بلى، هذا يوم مختلف!
ثلاثة أعوام انقضت. كانت مجرد يوم واحد بذاته ، يوضع في الماكينة، فيتكسر علينا صباح لا بريق لشظاياه، وينزع فيربض ليل كوحش كفيف يلهث بصمت. لم نر امرأة ولا طفلاً ولا طيراً يلقي التحية بجناحيه المرفرفين، ورغم أن الزمن بات خدعة صغيرة مضجرة، فإن مشاهدي الأفلام في المستقبل سيجدون مشقة في تصديق أن المكان يمكن أن يكون مزدحماً بالذكور على هذا النحو. لكن ورغم أن الذكور ذكور مع وقف التنفيذ، فإن هذا اليوم مختلف ورائع حقاً. لا بل شبهه أحدهم ببداية التاريخ! فقد سمحوا بأن يصلنا طعام من مهاجع الأثرياء، الذين دأبنا على حسدهم والحقد عليهم لأن أهلهم يزورونهم. وما أعظم فرحتنا، حين تحلقنا حول القصعات، مثل ثيران على معالفها، والركبة على الركبة، لتناول طعام داخله نفس المرأة وطهي بيديها!. وفيما نحن منكبون نأكل بشهية جمال جائعة ونتمطق كأطفال يناكفون بعضهم بعضاً، والاستثارة تضيء عيوننا ووجوهنا، لمحت يد صديقي تمتد نحو القصعة بهدوء وبطء كأنه ينوي مباغتة شيء ما، ويخشى إن هو تصرف برعونة وتهور، أن يفر ويفلت منه، وفجأة، وقبل أن تنغمس أصابعه في الطعام، أطبقت إبهامه وسبابته على شيء لم أستطع رؤيته، ثم أخذ يرفع يده بحذر ودراية، حابساً نفسه، وكأنه يسحب حريته ويخشى أن تتقطع لهشاشتها. أصابت يده رجة خفيفة فتوقفت معلقة في هواء متجمد.
أخذ نفساً عميقاً وكأنه أنجز لتوه مهمة خطيرة، ثم نظر إلينا واحداً واحداً وفي عينيه فرح غامض، هتف من كل قلبه: "شعرة امرأة يا شباب! شعرة امرأة تعالوا انظروا!" قفزنا، بحركة لا إرادية، من فوق معالفنا وتزاحمنا عليه. صاح بنا بصوت يشوبه الامتعاض: "رويدكم يا شباب، بهدوء أرجوكم، أمسكوها بهدوء!".
كل واحد، وبدوره، مرّ على هذه الشعرة الطويلة السوداء المتموجة. أمسكها بأصابعه بحرص ورقة، كأنما هي جوهرته النادرة، وحدق فيها بعينين يشع منهما فرح غامض مع عتب رقيق يشوبه بتوسل غريزي. البعض شمها، كأنما يشم زهرة اختصته بها حبيبته، وتأوه بحركة مسرحية مبالغ فيها. البعض احتضنها كما يحتضن طيف زوجته الهارب، وقبلها بما تراكم على شفاهه من قبل مكدسة، بينما تظاهر الآخرون بحسده والغيرة منه. كنا جميعاً نضحك كأننا ضبطنا بالجرم المشهود، ولا مناص من الضحك كي نتحرر من خجلنا. أما من يستغرق وقتاً ويأخذه الحال فكان الآخرون يستحثونه متذمرين بشيء من الجدية ونفاد الصبر:
"خلصنا أبو صطيف، انتهى دورك!".
وبينما نحن غارقون في هذه المتعة الصغيرة الفاتنة، انفتح باب المهجع، أجارنا الله! فاخترقنا الصمت مثل رصاصة قاتلة.
قال المناوب وعيناه تقطران غضباً وسماً: "ماذا، أتحسبون أنفسكم في ملهى يا...؟! لم كل هذا الضحك والزعرنات؟".
اعتصمنا بالجمود وكأن أوهى حركة ستتسبب بكارثة. ولم تجرؤ كلمة واحدة على مناوشة الصمت. أما العيون فكانت جاحظة متوترة تلمع بخوف غريزي سحيق. استشاط غضباً: "إني أسألكم، لماذا كل هذه الفوضى؟".
وكأنه يصرخ في جدار تثقبه عيون تجمدت على الخوف والتوتر! "طيب! إما أن تجيبوا، أو أعاقب عشرة منكم".
تنحنح أحدنا وقال مع ابتسامة متكلفة: "وجدنا شعرة امرأة في الطعام".
يهوذا...يهوذا!
نظر إلينا المناوب وفي عينيه نظرة ماكرة متواطئة وعلى وجهه ابتسامة ساخرة ومتسامحة، كأنما عرف ماذا كنا نفعل: وأين هي؟
-في يد فلان..
-أحضرها إليّ ..
تقدم صاحبنا ويده مضمومة على مشاعرنا العميقة، قال وهو ينظر إلينا وكأنه يسألنا المغفرة: هذه هي!
أمسكها المناوب بين إبهامه وسبابته. نظر إلينا ساخراً، وشرع يقطعها وهو ينظر إلينا بتشف، نفض يده ليسقط آخر نتفة منها علقت بسببابته.
قال: ما أصغر عقولكم! ثم أغلق الباب وقفله بأربع طقات، وسمعنا خطواته تبتعد.
بلى، إنه يوم مختلف!