قبل بضعة أشهر كنت قد شرعت في كتابة نصوص. وضعت للنصوص جملها الأولى ولم أستطع الانتقال إلى الثانية. كنت أحسّ بأنه لن يكون بمستطاعي الكتابة مرّة أخرى. كان يبدو لي أنّ نهاية مسار الكتابة لديّ قد انتهى قبل أن يبدأ. حاولت أن أكتب غير أنني أحسست بأن الأفكار تتكرّر لديّ بشكل فاضح. ليس سهلا أن يكتب المرء دون أن يكرّر نفسه. التكرار في إنتاج الكاتب معيب وقاتل. نسقط في التكرار حين تنضب بئرنا السردية. ومن الطبيعي القول إنّ ما يخيف الكاتب أكثر هو نضوب هذه البئر بالضبط.
اليوم سعدت بفكرة العودة إلى تلك الجمل التي أبت أن تمدّني بشرارة الكتابة. فتحت الحاسوب. قرأت ما كنت قد كتبت. غيّرت الصفحة وفتحت أخرى. سجّلت ما يلي :
تكتب النصوص الجميلة دفعة واحدة ثم تنقّح.
في القصة ليس مهما أن تكتب عن موضوع ما. عن شيء ما، كيفما كان هذا الشيء. المهم أن تستنفر كلّ ما تمتلك من أدوات وعشق لتكتب. أن تترك للّغة حرية إلباسك ثم تعريتك.
في النصوص لا يمكن أن نتكلم عن النقاء والصفاء. هناك ما لا يحصى من نصوص حاضرة في كل نص نكتبه. لا تحضر النصوص بكل تفاصيلها ولكنها تحضر من خلال كلمة أو عبارة أو حتى من خلال الإيقاع الذي نختاره للنص.
النصوص كائنات مسافرة. جوّالة آفاق وأزمان.
ويوم الأحد استيقظت خفيفا. فكرت في الحلم الذي حلمته البارحة :
حلمت أن شخصا يحلم أنه قرّر السفر من الجنوب إلى الشمال بحثا عن فكرة لنص. يقوم الشخص الحالم بجمع ما سيحتاجه أثناء السفر. كتب متنوعة. حاسوب شخصي، صابون، فرشاة أسنان وحذاءان واسعان صيفيان. ثم يستقلّ الشخص القطار. وفي اللحظة التي تصفر فيها صفارة القطار إيذانا بالانطلاق استيقظت.
أدرت الحلم في رأسي جيدا. أعجبتني فكرته. تساءلت لم لا أكون ذلك الشخص الذي حلمته البارحة. ماذا سأخسر إن قررت إتباع حلم الشخص الذي حلمته ؟ لم لا أتبع حلمي بحثا عن نص يعيدني إلى عوالم السرد القصصي.؟
الخامسة صباحا من يوم الاثنين. أنا الآن في القطار تماما كما الشخص الذي حلمته. أنا مسافر لذلك لن أقوم بفتح أي من الكتب التي أحملها. بالمقصورة شابّان وأنا ثالثهما. كل منا متحصّن بغلالته. في المحطة الثالثة تلتحق بمقصورتنا فتاة تحمل حقيبتين ثقيلتين. يساعدها الشاب في رفع الحقيبتين إلى الرفّ المقابل لي. تشكره بالفرنسية. ليس للفتاة رائحة مميزة غير أنّ سروالها الدجين يظهر تشكيل النصف الأسفل لجسدها. تبدو الفتاة نشيطة ومفعمة بالحيوية والبشاشة. سرعان ما يملأ الكلام المقصورة. تقترح الشابة أن يحكي كل واحد عن شيء خبره أو قرأه أو سمع عنه. تعجبني الفكرة. في الحقيقة تمنيت لو كنت أنا المقترح. ولتسهيل الأمر تبدأ الفتاة في الحكي.
ما قالته الفتاة:
متحــــــــف
أود أن أحكي لكم عن متحف. المتحف غير معروف على نطاق واسع. بالصدفة تعرفت عليه. كنت في إطار زيارة عمل لإحدى المدارس بقرية بالجنوب. القلة القليلة التي تعرف المتحف لا تملك القدرة على تسويقه. تنجز المتاحف كما تعلمون للحفاظ على الذاكرة. الوسائل المادية التي تحتوي عليها المتاحف تعطينا فكرة عن طبيعة الحياة في الماضي. المتحف، أي متحف، مرتبط بالماضي وليس بالحاضر أو بالمستقبل. لو فكرنا في انجاز متحف خاص بالحاضر والمستقبل ماذا سنضع فيه؟ الوسائل التي نستعملها الآن ستصبح جزءا من الماضي وبالتالي سيجوز وضعها في المتحف الذي سينجز.
بالمتحف شخص غريب. سألت عنه فقالوا لي انه المسئول. اقتربت منه وسلمت عليه. كان في نهاية عقده الخامس. يدخن بشراهة نوعا من السجائر الرخيصة. يبدو من طريقة كلامه وهندامه أنه غير عابئ بالتغيرات التي تلف العالم. همه هو جمع ما لم يعد صالحا ووضعه في ركن ما من المتحف. كل وسيلة توضع في المتحف تصير لها حياة غير تلك الحياة التي كانت لها. الحياة الجديدة لوسائل المتحف مرتبطة بالزوار والشروح التي يقدمها المسئول. الحياة الأولى للوسيلة كانت مرتبطة بالاستعمال. يحفظ المسئول عن ظهر قلب أسماء محتويات التحف بالعربية والأمازيغية.
ما الذي توده من المتحف؟ قلت له
أريد أن يأتي المسئول الأول عن الجهة ليرى ما قمت به.
تعجبت للجواب. لم أعقب عليه. تركته يتحدث.
قال إنه استقرّ قرب هذه المدرسة منذ خمسة وعشرين سنة. ومذّاك لم يزره أحد. واستمر في الحكي أتذكر أنه حكى لي عن وضعيته وعن صراعاته مع الساكنة والمدرسين والمفتشين ثم عندما رآني غير معنية بشكل كبير بما يقول قدّم لي دفترا صغيرا. فتحه وطلب مني أن أقرأ. مررت عيني بسرعة على ما كتب وحينما انتهيت طلبت منه أن يسمح لي بنقل المكتوب. وبأمانة سأقرؤه عليكم:
" ترسلني أمي عند عمي الحسين لأشتري السكر والشاي. لا تعطيني أمي النقود بل فقط تطلب مني أن أقول له أن يسجل الثمن في الدفتر إلى أن يعود أبي. ليس لعمي الحسين رجلان واقفتان مثلنا. يتحرك دائما على ظهر حماره إلى السوق. كجحش صغير أنطلق نحو الدكان الذي يوجد بالقرب من دارنا. أصل إلى الباب. أجد عمي الحسين كولد صغير في يدي زوجته والحمار المسكين واقف ينتظر. أرى عمي الحسين يدخل وجهه في صدر زوجته التي تضحك. أتوقف. أنظر إليهما. ماذا يفعلان؟ لا أريد أن أتقدم نحوهما. أحس بالخجل لذلك أعود إلى الدار بلا سكر و شاي. اخبر أمي بما رأيت. تدير رأسها نحو الزريبة.
هيا، تقول لي اذهب عند خالتك وقل لها أن تعطيك قليلا من الشاي والسكر.
أنهيت النقل وخرجنا إلى الساحة. كانت هناك شجرة سدر كبيرة. مرّ عصفوران بشكل خاطف. لا بدّ وأنهما كانا في حالة تزاوج. يعميهما التزاوج عن رؤية ما يوجد أمامهما. اصطدم عصفور بالسدر فعلق هناك. لم أعرف إن كان ذكرا أم أنثى. رأيته يحاول الإفلات من شوك السدر لكن الشوك كان أقوى منه.
ما قاله الشاب الأول
لـــــــــــغز
كنت قد سافرت إلى إحدى القرى الشمالية التي كانت قبلة للكيف والحشيش في بداية الألفية الثالثة. هناك حكى لي الناس عن اختفاء غامض لعون سلطة. ستمرّ سنوات وينسى الموضوع عند الساكنة. من المؤكد أن أسرة المختفي قد تكون عادت لتتذكره بين الفينة والأخرى. لم يكن للزوجة من بدّ لإعالة أطفالها الثلاثة غير الخروج من الدار ومواجهة الحياة. هكذا شرعت في بيع الخبز في الأسواق. سيلتقط قاص أعرفه الفكرة ويكتب عن بائعة الخبز.
قبل أيام التقيت بنفس الصديق في احدي مقاهي العاصمة. تحدثنا كثيرا. فتحت جريدة وطنية ووجدت بالصدفة قصاصة خبر تتحدث عن نفس العون الذي كان قد اختفى بشكل غامض. الخبر يقول إنه تمّ العثور على قاتل العون. كيف قتل؟ هل تم إيجاد الجثة؟ طلب مني القاص أن نسافر إلى نفس القرية للبحث في الظهور المفاجئ للقاتل.
لم أتردد كثيرا في قبول الفكرة. هكذا حزمنا أمتعتنا وذهبنا إلى هناك. وبعد العودة أراني القاص ما كتب.
الموت راعي يقتات من رعيةِ سيدةٍ اسمها الحياة.
تعرف السيدة أن رعاياها فانون
لذلك تتركهم يمرحون
يحزنون
ويقتل بعضهم البعض.
ما قاله الشاب الثاني
سأحكي لكم شيئا غريبا وقع لي. في إحدى الليالي اقترح عليّ صديق لي أن نسرق الخروب. ولأنني كنت مبليا بالكيف فقد وافقت على الأمر. كانت شجرة الخروب توجد في المقبرة. ليلا انتقلنا إلى المقبرة. صعدنا الشجرة. وبينما نحن نجني الخروب سمعنا أنينا غريبا. استمر الأنين ونحن نجني ثمار الخروب. ولأننا كنا شابّين لا يخافان الخوف قرّرنا الوصول إلى مصدر الصوت. كنا نقترب من الصوت لكن كلما اقتربنا منه ابتعد. اتبعناه. اتبعناه حتى وصلنا إلى حافة الوادي الذي يحيط بالقرية. عند ذلك انقطعت أنفاسنا بينما علا الصوت الغريب واشتد. وحين رفعنا أيدينا لرمي الحجر على الصوت الآتي من عمق الوادي أحسسنا بقوة ما تمنعنا من الرمي. كان الوادي موحشا وصوت الحشرات الليلية يثير الرعب.
ماذا وقع لكما بعد ذلك، قالت الفتاة.
لم يقع لي شيء غير أن صديقي فارقه الصوت منذ تلك الليلة.
قــوْلي
هذا تمرين كتابي فقط. حاولت من خلاله أن أجيب على السؤال التالي:
هل يمكن لك أن تكتب نصا من فراغ؟
وبطريقتي الخاصة أجبت:
يمكن. ولكن.