في مقالته الملفتة، يشير "فرِد دونر Donner" إلى أن الدراسات القرآنية كحقل للبحوث الأكاديمية، أصبحت اليوم بحالة من الفوضى Disarray(1). كان دونر يناقش بشكل سريع بعضاً من الدراسات الغربية التي ركزت بحوثها بشكل خاص على القرآن، مثل لولينغ في مجموعته التي ترجمت للإنكليزية "A Challenge to Islam for Reformation" وكريستوف لوكسِنبيرغ (اسم مستعار) في The Syro-Aramaic Reading Of The Quran و وانسبرو في كتابه ذائع الصيت Quranic Studies و كتابه الثاني The Sectarian Milieu...الخ. هذا الخط من الدراسات بدأ بالتبلور في الربع الأخير من القرن العشرين، لكن بنفس جديد مليء بالتحدي والقطع النهائي مع ما أنجزه الاستشراق (خاصة الكلاسيكي)، هذا فضلاً عن القطيعة الكاملة مع التراث الإسلامي.
إن كتاب المستشرق البريطاني جيرالد هاوتينغ G. R. Hawting " The Idea Of Idolatry And The Emergence Of Islam, From Polemic To History(2)" يقف ضمن ذلك الخط النقدي الجديد في عالم الدراسات القرآنية –وإن كان يختلف عن الآخرين في التفاصيل- من جهة، وبمثابة تكملة لما شرعه وانسبرو (1977 و 1978) من حيث الأسس والنظيمات والنتائج. هذا الكتاب هو ما سنلقي عليه الضوء بنحو نقدي له في هذه العجالة السريعة.
مقدمة:
كما نعلم أن النص القرآني حدثت فيه إضافات، حُذف منه الكثير بعد وفاة محمد، لا نعلم بالضبط تاريخاً دقيقاً لـ متى بدأت عملية كتابته أو تدوينه، إضافة إلى صراعات أتباع محمد التي دارت حوله، ونسيانهم للكثير من أجزاءه (وحتى نسيان محمد نفسه)...؛ هذا فضلاً عن كونه يحمل معالم ثقافات عصره من ثقافات وثنية أو يهو-مسيحية....الخ. هذه النقاط ليست الآن مدار نقاشنا (رغم أنها تستحق الوقوف عندها طويلاً)، لكن ما يهمنا من إيرادها، أن هاوتينغ لا يتعب نفسه أبداً في نقاشها في دخوله لحقل الدراسة القرآنية، ولا يهتم كثيراً بالمشاكل التي أثارها النقاد الغربيون، كما هو الحال مع مستشرقين آخرين. ما يهم هاوتينغ أن يصل إليه من خلال مناقشة فكرة الوثنية هو التالي:
القرآن ليس مصدراً تاريخياً يمكن أن نطمئن إليه (وخاصة لعرب ما قبل الإسلام، لأن القرآن لم يكتب في الحجاز، ولم يكتب حتى في القرن السابع، كما سيأتي)، ولا حتى كتب التراث -التي نمت بشكل متزايد مع تطور الجماعة أو المجتمع الإسلامي- يمكن أن تشكل هي أيضاً ركائز للباحث المعاصر في تصوير الحدث القرآني وسياقه. هذه هي النتيجة التي يريد هاوتينغ أن يقولها من خلال كتابه، متخذاً فكرة الوثنية في التركيز عليها كمثال على ذلك لا أكثر(3). فبالرغم من أن هاوتينغ قد استفاض على طول الكتاب في نقاش الوثنية كفكرة جدلية، إلا أن الهدف لم يكن هذا بقدر ما كان إكمالاً لرؤى وانسبرو التنظيرية والتشكيكية، أما مع هاوتينغ: الدخول مباشرة من خلال فكرة الوثنية إلى أرض الواقع القرآني، ونسف مشروعية التراث الإسلامي (التفاسير القرآنية والكتب التي تحدثت عن حياة محمد وغيرها حتى كتاب مثل كتاب "الأصنام" لابن الكلبي) في تصويرها للسياق القرآني.
فإذا كان وانسبرو يلمح أن القرآن لم يتكون في منطقة الحجاز –بلاد العرب- (ربما تكوّن بلاد الرافدين أو الهلال الخصيب؟)، فإن هاوتينغ يسير بمناحي هذه الرؤية، إلا أنه أيضاً يبقي الباب مشرعاً من غير أن يقدم أية رؤية نقدية أو حتى إمكانية بديل لما قدمته النقوش (لأنه يشكك بها). إن الذي يشغل هاوتينغ هو إزاحة التراث الإسلامي، وإزاحة القرآن عن سياقه التاريخي الزمكاني. كيف؟
هاوتينغ (كما وانسبرو) يقرّ أن القرآن (انظر مثلاً في سياق حديثه عن الآلهة الثلاث ص137) ما هو إلا نتيجة إضافات وتجميع من مواد مختلفة (لكن لا يجيب ما هي هذه المواد). هذه النقطة تعتبر أساسية في دراسة هاوتينغ. وإذا حدث هناك من خلاف بينهما فربما يكون أن وانسبرو يعتبر أن القرآن هو من جملة ما أنتج مع التراث في وقت لاحق (أي بالتزامن بعد 200 سنة على الأقل)، في حين أن القرآن عند هاوتينغ هو إنتاج سابق على التراث. لكن سنرى أن هذا الاختلاف هو سطحي، وخاصة أن الاثنان ينطلقان من النظيمات المعرفية نفسها.
كان على هاوتينغ في سبيل الوصول إلى تلك النتيجة التي ذكرناها أن يتخذ عدة ركائز (سنلاحظ لاحقاً خلوها من أية نظيمات نقدية أو مقارابات منهجية بكل ما تعنيه الكلمة، وبالتالي ما هي إلا أدلوجات تخمينية مسبقة، أعني وانسبروية غير مدعمة بالأدلة والنقد). يمكن أن نجمل بعض هذه الركائز:
أولاً - رفض كل ما كتب في التراث الإسلامي جملة وتفصيلاً. فكتب التراث الإسلامي لا تعدو في النهاية أن تكون سوى نتيجة لتطور العرب العقلي باحتكاكهم مع ثقافات البلاد التي احتلوها (بشكل محدد، احتلال المسلمين والعرب لبلاد سورية والرافدين) من جهة، ومحاولة إعطاء "معنى" للقرآن وتفسيره، أكثر من كونها تقدم صورة تاريخية للسياق القرآني من جهة ثانية. حتى النقوش التي ذكرت آلهة بعينها (هبل مثلاً)، لقد قُرأت خطأ برأي هاوتينغ، خاصة إذا دلّت على آلهة مكية، لماذ؟ لبعد الشقة الزمنية بين تاريخ النقش وتكوّن القرآن كما يؤكد الكتاب. لذا لا بد من إعادة قراءتها. لقد كتب التراث الإسلامي كما يؤكد هاوتينغ (وقبله وانسبرو) نتيجة تطور المجتمعات الإسلامية وعقائدها وطقوسها برؤيتها هي أو تَصورها على الأقل، مُجمّعة من مصادر مختلفة. لذا لا يصح بأي حال أن تعكس لنا واقعاً تاريخياً. فكتب التراث من هذه الناحية مشكوك بها. فهو منذ البداية يطرح هذا التساؤل (ص23): «إذا كنا نمتلك القرآن فقط [أي القرآن بدون التراث]، هل سنستنتج أن الاتهامات الجدالية ضد المشركين بالضرورة أنها وجهت إلى العرب الوثنيين؟ أعتقد لا» أ.هـ. بالطبع إن هذا التساؤل بهلواني جداً، لكن ما الهدف منه؟ سينفق هاوتينغ من أجل الإصرار على امتلاك القرآن فقط (بدون نقد ولا تاريخ ولا هم يحزنون) ورمي كتب التراث، ليس فقط سينفق فصله الثاني كما قال هو، لا بل جل مناقشاته أثناء الكتاب.
ثانياً - إن كل ما أشار إليه القرآن لما هو موجود في حياة العرب (ديانات، تقاليد، حتى أسماء بعينها) لا يشير إلى أي واقع تاريخي، فالنص القرآني بعينه ليس نصاً تاريخياً ولا يحوي أية إشارات تاريخية. (هذا إذا غضضنا النظر الآن لما أثاره الأستاذ نادر قريط على مقال الأستاذ محمد النجار: "الوحي المحمدي بين الدراما والتاريخ" والذي يتقاطع إلى حد ما مع سياقنا: «أعتقد أن علامات كثيرة تدفع للاعتقاد بأن القرآن والحديث واللغة العربية والخط العربي والمخطوطات المبكرة والتصورات الدينية.. لا تصلح لأن تكون خطاباً صادراً عن الحجاز، فهي تحتاج لمنطقة ذات إرث حضاري لغوي ديني لا تتوفر عليه منطقة بدوية قاحلة قليلة السكان». الكلمات للأستاذ قريط).
وهكذا فإن الاتهامات مثلاً بالشرك التي وردت في القرآن، هي عند هاوتينغ ما هي إلا نتيجة مماحكات طائفية ودينية. إن المنطقة التي حدثت فيها هذه التطورات ليست في بلاد العرب (ومن ضمنها تكون لغة القرآن وتطورها) وإنما بشكل واسع في الشرق الأوسط وبشكل أخص سورية والعراق (ص13)؛ وبالتالي ما ورد في القرآن لا يعكس أوضاع جزيرة العرب، وإنما ثقافات الشرق الأوسط في الشمال، من بلاد العرب، الجزيرة. لكن هذا لا يمنع من تواجد توحيد قوي في مناطق الحجاز.
ثالثاً- من أجل ذلك، كل ما ورد في القرآن لا بد أن يعاد تأويله سيمانتيكياً: بالعكوف على القرآن وحده، بالدوران والدوران داخل القرآن وحده، بدون مصدر تاريخي، بدون نقش بدون رسم...الخ. طبعاً لا شك أننا سنرى والحالة هذه أن القرآن سيبقى نصاً مغلقاً معلقاً في الهواء، صامتاً، لا نعرف أصله من فصله! لا يشير إلى مكة، ولا الحجاز، ولا الكعبة، ولا يثرب، ولا حتى إلى شخص مثل محمد (الذي ورد ذكره أربع مرات على الأقل)....الخ. من هو محمد؟ في الواقع لا نعرف. ربما شخصية ابتدعته شخصيات بسبب حاجتهم إليها كمخلص لهم، وذلك أثناء جدالاتهم ونقاشاتهم!
إن فكرة مثل فكرة الوثنية التي صورها القرآن وذكر بالاسم بعض آلهة العرب، ستتحول مع هاوتينغ إلى حقل تأويلي مؤدلج، يحاول بأي طريقة إقصاء التاريخ، وتقديمه في نهاية المطاف أنه لا يمثل سوى تصورات جدالية (بما يخص الوثنية) داخل جماعات الدين الواحد، أو حتى في جدالاتهم مع أديان أخرى. وهذا مع الأخذ بعين الاعتبار بالتوافق مع هاوتينغ أن مفردة مثل الوثنية والشركية هي مفردة غير محايدة (ص45) بالمطلق، وبشكل محدد أثناء وردوها في سياق جدالي بين طرفين (كل طرف يرمي الآخر بالوثنية لأنه لا يسير على نهجه التوحيدي بشكل تام). لكن هذا الكلام شيء، وإنكار عبادة الأوثان بالكلية في مكة وبعض بلاد العرب، أي التي أشار إليها القرآن، شيء آخر تماماً وخاصة إذا ارتبط هذا على تخمينات مسبقة غير مدعمة بأي دليل.
المنهج:
هاوتينغ يقع بمشكلة منهجية في الكتاب. كما نعلم أنه هناك فجوة زمنية بين كتابة نصوص القرآن وبين التراث الإسلامي، ربما تمتد لما يزيد على مئة سنة. لكن الفجوة التي يقر بها هاوتينغ تختلف عن هذه أو بالأحرى غير واضحة، مبنية على تخمين من عنده، لأنه بالأصل لا يعترف بأي مصدر تاريخي يمكن أن يحدد له الجهة الزمكانية. إنه في الواقع لا يوضح هذه الفجوة، لا بل تنقلب عنده إلى أقنوم إيديولوجي (لكي يقول بكل بساطة أن الصورة التي كونها التراث الإسلامي تختلف عن صورة القرآن)، ولسوء الحظ بدون أن يحدد إلى من هو موجه هذا القرآن، ولا من ألفه، وأين تم تأليفه بشكل محدد (هل في سورية أم فلسطين أم العراق؟)؛ ربما في "مكان ما" غير العربية، كما بكلمات دونر (4) عن هاوتينغ ووانسبرو:
" despite Hawting's (and Wansbrough's) repeated hints that the Quran crystallized somewhere other than Arabia, neither seems confident enough of where this "somewhere else" might have been to propose a definite alternative venue…."
إنه بالرغم من أنه يحاول قلب الأمور على رأسها في نفي المفهوم المستقر حول الوثنية، الشرك الكفر...الخ إلا أنه لا يعطي مفهوماً محدداً لـ "التوحيد" الذي ألبسه بصورة أيديولوجية لوثنيي محمد أو ما قبل محمد. بالطبع هذا يفترض تساؤلاً آخر: بكل بساطة من هو الرب أو الآلهة التي كان يؤمن بها العرب حتى نسميهم موحدين كما يريد منا هاوتينغ؟ كان من المفترض عليه قبل ذلك في بداية دراسته التشكيكية أن يقف عند هذه المشاكل المفاهيمية (التي لم يصل الناقدون إلى الآن إلى حل نهائي لها) ويوضح لنا على الأقل المعاني المستقرة في ذهنه ثم يشرع بالتهديم.
لنلاحظ مثلاً منهجه في طريقة من طرق تشكيكه في النقش الصابئي الموجود في المتحف البريطاني الذي أشار إلى كلمة الشرك Sh-R-K. وقد رُبطت الكلمة بما ورد في القرآن بخصوص الشرك (هناك نقشين آخرين أيضاً. وقد علق العلماء أن محمداً استعار كلمة شرك من جنوب بلاد العرب). لقد نشره لأول مرة "Mordtmann" و "D. H. Müller" سنة 1896. وقد قام آرثر جفري (5) بتقديم سطر منه كما هو التالي:
يورد أرثر جفري التالي:
«And Avoid Giving A Partner To A Lord Who Both Bringth Disaster And The Author Of Well Being »(6).
طبعاً هاوتينغ يغطي على هذا، ويذكر فقط النقش، لا بل يقول بالحرف الواحد (ص70، حاشية رقم6): «في محادثة مع الدكتور آرثر إيريفين، لقد قدم لي ملاحظة أنه يعتقد أنه هناك تحفظات أو شكوك حول قراءة النص [النقش]»!! بالطبع هذا الكلام ليس منهجياً ولا علمياً في تشكيكه بقراءة النقش، إلا أن هاوتينغ يحاول بأي وسيلة مهما كان مستواها أن يضرب بعرض الحائط مسلمات بدائية. (المهم عنده أن ألفاظ الشرك التي ورد في القرآن هي محض ألفاظ جدالية مجازية). هذه الحالة تتكرر في كثير من شكوكه بالنقوش لكن بأساليب أخرى. وحتى إذا قالت آلهة أو صنم ورد في القرآن –مثلاً اللات- لهاوتينغ: أنا اللات هنا! بالطبع سيرد عليها هاوتينغ: لا، أنت لست اللات، أنت بالتأكيد شيء آخر!
النقطة الثانية، أن الكتاب يرفض من جهة أن تكون ألفاظ الوثنية أنها تدل على واقع تاريخي، لكن من جهة أخرى لا ندري ما هو المصدر التاريخي الذي يستند إليه حينما يُكرر القول أثناء الكتاب كله أن ما اعتبرهم التراثيون وثنيين (وفي الواقع القرآن هو الذي نظر إليهم هكذا) هم موحدون بنظر هاوتينغ. إنه ينفي أي مصدر تاريخي، ويبتدع من عنده أدلوجة ليطبقها على المسلمين الأوائل، أو في أحسن حالاته ينظر للتاريخ كنمط مثالي ذهني يسير ضمن خط واحد بمعالم واستحقاقات واحدة: لا بد أن الذي جرى في أوربا مع اليهود والمسيحيين قد حدث في مكة أو أي بقعة عربية ما دام الكل ينتمون إلى تراث توحيدي.
إن هاوتينغ يخلط بشكل متعمد ما بين علائم واستحقاقات القرون الأولى للمسلمين، وما بين الذي حدث في أوربا في القرن السادس عشر مع البروتستانتية ضد الكاثوليكية وبعض الفرق، بل حتى يأتي بأمثلة مما حدث عند الوهابية في بداية نشوئها مع محمد بن عبد الوهاب حينما بدأ يرمي خصومه باتهامات الوثنية والجاهلية (وبعدها سيد قطب). هذا التنميط الفكراني يطبقه هاوتينغ بدون سابق إنذار على القرون الأولى للإسلام وبدون أي اعتبار لفروقات الزمان والمكان والاستحقاقات التاريخية لهما. ولا داعي لأن نستفسر كيف استقامت في ذهنه هذه القفزات الذهنية. بكلمات أخرى: الوثنيون الذين ورد ذكرهم في القرآن، ليسوا وثنيين بالمعنى الحرفي، إنما هم موحدون، أما الاتهامات بالشرك فإنها أتت في سياق مماحكات وجدالات.
لربما يصعب على الناقد الآن في مقاربته للنص المحمدي أن يجيب على تساؤل بسيط ولكن بنفس الوقت معقد: ما هو المعيار الذي بإمكاننا من خلاله أن نحدد المفردات في القرآن التي سنفهمها بنحو سيمانتيكي خالص (وبالعكس، أي المفردات التي لا يمكن أن نفهمها بنحو سيمانتيكي وخاصة الأسماء مثل التي وردت في القرآن: مكة، اللات، العزى، محمد، الكعبة، البيت الحرام... )؟ في كلتا الحالتين لا بد أن نخضع للنقد التاريخي لنحل مثل هذه المسائل. إننا ربما نلمس منه إدانة ضمنية لترجمة الوثنية في القرآن بمعنى Idolatry التي سترادف في بعض أوجهها Polytheism إذا قصد منها إشراك أوثان مع إله اسمه الله أو Paganism. لماذا أقول هذا الكلام؟ لأن هاوتينغ بالأصل يعتبر هذه المصطلحات مجازية، جدالية لا تدل على واقع بعينه...الخ.
هاوتينغ عنده ميزة فقط بالتشكيك على طول الكتاب بل حتى في أغلب بحوثه ومقالاته التي قدمها لموسوعة القرآن التي أصدرتها "بريل" (2001-6)، دون تقديم أي بديل. وهو يعترف بذلك صراحة بأنه ليس معنياً بالآلهة التي كانت محل عبادة، أو أن يتوصل إلى نتائج بخصوصها بقدر عنايته بعلائم الدليل [أي بالتشكيك به] (انظر مثلاً ص111). يذكرنا هذا بما أورده "فرد دونر" نقلاً عن "تور أندريه" الذي حاول استقصاء التأثير المسيحي على محمد: لماذا لم يصبح محمد مسيحياً إذا كان فعلاً متأثراً بنحو شديد بالتعاليم المسيحية؟ تور أندريه يطرح فقط التساؤل، إلا أنه لا يجيب! أما هاوتينغ فإنه يطرح التشكيك (رغم خلو التشكيك في كثير من الحالات من أية منهجية نقدية) لكن بدون أن يقدم أية إجابة أو منهج نقدي جدي في مدارسة القرآن. وبكلمة: لقد علق القرآن بين قوسين بدون نقد أو درس! (وللعلم إن هاوتينغ شارك مع عبد القادر الشريف بتحرير مجلد في دراسة القرآن Approaches to the Quran, Routledge/SOAS 1993).
إذن المشاكل الرئيسية في الكتاب هي مشاكل مفاهيمية ومنهجية بالدرجة الأولى: ليس هناك معنى محدد لآلهة العرب (ومن ضمنها الله) ولا تحديد الوثنية والشركية والتوحيد ولا من هم الذين توجه إليهم القرآن ولا البيئة التي نشأ فيها...الخ. وفوق كل ذلك، ليس هناك معنى محدد للقرآن نفسه. في الواقع إنه معلق بين قوسين.
من الجدل إلى التاريخ، أم من التاريخ إلى الجدل؟
ما يود الكتاب تأكيده أن الإسلام كنظام ديني ما هو إلا نتيجة مماحكات جدالية بين أصحاب الدين الواحد أو مع غيرهم من أديان أخرى: إن الوثنيين الذين قدمهم لنا التراثيون، ليسوا عبدة أوثان في الواقع، إنهم بالأحرى موحدون، وما كان اتهامهم بالشرك وبعض الألفاظ الشنيعة التي نجدها في القرآن ضدهم إلا لكونهم لم يسيروا في طريق التوحيد الصحيح. الجو الجدالي هذا، هو ما سيخلق عقائد وفرقاً، الأمر الذي يمكن أن نقرأه أيضاً في نشوء اليهودية والمسيحية، وفي التاريخ اللاحق نشوء فرق مثل البروتستانتية و Karaism اليهودية. أو حتى يمكن أن نجد مثل عوالم هذا الجدال كما هو الأمر في اتهامات المسلمين للمسيحيين بكونهم مشركين، بسبب عقيدة الصليب عندهم، أو بكونهم وثنيين بسبب استخدامهم للأيقونات والصور...الخ، الأمر نفسه نجده أيضاً بين البروتستانت والكاثوليك سابقاً، أو بين المسيحيين واليهود (اتهام المسيحيين السابق لليهود بأنهم وثنيين لورود نصوص في اتهام الأنبياء لشعب إسرائيل بالوثنية [قصة العجل الذهبي])، أو حتى ما نقرأه في اتهام ملكة بريطانية في القرن السادس عشر في رسالة وجهتها إلى السلطان العثماني مراد الثالث (1546- 95) باتهام فيليب الثاني في إسبانيا بأنه: "As The Chief Idolater"... إلى آخر هذه الأمثلة. هذا كله يدل كما يعبر هاوتينغ على نمط الثقافة من الجدالات سواء بين الثقافات أو بين الأديان. إن استخدام كل هذه الثقافات والفرق والأديان للمصطلحات نفسها يدل بشكل أو بآخر على أن السياق الديني كان سياقاً جدالياً، وبالتالي ليس بالضرورة أن تعبر تلك المصطلحات على واقع تاريخي بقدر ما تعبر كثافة الجدل نفسه. وهكذا لا بد أن نفهم لغة القرآن بهذا النحو. فسياقه أيضاً سياق جدالي في استخدامه مصطلحات مثل شرك وثنية...
العنوان الفرعي للكتاب من الجدل إلى التاريخ. حسناً، النقطة التي حاول هاوتينغ على طول الكتاب أن يوضحها هي معنى الجدال، وخاصة في السياقات الدينية، وبالأخص أكثر: الجدل بين الطوائف الدينية، سواء داخل الدين الواحد أو دين في مقابل دين آخر، وتأثير ذلك على / وفي نشوء الطوائف والديانات (ومن ضمنها الديانة المحمدية). هذه النقطة يشكر هاوتينغ على إيضاحها. وبالفعل أثمر في تقصيها سواء بإيراد الكم الهائل من الأمثلة سواء في الديانة اليهودية أو المسيحية أو الإسلامية أو بتوضيح طبيعة اللغة الدينية بحد ذاتها.
لكن بالرغم من أنه يعدنا من خلال شكوكه المبالغ فيها (أو الراديكالية على حدا تعبير بعض النقاد(7))، أن نصل إلى تكوين صورة تاريخية، إلا أنه للأسف لا يوضح لنا في أي مكان معنى التاريخ الذي في ذهنه، أو على الأقل الصورة التاريخية التي يريد هاوتينغ تأكيدها في مقاربة السياق القرآني، هذا فضلاً عن إفلاس الكتاب عن تقديم أي مفهوم دقيق لمعنى المصدر التاريخي (سواء نقش أو كتاب...) الذي حاول هاوتينغ إزاحته من أمامه. بصراحة، إن الأهم عند هاوتينغ ليس تقديم صورة تاريخية (رغم عنوان الكتاب) وليس الوقوف عند مشاكل مفاهيمية مثل هذه، ولا حتى كيف تأصلت كتب التراث الإسلامي. إن الأهم عنده هو تخريب أي طريق لتكوين صورة تاريخية.
إن عداء هاوتينغ للتاريخ لا نجد له ما يبرره سوى الإدانة لكتب التراث: بجرة قلم، كتب التراث مشكوك بها، كتبت في وقت لاحق، ليس في منطقة الحجاز، وحتى القرآن نفسه –كما يؤكد وانسبرو- ما هو إلا تجميع من مواد مختلفة في سوريا والعراق...الخ. حتى كتاب مثل كتاب الأصنام لابن الكلبي (206 ⁄ 821) يشكك به وبالروايات التي أتى بها (والتي روي الكثير منها في معجم البلدان لـ ياقوت)، لا بل بنسبة الكتاب له!! (انظر خاصة 89- 93). إن عمل ابن الكلبي لا يعدو أن يكون إلا نتاجاً لاحقاً، لكن ربما زوراً نُسب لابن الكلبي. حتى أسماء الأصنام التي اكتشفت في نقوش نبطية: W-H-B-L-W ([و]هبل)؛ D-SH-R (ذو الشراة)؛ M-N-W-T-W (مناة) (8)، كل هذه يحاول هاوتينغ تجاوزها (ص113 وما بعدها) والقفز فوقها، بسبب مثلاً أن الفجوة الزمنية كبيرة بينها وبين تكون القرآن فضلاً عن الخطأ بقراءتها (ربما نعود إلى هذه النقطة المهمة في بحوث لاحقة ومسألة التشكيك في قراءة النقش).
ربما يوجد في القرآن إشارات قد بالغ فيها محمد في تصويره للسياق العربي (السياق الذي نشأ فيه القرآن) كما هو الحال في إشارته إلى وأد البنات عند العرب [التكوير: 8-9]. مثل هذه النقطة لا نستطيع أن نفهمها إلا في موضعة هذه الإشارات القرآنية في سياقها التاريخي مع استيعابه بشروطه هو؛ كأن نفهم مثلاً أن محمداً من أجل أن يرفع من مكانة أفكاره، سيحط من شأن خصومه إلى الأسفل. هذه المماحكة في القرآن كثيرة بين محمد والعرب. كل طرف يريد أن يشوه من سمعة الآخر، وبالتالي سيستخدم كل طرف عناصر نجاح الجدال على الآخر سواء من ناحية البلاغة اللغوية أو بالاستعانة بكائنات ما: محمد يتشبث بالسماء، وخصومه يتشبثون بالأسلاف....الخ. لكن ما لذي يحدث مع هاوتينغ؟ إنه يقوم بإلغاء الطرفين بالكامل!! فالقرآن لا يشير لا إلى محمد ولا إلى العرب المعنيين لا من قريب ولا من بعيد!
ما أود التأكيد عليه أن أسلوب المماحكة، وخاصة في النصوص الدينية لا يمكن أن تفهم، إلا من خلال تأصيلها في الجو اللغوي العام وحوامله التاريخية (اجتماعياً، سياسياً، اقتصادياً...الخ). وهذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل نص ديني معبئ بالإيديولوجية والأحلام وتطلعات الكاتب ونفسانيات أتباعه وهمومهم....الخ. لا بد مثلاً أن نراقب بدقة متى يتدخل ربّ محمد، ومتى يغيب عن المشهد أو الحدث. متى يكون محمد هو المتكلم بشكل مباشر إلى خصومه أو أتباعه من خلال القرآن (في هذه الحالة تكون الآلهة غائبة خلف صوت محمد المباشر)، ومتى يستخدم ضمائر المتكلم.... وبالطبع لا يمكن أن نقارب هذه النقاط إلا من خلال الحفر في لغة النص نفسه، ولكن بعين النقد التاريخي.
القرآن ليس نصاً بريئاً، يعكس / يصور محمداً وأتباعه أو خصومه. إنه ليس بهذه البراءة، ولا يوجد نص بريء (هذه الحالات ربما تناسب بعضاً من الملاحم الروائية). إنه يمثل في كثير من الأحيان طرفاً ضد طرف آخر (ألوهية النص التي كان يقول بها محمد، كان يستخدمها هذا الأخير بمثابة سلاح إيديولوجي ضد خصومه في كثير من الأحيان). ونحن نتذكر أن اليهود في يثرب قبل أن يطردهم محمد من مدينتهم ويذبح قبيلة بأكملها، كانوا يتفاخرون على العرب بأنهم "أهل كتاب"، والعرب أمة أمية لا تملك كتاباً. هذه الآية ستنقلب مع دخول محمد إلى يثرب، مدينة السياسة. الآن مع محمد بدأ يتكون للعرب كتاب ذو مرجعية إلهية بنظر محمد. هذه الإلاهوية تحولت سواء على يد محمد أو يد أتباعه إلى عامل إيديولوجي ضد أصحاب مرجعيات إلهية أخرى وبشكل خاص الذين أطلق عليهم: "أهل الكتاب". هذا جو جدالي نشأ مع نشوء الجماعية الإسلامية الوليدة، لا يمكن أن نقاربه إلا بدرس اللغة الجدالية ذاتها وحواملها الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية...الخ لا أن نطبق من عندنا أفكاراً مسبقة ونقحمها على القرون الأولى.
إنه بالرغم من توضيح هاوتينغ وإتيانه على السياق الجدلي (الذي تستثمره اللغة) بشكل جميل، لكن لنعلم أن ذلك لم يكن إلا بهدف واحد وبسيط: هو إقصاء التاريخ! بدون تقديم أي بديل. ربما تكمن ميزة الكتاب الرئيسية، بكونه يمثل أرقى ما وصلت إليه الدراسات الحديثة في رفع مستوى الشك؛ ولكن الشك ليس من أجل النقد والنظام التحليلي للحدث والسياق، ولا أن يبني على جهود غيره من الإركيولوجيين والفيلولوجيين والنقاد والباحثين بشكل عام؛ وإنما الهدف: الشك من أجل الشك فقط، وتعليق القرآن بين قوسين بدون نقد أو مدارسة.
الكتاب بالأصل لم يكتب من أجل تكوين صورة تاريخية كما هو العنوان الفرعي له، إنه بالأحرى كتب من أجل تهديم الصورة التاريخية أو أية محاولة لمقاربة تاريخية لمكة ومحمد والقرآن (ربما نتذكر نقاش باتريشا كرون هي الأخرى في Meccan Trade 196-9 أيضاً أن مركز التجارة المكية لم تكن في مكة الحالية، إنها بالأحرى في الشمال أكثر!! [الإشارة من هاوتينغ ص 10]).
نحن نعلم أن أي صورة في ذهننا عن شخصية مثل محمد وعربه البدو في القرن السابع هي صورة على أقل تقدير مشوهة ومبتورة، لكن هاوتينغ لا يقف عند هذا، إنه يسد كل الطرق للوصول إلى تكوين أي صورة سواء لمحمد (ولا أعلم بالضبط ما إذا كان ينفي أصلاً شخصية مثل محمد) أو عرب ما قبل الإسلام.
لم يبق أمام القارئ من خيار عند الانتهاء من قراءة الكتاب إلا أن يقول بشأن الأسماء التي وردت في القرآن ما هي إلا مخلوقات فضائية أو عفاريت من السماء أقحمها المسلمون في وقت لاحق في القرآن! عند هاوتينغ مثلاً الكعبة التي وردت في القرآن لا تدل بالضرورة على الكعبة التي في مكة (لأنه هناك كعبات كثيرة في بلاد العرب). إذن، على ماذا تدل الكعبة التي وردت بشكل فج وصريح في القرآن: «جعل الله الكعبة البيت الحرام» [المائدة: 97]؟ لا أحد يعلم!
في الواقع ينتهي الكتاب ولا نعلم بالضبط ماذا كان يعبد العرب، ولا كيف نشأ الإسلام ومتى؟ وأين (عند هاوتينغ مكة ليست المكان الذي ولد منه القرآن والإسلام)؟ ولماذا؟ الدواعي أو الحوامل التاريخية لنشوئه؟....إلى آخر هذه التساؤلات البسيطة ولكن المبدئية؛ وخاصة إذا وضعنا بعين الاعتبار أن دراسة هاوتينغ كلفت نفسها لتهديم ما سبق على أيادي المستشرقين والتراثيين على حد سواء، في مقابل البناء لصورة تاريخية سليمة كما عنونت الدراسة: من الجدل إلى التاريخ. إلا أن هذا كان كلاماً آخراً.