لا جدال في سريان العصارة الفيدية/ البراهمانية/ الهندوسية والبوذية، في البنى وفي المخيال العقدي السائد في الشرق الأوسط القديم؛ ثمت تثاقف بين الإبراهيمية والبراهمانية، لا تخطئه إلا الباصرة الطائفية أو الوثوقية أو الفكرانية. لا يمكن تفسير تشابه الحدوس الميتافيزيقية المؤسسة، للروحيات البراهمانية والإبراهيمية، إلا بالتنافذ والتثاقف، وتقاسم النوى التكوينية ورعاية المشترك الميتافيزيقي وتبيئته بما يوافق السياقات الثقافية أو التاريخية أو المقصديات الأخلاقية أو الثقافية الثاوية خلف الأنساق العقدية-السياسية المبلورة في هذه الجهة أو تلك .
لا يمكن التشكيك إذن في نفوذية التمثل التكويني الفيدي-البراهماني وتغلغله في أعطاف البنيات الميثولوجية الفارسية والرافدية-السامية ؛ يتقصد هذا التمثل الانهمام بالكائن المطلق والانفصال عن الوضعية المشروطة للإنسان و تجاوز جدلية المايا Dialectique de la maya والوجود الوهمي في الزمان والتاريخ. لا يتم الشفاء والانعتاق إلا بالتحرر من الدورات الكارمية والقانون الكارمي وتجنب الافتتان بالسيادة الكونية على التاريخ .
لا تنطوي أية تجربة وجودية أو تاريخية على المصداقية الأنطولوجية، من المنظورالبرهماني- الهندوسي، مما يقتضي، الحذر من الجهل والوهم القاضيين بالتسليم بالحقيقة الأنطولوجية للتاريخ. ولذلك يعيش الهندي، في تعطش ميتافيزيقي دائم،إلى الوجود المحرر والمحرر من الزمانية ومن التاريخية .كما يعيش موزعا بين الالتزام بدورية الزمن Dharma الكوني أو بالوضع الكوني أو الدارما وبين الانخراط في مسلكية أوبانيشادية فردانية بعيدة عن الطقوسية القربانية والأطر الاجتماعية المخثرة للعقيدة الفيدية والتعبد الفيشنوي.
وقد أشار الياد إلى هذه الخاصية الهندية في قوله :
(... والحال أنه ليس لا اكتشاف الوهم الكوني بالنسبة إلى الهندي، أي معنى إن لم يتلوه البحث عن الكائن المطلق، فمفهوم المايا ليس له معنى من دون مفهوم البرهمان .نقول بلغة غربية : الوعي بوضعنا المشروط ليس له معنى إلا إذا التجأ الإنسان إلى اللامشروط وبحث عن الانعتاق . فالمايا لعبة كونية وفي النهاية عابرة، ولكن حين نفهمها كما هي وحين نمزق حجب المايا، فإننا نجد أنفسنا أمام الكائن المطلق.. أمام الحقيقة القصوى. )
Mircea Eliade- Mythes, rêves et mystères –Gallimard- Folio essais-2001—page -70) .Universalité de la douleur ولتجاوز الصيرورة وكونية الألم ومخاضات التناسخ، فإن الفلسفات والروحيات الهندية، تحض على الزهد وعلى الانخراط في مسلكيات عبادية وطقوسية خاصة .
ورغم الاختلافات القائمة بين الفيدية والبراهمانية والهندوسية والبوذية والجينية، فإنها لا تختلف في خيدعية العالم و"اللاتعلق" وارتباط الانعتاق من مأساوية الوضع البشري ومن المعاناة الأصلية بفك الارتباط النفساني والوجداني بالعلائق و بأشياء العالم.
(يعتبر وجود الإنسان في الكوسموس، بالنسبة إلى الفكر الهندي، إما مصادفة مؤسفة وإما وهما . هذا الموقف السلبي، "الجدالي" تقريبا، للروحانية الهندية إزاء الكوسموس، هو الأحكم صياغة بين الأنساق المركزة على الأنطولوجيا .) Mircea Eliade –Techniques du yoga –Gallimard1-Folio -essais -1994,-p.30-31)
لقد تشربت المانوية العصارة الهندوسية – البوذية، كما امتصت النسغ المسيحي – الغنوصي، وصنعت من تلك المستجلبات والاستمدادات، بنيانها النظري.لا يمكن إذن، فهم التنسك المناني، من دون استدعاء البنيات المخيالية والصور الأمثولية الألفية المتداولة، بكثرة، في المناطق التخومية وفي المنعطفات التاريخية الحادة للشرقيين.لا ينفي الاقتراض في العقديات، إمكانيات التكييف والتلوين والنسخ والتحوير والتوطين مطلقا؛ فتأسيس العقائد، يشترط الاجتياف والفردنة الواعيين بالموروث، بحيث يتفردن العام ويتجزأ الكلي ويتجوهر التاريخ الديني ويتجسد في فرد بعينه هو المؤسس الناسخ لكل ما سبق . ثمة لطافة في اختراق الجيولوجيا العقدية، والاستحواذ على مخزوناتها، ونقل ملكيتها إلى الذات المتهيئة لحمل المشعل الأخير إلى الإنسانية المتألمة.
( قال : ينبغي للذي يريد الدخول في الدين أن يمتحن نفسه، فإن رآها تقدر على قمع الشهوة والحرص وترك أكل اللحمان وشرب الخمر والتناكح، وترك أذية الماء والنار والسحر والرياء، فليدخل في الدين، و إن لم يقدر على ذلك كله فلا يدخل في الدين، و إن كان يحب الدين ولم يقدر على قمع الشهوة والحرص فليغتنم حفظ الدين والصديقين، وليكن له بإزاء القبيحة أوقات يتجر فيها للعمل والبر والتهجد والمسألة والتضرع، فإن ذلك يقنعه في عاجله و آجله، ويكون صورته الصورة الثانية في المعاد ...) (-ابن النديم – الفهرست – اعتنى وعلق عليه : الشيخ إبراهيم رمضان- دار المعرفة – بيروت – لبنان – الطبعة الثانية -1997-ص.404-405).
ومن البديهي، أن يعمد كل نسق تركيبي –توليفي ذي مقصدية "مسكونية" إلى إعمال جدلية الاستمداد والإمداد، وإتقان مداورتها بما يضفي طابع الأصالة النظرية على النسق المستحدث.ومن هنا، فإن المانوية، ستظهر كفاءة كبرى في التوليف وفي اجتياف الميثات والثيمات القدسانية وفي صهر أخلاط ميثية مستمدة من السجل الميثي البرهماني والزرادشتي والمسيحي والغنوصي.وتكمن فرادة المانوية، في حدية ثنويتها وجذرية مطالبتها بالانقطاع اللامشروط عن العالم .فهي لا تكتفي، بالتأمل الفاتر في كونية المعاناة، وفي منابع الشر، وفي الطرق النبيلة للوجود الهانئ، بل تحول تلك التأملات المتألمة إلى تعبد انفصالي عن السيرورة وعن التشخصن .ولم تغب التقاربات والتشابهات الزهدية بين الهندوسية والمسيحية والمنانية والتصوف الإسلامي عن الأفق المعرفي للكثير من المشتغلين باستشكال العقل الديني في شقه النظري والعملي مثل محمد أبي بكر الرازي.
(ولما كان ليس للإنسان في حكم العقل والعدل أن يؤلم غيره تبع ذلك أنه ليس له أن يؤلم نفسه أيضا . وصار تحت هذه الجملة أيضا أمور كثيرة يدفعها حكم العقل، نحو ما يعمله الهند من التقرب إلى الله بإحراق أجسادها وطرحها على الحدائد المشحوذة، ونحو المنانية وجبها أنفسها إذا نازعتها إلى الجماع و إضنائها بالجوع والعطش وتوسيخها باجتناب الماء واستعمال البول مكانه.
ومما يدخل في هذا الباب و إن كان دونه كثيرا ما يستعمله النصارى من الترهب والتخلي في الصوامع وكثير من المسلمين من لزوم المساجد وترك المكاسب والاقتصار على يسير الطعام وبشعه ومؤذي اللباس وخشنه، فإن ذلك كله ظلم منهم لأنفسهم وإيلام لها لا يدفع به ألم أرجح منه.)
(- أبو بكر الرازي – رسائل فلسفية- منشورات : دار الآفاق الجديدة – بيروت – لبنان – الطبعة الرابعة -1980-ص.-105-106).
فمهما تعددت أنواع الممارسات التنسكية، فإنها لا تنفي اشتراكها في وحدة الرؤية وفي وحدة النواة الصلبة الرمزية ؛من المحقق أن ممارسة التعزف عن الدنيائية وعن مباهجها، والإغراق في تعبد مازوشي الطابع، يطبعان الثقافات والحضارات والتواريخ الشرقية بطابع رمزي خاص لم تلمسه المقاربات المقارنة إلا برفق فيما تنكره المقاربات العقدية رأسا، استنادا إلى فصلها بين الإبراهيمية التوحيدية والبرهمانية التعديدية أو التشريكية .
ويمكن التمثيل لتلك النواة الصلبة، بصياغتها البوذية .
( وتنبني الحقيقة النبيلة الثالثة، حقيقة أن المعاناة يمكن القضاء عليها، على تحليل أسباب المعاناة، فإذا كان التوق الأناني هو سبب المعاناة، فإن توقف المعاناة يكمن في انقطاع ذلك التوق . وذلك هو، على وجه الدقة، ما أوصى به بوذا، والواقع أن الهدف الحقيقي للرجل البوذي هو النرفانا وهو يحمل معنى " الإخماد أو الانطفاء " – وما يتم إطفاؤه كالمصباح – أو إخماده هو الرغبة الملحة أو التوق الأناني . وعندما يتم إطفاء هذا التوق الأناني تجتث المعاناة من جذرها . وهكذا فإن حقيقة توقف المعاناة هي الحقيقة القائلة إن انقطاع التوق من شأنه أن يجلب معه توقف المعاناة.)
(جون كولر –الفكر الشرقي القديم –ترجمة : كامل يوسف حسين –عالم المعرفة –العدد 199-يوليو-1995-ص.196)
ليس للكون ولا للتاريخ، أي فعالية تحريرية أو انعتاقية، من منظور المانوية .فالإنسان، لا يتحرر بفعاليته، النظرية أو إنجازيته العملية، أو بتطويعه للمسارات التاريخية ورسمه لخطوط ثقافية واجتماعية مجددة للاجتماع البشري، بل بالانقطاع الكلي عن عابرية الزمان وعن سرابية الأشياء و بتحرير الإرادة بالمعرفة .
( لا يرجع بؤس الحياة الإنسانية إلى عقوبة إلهية ولا إلى خطيئة أصلية، ولكن إلى الجهل.ليس أي جهل ؛ ولكن فقط جهل الطبيعة الحقيقية للنفس، أي الجهل الذي يدفعنا إلى الخلط بين "النفس" والظواهر السيكو- عقلية، والذي يدفعنا إلى عزو" صفات" ومحمولات إلى هذا المبدإ الأبدي والمستقل المسمى بالعقل، باختصار إلى جهل من نمط ميتافيزيقي .) Mircea Eliade- techniques du yoga -page-39-40) يتمكن المانوي من نيل الخلود والمشاركة في الحياة الإلهية، بالاهتداء بعلامات الغنوص والانقطاع إلى الزهد أو إلى "الأضحية الداخلية " .Sacrifice intérieur
ثمة تقاطع وتشابك بين الزهد البرهماني-البوذي – الجيني والزهد المانوي، مما يدل، على سيولة وارتحال التمثلات والخمائر الدينية وتدفق الأنساغ في الفضاء الثقافي الهندي والفضاء الفارسي-السامي .وقد أشار محمد بن زكريا الرازي، إلى هذا التقارب، في معرض تنديده بالتقاليد الزهدية، في الشرق الأقصى والشرق الأوسط.
( فأما مجاوزة الحد الأسفل فخروج عن الفلسفة إلى مثل ما ذكرنا من أحوال الهند والمنانية والرهبان والنساك، وهو خروج عن السيرة العادلة و إسخاط الله تعالى بإيلام النفوس باطلا واستحقاق للإخراج عن اسم الفلسفة .)
(- أبو بكر الرازي – رسائل فلسفية- منشورات : دار الآفاق الجديدة – بيروت – لبنان – الطبعة الرابعة -1980-ص.107-108) ..
كما لم يفت ناقد أخلاق العبيد المنتصر لديونيزوس ضد ابن الإنسان، أن يشدد على معادة براكسيس الكنيسة الجذرية لقوى الحياة ولأخلاق السادة .
(لقد ركزت الكنيسة، دوما، في تربيتها، على الاستئصال ( استئصال الشهوانية والكبرياء وإرادة الهيمنة والجشع وإرادة الانتقام ) .لكن، استئصال الأهواء، لا يعني إلا استئصال الحياة ؛ فبراكسيس الكنيسة معادية للحياة .)
(Friedrich Nietzsche- Crépuscule des idoles – textes et variantes établis par : Giorgio Colli et Mazzino Montinari – traduits de l’allemand par Jean –Claude Hémery- éditions Gallimard-1974-p.33)
كما لا غرابة، أن تبنى العمارة الصوفية، على المدماك التنسكي –الزهدي، العابر للثقافات والحضارات، والمتكيف مع النظم المعرفية والإيطيقية المطورة هنا وهناك في ربوع الشرقين .فمهما تجددت" العبارة "وتأسلمت، فإن "الفكرة" باقية، تنطق بالحدس الأولي الألفي .وهذا دليل مكين، على استمرارية المعاني، رغم اندراس البنى الحاملة لها، وانخرام مؤسساتها في سياق التدافع اللامتكافئ بين معتقد مدجج بالإرادة والقوة ومعتقد يطالب بتفكيك الإرادة والقوة والتهيؤ للتعطيل الإسكاتولوجي الأكبر.
(- إن الله خلق إبليس كلبا من كلابه، وخلق الدنيا جيفة، ثم أقعد إبليس على آخر طريق الدنيا، و أول طريق الآخرة، وقال له : كل من مال إلى الجيفة سلطتك عليه.
- من اختار الدنيا على الآخرة يغلب جهله علمه، وفضوله ذكره، ومعصيته طاعته، ومن اختار الآخرة على الدنيا يغلب سكونه كلامه، وفقره غناه، وهمه سروره، وقلبه محبته، وسره قربه، فتصير نفسه مقيدة بقيد الخدمة، وقلبه أسيرا لخوف الفرقة، وسره مستأنسا بأنس الصحبة . )
(-أبو يزيد البسطامي – المجموعة الصوفية الكاملة –ويليها كتاب تأويل الشطح – تحقيق وتقديم : قاسم محمد عباس – دار المدى – دمشق – سورية – الطبعة الأولى – 2004-ص.86)
ويتجلى هذا التشابه كذلك، في التقاليد" الرهبانية "وفي طرق" تطقيس "التخلي والانعزال عن خيرات العالم المادية والرمزية .تكاد التقاليد الزهدية، المذكورة أن تتفق على مبدإ "اللاتعلق"، باعتباره انفكاكا عن أي ارتباط وجداني أو سيكولوجي، ب"مواد" العالم وآلامه المسترسلة منذ دهور.
( وحدثني أبو شعيب القلال، وهو صفري، قال : رهبان الزنادقة سياحون ؛ كأنهم جعلوا السياحة بدل تعلق النسطوري في المطامير. ومقام الملكاني في الصوامع، ومقام النسطوري في المطامير.
قال : ولا يسيحون إلا أزواجا . ومتى رأيت منهم واحدا فالتفت رأيت صاحبه، والسياحة عندهم ألا يبيت أحدهم في منزل ليليتين . قال : ويسيحون على أربع خصال : على القدس، والطهر، والصدق، والمسكنة.فأما المسكنة، فأن يأكل من المسألة، ومما طابت به أنفس الناس له حتى لا يأكل إلا من كسب غيره الذي عليه غرمه ومأثمه، و أما الطهر فترك الجماع، و أما الصدق فعلى ألا يكذب . و أما القدس فعلى أن يكتم ذنبه، و إن سئل عنه . )
( الجاحظ-كتاب الحيوان – وضع حواشيه : محمد باسل عيون السود – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 1998- المجلد الثاني-ص. 486-).
لا مناص إذن، من تثبيت التقارب الرؤيوي والتنافذات الفكرية والإيطيقية، بين الزهديات الهندية والسامية ؛فالزاهد المانوي أو المسيحي مثل الزاهد البرهماني أو الجيني أو البوذي، يتوق إلى تحرير الروح من سجن الجسد ومن الرعب الميتافيزيقي ومن المعاناة الكونية وإلى تحصيل الإشباع الأنطولوجي المسمى في التقاليد البوذية بالنريفانا أو البارينرفانا .Le parinirvâna
إن للتسول الديني المانوي، أشباها ونظائر في الثقافة الهندية، مما يدل على الطابع المركب للمانوية وعلى امتياحها من الأمشاج الفكرية و الإيطيقية البراهمانية والبوذية والجينية .من الطبيعي، إذن، أن تنفتح المانوية على الإرث" اللاتعلقي" والزهدي الهندي، لجذريته النفاتية وتفننه في تعميق" اللاتعلق " والتنسك وتقعيد الممارسات التأملية والتفكيرية.تنهض الحقيقة النبيلة الثالثة ( النيبانا أو انهاء الألم) على تولد انتهاء الألم وتوقف دورة الولادات عن تعطيل الرغبات الأنانية والجهل.
(. حين تدمر البذور، فإنها لا تقدر على الإنبات مطلقا . إذا دمرت الرغبة الأنانية المتعلقة بتشنج بالحياة، ، فإن أية زيادة جديدة لا يمكن أن تحدث، فإن أية استمرارية لسيرورة الوجود هذه، أية "ولادة جديدة " بعد الموت لا يمكن أن تقعا . )
Mahathera Nynatiloka- L’essence de l’Enseignement du Buddha- in -Présence du bouddhisme – dirigé par : René de Berval - éditions Gallimard, 1987-page .114-115).
لا يمكن تجنب العود الأبدي للمعاناة، إلا بالعمل بمقتضى الحقائق الأربع النبيلة، وبموجب الفينومنولوجيا البوذية.
(فخلافا للأديان التوحيدية، لا تبحث البوذية عن تنظيم حياة مجتمعاتنا، ولكن عن إظهار أعطالها.لا تروم سيكولوجياها رفاهية الفرد الفورية والمؤقتة ولكنها تعين الشقاء الملازم لكل وجود مطبوع بشره كل رفاهية أنانية. )
Philippe Cornu- le bouddhisme, un cheminement intérieur-le Point –hors-série-n06-janvier-février – 2006-page44)
يقتضي "اللاتعلق "والتعزف عن العالم، ممارسة السياحة والتسول الدينيين، والانقطاع إلى الغنوص معرفة والتنسك سلوكا .ومن هنا، فليس التنسك المانوي،مناورة سياسية أو روحية للالتفاف على وضعية استبدادية مسدودة الآفاق السياسية والروحية كما يعتقد ناقد العقل العربي .فالتنسك المانوي، نتاج أنطولوجيا عابرة للثقافات، ومتجددة في سياق الامتزاج والاصطراع الثقافي والحضاري بين شعوب الشرق الأوسط والشرق الأقصى . ومن هنا، فثمة، اقتراب فلسفي، بين المعالجة المانوية لجينيالوجيا الشر الكوني، وبين تفسير البوذية لإشكالية المعاناة الوجودية .ولذلك، نعتقد، أن الخلفيات والمرجعيات الثقافية الألفية تحتاز جدارة تفسيرية لا تتوافر عليها القراءات السياسية-الإيديولوجية.وعليه، فإن اعتبار الإيطيقا المنانية المتجذرة في عرفان تنسكي ألفي، مجرد رد احتيالي ضد الأردشيرية المستبدة، يفتقر إلى الأدلة الداعمة والحجج الناهضة.وتتضح هذه الحقيقة متى أدركنا، نشدان هذه الفكرية لا روحنة و"أشرقة " الإنسان فقط بل روحنة "وأشرقة "العالم بأكمله .
( ومع تضييق الخناق على هذا "الدين الجديد" لجأ أصحابه إلى المقاومة السلبية، فعمدوا إلى نشر قيم الزهد والتنسك والعبادة والإعراض عن الدنيا والإمساك عن الزواج الخ، هادفين إلى إيقاع الدولة في أزمة اقتصادية لا تجد معها مالا ولا رجالا لتمويل وتعزيز جيشها .وأمام اشتداد القمع على المانويين دخلوا السرية ونجحوا في إحكام تنظيمهم السري مما ضمن لهم الاستمرار والانتشار . )
(- محمد عابد الجابري- العقل الأخلاقي العربي-دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية –المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء- المغرب-الطبعة الثانية -2001-ص.161)
لقد استعارت المنانية من التراث البوذي، التعارض الأبدي بين الروح والمادة والقيمة التحريرية للممارسات التنسكية والقوة التنويرية للمعرفة "الإشراقية " واجتافت بهذه الاستعارة الكثير من علامات وأمارات ومبدعات الفكر الهندي .ومن هنا، فلا يمكن تفسير النظريات التأسيسية، بالإحالة على مواضعات تاريخية لا تفلح، مطلقا، في تعليل معيارية التنسك البرهماني ومرجعيته التاريخية النافذة .ويمكن إرجاع الفهم البراني السياسي-الفكراني للأنساق العرفانية الغنوصية، إلى رغبة شعورية أو لا شعورية في" تمنيع" المرجعية الذاتية الخاصة بالذات الثقافية-التراثية، وتحصينها ضد أية مساءلة نقدية عن مؤسسات الإبراهيمية وعن شرعية القول الإليادي بالثورة الإبراهيمية التأسيسية .ثمة انشغال بتثبيت الثقافات وإنكار ارتحال الرموز والحدوس والفرضيات والأخيلة، ونفي لانبناء التـأسيس على الاقتراض الرمزي غير المعلن وعلى التأويل القائم على جدلية الاستنساخ والنسخ .
تمكن صياغة هيرمينوطيقا نسقية للمقدس المانوي، من استكشاف المواقع والتصاميم الغنوصية، للمانوية، ولمثالها الإنساني المتمثل في تحقيق الإنسان الكامل، أي الإنسان الغنوصي المترفع عن الانشغالات والأشغال الدنيائية والمرتفع، بالعرفان، إلى جنان الأقاليم النورية .كما تمكن من سبرالإيطيقا المانوية، الموغلة في التخلي عن المباهج وعن المسرات واللذائذ، وفي الطهرانية واللاعنفية واللاجنسانية وفي الالتزام بنظرية "الخواتيم الثلاثة " أي ختم الفم واليد والقلب وإتباع ما يوافق صليب النور .
(كان أول نقيض أفرزته سياسة أردشير الاستبدادية، المتمثلة في الجمع بين " حراسة الدين وسياسة الدنيا "، ظهور المانوية، نسبة إلى ماني أومانيوس الولود (كذا) سنة 215ه الذي عاصر حركة أردشير لجمع النصوص الدينية وتوحيد رجال الدين من حوله، مما حرك لديه الطموح إلى إنشاء دين جديد يجمع بين تعاليم الزراديشتية والبوذية ويعتمد الغنوصية، فأعلن أنه الفارقليط الذي ينسب إلى النبي عيسى إنه قال عنه أنه سيتجسد فيه . )
(- محمد عابد الجابري- العقل الأخلاقي العربي-دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية –المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء- المغرب-الطبعة الثانية -2001-ص.161)
من المحقق أن الإيطيقا المانوية، تتصادى كثيرا مع الإيطيقا البوذية، المرتكزة على السلب والانفصال والتجرد والإلغاء .dé-création الأخلاقي وعلى إزالة الخلق
ومن البديهي، أن تميل الإيطيقا المانوية، إلى اللاجنسانية، وإلى الطهرانية التامة، وإلى البتولية القصوى ؛فمادام المانوي، يتوق إلى الانعتاق من سجف الجسد والمادة والظلام ولا يرى للإنسانية أي دور في إكمال مسارات التاريخ أو أداء الشهادة، فإنه سيرى في الانقطاع عن التلذذ الجنساني وعن التكاثر، إحدى العلامات الدالة على التطهر والخلاص الروحيين .فالصديقيون مطالبون، إذن، بإيقاف التدفق الكاووسي للمادة الفاسدة، لزوما وماهية، وبتحقيق الإنسان الكامل، المتعالي عن التعلق الشهواني أو الغرائزي بالجنس الآخر .
لا الاكتمال إلا بقطع أواصر التعلق، واحتواء الشهوات والرغبات والغرائز، وإتقان "الخيمياء الداخلية "و ترويض النفس على التجاوب مع الزمن الآتي : زمان انفصال المادة عن النور .
وكما استوحت المانوية تقاليد الرهبانيات البرهمانية والجينة والبوذية والمسيحية، فإنها وفرت منابع، مازالت الفرق والملل والنحل، تمتاح منها، رغم انقطاع السند المرجعي أحيانا كما في حالة الطائفة الحمة سورية الكردية.
(وأكثر ما يدعو إلى الدهشة في الطائفة الحمة سورية هو اشتراكهم في قطع التناسل البشري ؛ إذ يحرم على نسائهم الإنجاب، فيما يحرم على رجالهم التبرم من عدم إنجاب النساء، وذلك على عكس بقية الحقة العاديين من هذه الناحية( .....)
لكن الحقيقة ريما كانت شيئا آخر، إذ ليس الحقة سورية أول من تجنب الإنجاب . فالديانة المانوية التي ظهرت في غربي إيران حوالي القرن الثالث قبل (الأصح بعد ) الميلاد كانت تضم معتقدات تقول إن الوصول إلى الطهارة الروحية يستلزم إيقاف تكاثر المادة المتمثلة في الجسد الإنساني باعتباره منبع الخطايا و الآثام . )
(-سامي شورش – تنوع أكراد العراق ( مدخل إلى السياسة ) – أبواب – العدد 3شتاء 1995-ص.55-56) .
المانوي مطالب إذن بإحداث قطيعة كلية بين جسده وروحه، ليصل إلى مملكة النور ويذوب في أنوارها المتوهجة .لا بديل لتلك القطيعة، إلا العودة إلى الظلمة الجسدية، والمعاناة الوجودية، والتناسخ المسترسل في ليل الأزمنة البهيم، إلى أن يتمكن الكائن من التجوهر وإيقاف عجلة التقمصات .لا يمكن الانفلات من سطوة السمسارا والعالم الفينوميني، إلا بالتخلص من وهم الأنا ومن التعطش إلى المستقبل . ومن المحقق، أن البوذية، قد مدت عقيدة التناسخ البراهمانية بكثير من الإضافات والتعديلات الفلسفية والسيكولوجية، ونحت بها منحنيات إبستمولوجية وإيطيقية غير يسيرة الوقع .
(بوعينا بالتأثير الحقيقي لأفعالنا فينا و في الغير، يمكن إعادة توجيه أفعالنا الحاضرة، تدريجيا، نحو أهداف فاضلة وتحويل مسار المستقبل تاليا.
تتضمن إعادة التوجيه هذه مظهرين : التخلي عن الكارمات غير الملائمة وتنمية الكارمات الملائمة . و تسمى الكارمات الأخيرة، المتضمنة أفعال الجود والإحسان الخ، بالأفعال المستحقة للتقدير لأن مكافأتها اللاحقة ستكون عامل حياة سعيدة وحرة مما سيسهل المسير نحو اليقظة . ولكن لا تكفي مراكمة الأفعال المستحقة للتقدير. فلنيل التحرير، يجب تعضيدها ب الحكمة أو بالمعرفة العليا التي تمكن لوحدها من التحرر من الوجود المشروط أو السمسارا . لتحقيق هذا الهدف المزدوج، يجب على المتعبد أن يتوافر على ثلاث أدوات : التهذيب الإيطيقي والتأمل والحكمة . )
Philippe Cornu – Nos actes passés et présents contiennent en germe notre avenir – Le nouvel observateur –hors série n-50-avril-juin2003-page.81)
ومن البديهي، أن المانوية مدينة للنظريات التقمصية والتناسخية الهندية، وبالأخص لتأولها البوذي.إلا أنها لا تكتفي باستحياء الدفق الكارمي وطرق البوذية في التغلب عليه، بل طورت تلك المستوحيات واستزرعتها في نسق إنقاذي يتغذى من الماجريات المتداخلة للمؤثرات ومن المجرى الخاص بتكون المنانية وتعضي نسقها التصوري .فكما طورت البوذية النظريات التناسخية البراهمانية حين ربطت إعادة الولادة لا بالأنا بل بمجموع التكييفات والتشريطات الذهنية والبقايا الكارمية والعادات المستحكمة لدى الفرد، فإن المانوية أغنت تأول البوذية بفرضياتها الغنوصية وميولاتها القيامية وتوقها الهجاسي إلى استعادة الإثنينية الأصلية.
هذه تجليات دالة على تأثير البوذية خصوصا والفكر الهندي عموما في المانوية، وعلى نفوذية الأفكار النفاتية واختراقها لخصوصية السياقات التاريخية. وبما أن البوذية تتوق إلى تجاوز المعرفة التراكمية ومعانقة المعرفة الاختراقية، فإن المانوية نحت نفس المنحى إذ استلهمت عناصر من منابع شتى، وبلورت رؤية تركيبية، موغلة في التنسك ورفض التفاوض مع" ركام" الحقائق الصغرى لعالم المظاهر .