1. كلّ كلمة
لا أحد يدري
متى كلّ كلمة جاءت
كلّ كلمة تجيء..
متثاقلة
كسولة
تدبي كعقارب ساعة
لم يعد يعنيها الزّمن
ثمّ..فجأة
تنقر على أبواب الأمكنة
فتتردّد أصداؤها مثل ذبذبات كؤوس كريستال
في الرّوح الشفّافة
الكلمة..
إن جاءت
بلا موعد ولا أيّ وعد
في ثياب عاصفة لم ينج من هيجانها
إٍلاّ القليل
تطوّح بآخر غصن في آخر شجرة
تتعفّن عليها أمجاد لغات ذليلة
تخرج ذئاب المعاني من مخابئها
وتعدّها لعراك جديد
وإٍن جاءت أليفة
مضمّخة بعطر مواعيد مشتهاة
تبقى معلّقة كدمعة على خدّ رغبة مستحيلة
بعد أن أطالت التمسّح على أعتاب الحبسة
ومهانة نهاية النّبوءات
وإن.. وإن..
ولكن لا أحد يدري
كرمة الطّفولة التي تنضج حبّاتها
في فصول الذّكرى
مواقيت الموت المتدلّية في صباحات
نسياننا
الجنان التي تجري فيها أنهار
المتعة والخطيئة
كلّها تصرخ بحثا عن هواء
الكلمات.
2. كلمة أولى
أحيانا
من أجل أن نظفر بكلمة أولى
لمغادرة الصّمت
نمضي حياتنا في إعداد تفاصيل الرّحيل
أو في اجتياز امتحانات الفراق
حتّى الجسد كلّما ملّ هذا التّمرين
وأزفت ساعة تداعيه
نعلّقه بمسامير رغبة أخيرة
على شبابيك تلوّح منها
أردية حجيج العشق
البيضاء.
3. تمرين على التّحليل النّفسيّ
لأنّ لنا طفولة
نمضي اللّيل والنّهار نلاعبها
بأشكال عديدة
منّا من يخبّؤها كثمرة عزيزة المنال
في قشرة جوز قاسية
ويتذكّرها كلّما افتقد كلام العزاء
منّا من يظلّ يحوم حولها
طوال الوقت
مثل نحلة تبحث عن رحيق مستحيل
في زهور التّين الشّوكيّ
ومنّا من يضع يدها اللّينة على وجهه
كلّ ليلة
قبل أن ينام الشّعاع
ولأنّ لنا طفولة
نقضّي أجمل أوقاتنا
في كتابة أساطير عن أحلام الكبر
ونسير واثقين في موكب من الحقائق
التي نحبّها.. ثمّ نكرهها.. ثمّ نحبّها..
ثمّ..
فجأة
نتلقّى دعوة رسميّة أن نختفي
فلا يظلّ من الحكايات سوى بقايا
قشرة جوز
ويد ليّنة
ورحيق نكاد نذوق عسله
ونحن ننطفئ.
4. عريس
كلّ يوم أنتظر لقاء العمّة فاطمة
حين تفتح باب غرفتها
تهبّ من الزّوايا المبعثرة
روائح محبّبة
خلطة عجيبة من بقايا أطعمة قديمة
وبول وبخور
على صهوة ضحكاتها المهووسة
تحملني إلى بئر البيت
تدلّيني كعادتها من الفوهة المظلمة
لنواصل مغامرة البحث
عن عريسها الجنّي
في لحظات جنونها اللّذيذة
تقول أنّنا نراه
كسوته الأميريّة خضراء
مطرّزة بأعشاب الخزّ
حواجبه سوداء رقيقة مثل خيوط العنكبوت
وعلى صدره تتماوج مياه العشق
الصّافية
العمّة فاطمة التي هجرها زوجها لجسد جديد
تكاد تفلتني حين تستفيق ذكريات
متعتها المقبورة
هاربا مع خوفي
أراها من خلال غمامة دموعي
تحوم في أرجاء البيت
مع أسرار العائلة التي تخرج من أفواه الأجداد
كفراغات كلمات متقاطعة.
5. قصيدة لشجرة
شجرة الخرّوب
وحيدة في ساحة "حمّام الغزاز"
لا شيء حولها سوى بعض البيوت الخربة
تحدّق فيها منذ دهور
بعيون من غبار
فقط عندما نأتي بضجّة طفولتنا
يتمطّط جذعها المعمّر وينهض من غفوته
مثل أمّ أثقلتها ليالي حمل متكرّر
تضع مساحيق زينتها على عجل
تفرد أغصانها كخصلات أميرة الغابة المستيقظة
وتقبّلنا قبلة الصّباح
دماء عروقنا الرّقيقة تنشط
تجري مع قطط السّاحة
وترسم على جدران الخرائب
لهفة رغبتنا الأولى
قلوبنا التي أرقّ من رعشة الضّوء
تصدح بكلمات لا أحد سيخبر عنها غيرنا
أصابعنا تنحت لآلئ أشعار قادمة
وثمار متعتنا تصعد إلى غابات
السّماء
كم ليلة من ليالي الوحدة القادمة
في سنوات ترحالنا
ستزورنا شجرة الخروّب
ومثل أمّ حنون
ستفتح حدائق أحلامنا
لتنام فيها معانينا مثل دويبات سرّ
لا ترى
الكلمات
المعاني
الألعاب
لم تعد مثلما كانت عليه
بعد أن قطعوا شجرة الخرّوب.
6. مرافئ للغات
فقدنا أكثر سفننا
ولم نبلغ الشّاطئ بعد
غيلان البحر اقتلعت عيون البحّارة
وعلّقتها على السّاريات
كبوصلات عمياء
القراصنة، الذين جاؤوا من الشّرق والغرب على دفعات
هجموا مرّات عديدة بسيوف تلمع كالبروق
بقروا بطون الحوامل
وأخذوا الأجنّة إلى عراء التّيه
الأمواج المجنّحة
الأمواج الجامحة
تلاعبت بلا هوادة بعلامات الاتّجاه
ونحن ما زلنا نضع رسائل خوفنا وآمالنا المتبقّية
في زجاجات ونرسلها إلى قلوب شفّافة
هناك في آخر الأكوان
كلّ هذا لم يكن حربا
ولم يكن عاصفة
كان مجرّد حلم متكرّر
لشعوب عجيبة ما زالت تبحث عن مرفأ
للغاتها.