويجب استنطاقها ومساءلتها عن تكوينها وتاريخها. إن وحدات المعنى التي تم بناؤها، والتي توجد أمامنا مكتملة، تشير إلى تاريخها، تحيل إليه، وهذه الإحالة توصلنا، إذا ما تتبعناها، إلى الإنجازات والحوافز الأصلية التي انبثقت عنها هذه الوحدات، وإلى البداهات الأولى التي استندت إليها. والتحليل التاريخي هو إذن، عند هوسرل، تأويل يريد النفاذ إلى القصدية الحية التي انبثق عنها علم ما، تلك القصدية التي تكمن في أساس هذا العلم والتي كانت تحرك مؤسسيه، حتى وإن بقيت مختفية عن أنظارهم (المنطق، 6). هكذا يكون التحليل التاريخي، في نفس الوقت، كشفا عن المسبقات والافتراضات الخفية، التي تحملها قصدية العالم، والتي تحدد مسار تفكيره دون أن يكون واعيا بها. 2 – اعتمادا على هذا المنهج، يريد هوسرل أن يحلل علم الطبيعة كما تم إنشاؤه مع جاليلي. يذكر هوسرل بأننا نتوفر في حياتنا اليومية، وقبل كل علم، على معرفة بالطبيعة وأشيائها، إلا أن هذه المعرفة اليومية لها طابع تقريبي، إنها معرفة ذاتية ونسبية. أما جاليلي فيريد إنشاء معرفة صارمة بالطبيعة، معرفة تتجاوز بدقتها وموضوعيتها نسبية تصوراتنا الذاتية. لكي نفهم المسار الفكري الذي اتبعه جاليلي في إنشاء علم صارم بالطبيعة يجب أن نتوقف عند هذه المعرفة اليومية السابقة على العلم. تتعلق معرفتنا اليومية بالعالم، الذي نعيش فيه قبل المعرفة العلمية وخارج ممارستها، أي عالم التجارب الحسية والبداهات المباشرة والممارسات اليومية. يسمي هوسرل هذا العالم في كتاباته الأخيرة "عالم العيش"، وذلك لتمييزه عن العالم العلمي، أي العالم كما تعبر عنه وتتمثله القوانين والنظريات العلمية. إن معرفتنا بالطبيعة وأشيائها في حياتنا اليومية السابقة على العلم تستند، بكيفية أساسية، إلى تجربة الإدراك الحسي التي يلعب فيها الجسم دور مقر الإدراك ويشكل هو ذاته جهزا كاملا من الأعضاء الحسية المتناسقة فيما بينها (التركيب الانفعالي، 13). كل إدراك يتعلق بموضوع؛ إن هذا الشيء، وبالضبط هذه الطاولة التي أراها الآن مثلا، هي موضوع إدراكي. إلا أن هوسرل يلاحظ أننا في فعل الإدراك لا ندرك هذه الطاولة بأكملها، في كل جوانبها مظاهرها، بمجموع خصائصها. إن ما أراه الآن، بكيفية حقيقية وأصلية، هو جهة واحدة من الطاولة، جهتها الأمامية مثلا. لكن الطاولة التي يقصدها فعل إدراكي ليست هي هذه الجهة فقط، بل هي الطاولة بأكملها التي لها جهات أخرى؛ هذه الجهات معطاة بكيفية ما مع الجهة التي أراها الآن بالفعل، إلا أنها غير معطاة بكيفية أصلية وصريحة، ولا يمكن أن تعطاني بكيفية أصلية وأن أراها بالفعل إلا في إدراكات أخرى. هذه الفكرة هي حسب هوسرل قانون ضروري يعبر عن علاقة قبلية بين فعل الإدراك والموضوع المدرك: رغم أن فعل الإدراك يقصد الموضوع ككل، فإن الموضوع لا يظهر بأكمله في أي إدراك. فالإدراك يتم ضرورة من موقع معين وفي وضعية معينة. وفي كل فعل لا أدرك إلا جهة واحدة من الطاولة مثلا، أو جانبا مظهرا أو مقتطعا منها. إلا أن كل إدراك يتضمن ضرورة إمكانيات أخرى لإدراك نفس الموضوع. وهكذا يمكنني مثلا أن أنتقل إلى موقع آخر فأرى جهة أخرى من الطاولة، ثم جهة ثالثة، وهكذا، يمكنني أن أرى الطاولة في ضوء الشمس أو في الظلام، أو تحت ضوء مصباح خافت أو شديد التوهج؛ وكل إمكانية من هذه الإمكانيات قابلة للتنوع، وهي بذلك تحيل إلى إمكانيات أخرى. يمكنني كذلك أن أقترب أكثر من الطاولة، أن أوجه نظري ليس إلى هذه الجهة بأكملها، ولكن إلى جزء منها، أو إلى إحدى خصائصها اللمسية أو البصرية أو غير ذلك؛ قد أدقق النظر في لونها، فألاحظ أن لون هذه الجهة ليس متماثلا تماما، فهناك مناطق أو بقع لونها أدكن من لون بقية الجهة. والمهم هنا أن كل إمكانية من هذه الإمكانيات تفتح أمامي عندما أحققها إمكانيات جديدة، تدعوني هي كذلك إلى تحقيقها، بحيث يبدو وكما لو أن الطاولة تناديني وتخاطبني: لا زال هناك شيء آخر يمكن رؤيته فِيَّ، أدرني على كل الجهات، طف حولي، اقترب مني أكثر، افتحني، جزئني.. وهكذا استعرنني كما أنا في كل صفاتي الداخلية والخارجية. (التركيب الانفعالي، 5). إن إدراك أي موضوع يحيل إلى إمكانيات أخرى، إلى اتجاهات لمتابعة إدراكه، وبالتالي امتلاكه ومعرفته بكيفية أفضل. يمكنني في كل مرة أن أختار بكل حرية اتجاها لمتابعة معرفة الموضوع، أن أقترب منه مثلا، أو أن أطوف به أو أدركه بحواس أخرى. ولكن مجموع هذه الإمكانيات التي يرتبط بعضها ببعض تنتظم في سياق للإحالة خاضع لقواعد ضرورية. وبعبارة أخرى، إن كل موضوع يعطى في أفق يفتح أمامي إمكانيات أخرى لمعرفته بكيفية أفضل. وهذا يعني، في نهاية التحليل، أن إدراكنا لأي موضوع خارجي كيفما كان، لا يمكن أن يستنفذ كل مضمونه، وأن يحيط بكل خصائصه. فكل إدراك جديد يتم في أفق مفتوح ويحيل إلى إمكانيات أخرى يجعلني تحقيقها أعرف الموضوع بكيفية أفضل. إنني أستطيع باستمرار أن أحسن معرفتي بهذا الموضوع بواسطة إدراكات جديدة، دون أن أصادف إدراكا يختم سلسلة الإدراكات الممكنة وينهي مسلسل معرفتي بهذا الموضوع، وذلك لأن كل إدراك يحيل إلى إمكانيات أخرى لإدراك نفس الموضوع. وهكذا فإنني لا أستطيع، في تجربتي اليومية، أن أصل إلى تحديد الموضوع تحديدا تاما، فذلك يتطلب إنجاز مسلسل لانهائي. وإذا كان الإدراك هو العملية الأساسية التي نعرف بها الموضوع الخارجي في حياتنا اليومية، فإن معرفتنا اليومية بأي موضوع خارجي تبقى دائما تقريبية، عائمة وفضفاضة، وتكون عاجزة عن تحديد الموضوع تحديدا تاما، يجعله يبدو كوحدة مطابقة لذاتها. يبقى هناك دوما أفق مفتوح لتحسين معرفتنا بالشيء، بل ولتصحيح هذه المعرفة كذلك. إن طابع المعرفة اليومية هذا لا يرتبط بظروف عروضية، بل هو، حسب هوسرل، تعبير عن قانون ضروري له عمومية وصلاحية مطلقان. وكما أن كل إدراك يحيل إلى إمكانيات أخرى لإدراك نفس الموضوع وتحديده بكيفية أفضل، فإنه يحيل كذلك إلى الإمكانيات لإدراك موضوعات أخرى؛ كل موضوع يقدم لنا ذاته في أفق مفتوح تنتمي له موضوعات أخرى يمكن معرفتها وتجربتها. وبتعبير هوسرل، كما أن لكل موضوع أفقا داخليا يتضمن إمكانيات لتحديده بكيفية أفضل، فإن له أيضا أفقا خارجيا (165؛ الحكم والتجربة، 28). فالطاولة تحيل إلى القلم والورقة، إلى غرفة المكتب، إلى البيت، الحي إلخ... إن كل موضوع يعطى في أفق تنتمي له موضوعات أخرى يمكن إدراكها ومعرفتها، وهي بدورها تحيل إلى موضوعات أخرى، وهكذا. يمكن إذن أن نوسع معرفتنا بالعالم وموضوعاته وأن نجعلها تمتد إلى موضوعات أخرى بدون نهاية. على أن العلاقة بين الأشياء المدركة ليست مجرد علاقة مكانية، بل إن الأشياء توجد أيضا في علاقات سببية. ليست فكرة السببية، حسب هوسرل، وليدة المعرفة العلمية، بل السببية أسلوب عام يسود عالم تجربتنا اليومية أيضا. والعلاقة السببية ليست خارجية بالنسبة للشيء أو مضافة إليه؛ إ الشيء لا يوجد أولا بمعزل عن آية علاقة سببية، ثم يدخل بعد ذلك في علاقات سببية مع أشياء أخرى، بل إن الشيء لا يوجد إلا في إطار شبكة من العلاقات السببية التي تنتمي إليه وتتجسد في خصائصه. وعليه، فإن معرفة خصائص شيء ما، ومعرفة علاقاته السببية هما أمر واحد. "إن معرفة شيء ما تعني إذن أن نعلم تجريبيا كيف يستجيب عند الضغط والاصطداك، في الثني والكسر، في التسخين والتبريد". (أفكار II ، 45؛ السيكولوجيا، 102). إن الأسلوب السببي يسود إذن عالم تجربتنا الحسية، لهذا فنحن نعتقد أن الأشياء والظواهر تسير حسب عادات(28) وأن الأشياء "تتصرف" تحت ظروف متماثلة بكيفية متماثلة. بناء على هذا الأسلوب السببي نقوم في حياتنا اليومية السابقة للعلم بتنبؤات وتوقعات، أو استباقات واستقراءات كما يسميها هوسرل، مثل التوقعات التي يقوم بها الفلاح أو الصانع. هذه الاستقراءات ذات مجال ضيق، وتتميز بأنها غير دقيقة وغير متقنة، ولكنها ذات فائدة كبرى في الحياة العلمية. نخلص إذن إلى أن معرفتنا اليومية بالأشياء وبعلاقاتها السببية لها طابع تقريبي، إنها تتميز بذاتها ونسبيتها، وذلك لأن الأشياء لا تعطانا | |
|