بعد الهزائم المتتالية التي عاشتها المجتمعات العربية المتخلفة على مستوى الفكر والحياة ٬ انفجرت الأسئلة المحرقة ٬ بدءا بالنقد والنقد الذاتي ٬ والمراجعة للأطر والخلفيات والرؤى والمناهج التحليلية .
إعادة النظر هذه طالت اللغة ،التراث ،المفاهيم والقوالب الذهنية ٬ وجميع أشكال الممارسات٬ السياسية٬ الاجتماعية والثقافية . فظهرت كتابات أسسها الشك والتنقيب والتفكيك والحفر العميق فيما وراء البديهيات الجاهزة ٬ التي ترسخت بفعل النمطية والتكرار القهري المرضي ،المتلبس بالفكر الديني الاتكالي٬ الجبري والقدري . نقصد هنا كتابات الجابري ٬ العروي ٬ أركون وهشام جعيط …
وفي هذا السياق جاءت كتابات مصطفى حجازي باحثة عن التشكل التاريخي لنفسية التخلف كنوع من علم نفس التخلف هدفه الحفر النفسي عما وراء هذه النفسية٬ التي تتخذ الطابع الثابت، الجوهر والطبيعي منذ الأزل والى الأبد ٬ بعد هدر السياق الاجتماعي والشرط التاريخي “مما يجعل كل تصرف كل نزوة كل استغلال وتسلط مبررا كجزء من قانون الطبيعة”1.
و كأن الحياة خاضعة لإرادة عليا ٬ لها منطقها الاعتباطي الذي يخفي حكمة مجهولة تتجاوز العقل الإنساني العاجز القاصر ٬ عن إدراك معناها ودلالاتها العميقة “يبدو كأن الاستكانة والمهانة هي الطبيعة الأزلية لهذه الجماهير وهذا ما تحاول قوى التسلط على كل حال غرسه في نفسيتها”2 . و كأن قوانين طبيعية تخضع الاجتماعي التاريخي لمنطقها وسيطرتها ٬ وتحكمها في حياة الإنسان المتخلف.
فحجازي يبحث ويحفر في أعماق هذه النفسية ٬ مبينا تشكلاتها التاريخية وبنياتها العميقة ٬ التي تراكمت في شكل دوائر وطبقات أخذت معاني الخصوصية والهوية ،التقاليد والعادات ٬ متقمصة الشكل الطبيعي في اللغة ٬ اللباس، التفكير ،المعتقد ،التراتب المجتمعي وفي الثروة والفقر .“تفسير للكون من خلال التقاليد والبنى العلائقية والمرتبية الاجتماعية السائدة حتى ليبدو الأمر وكأنه الطبيعة الوحيدة للحياة . و أن كل مساس به هو مساس بقوانين الحياة التي لايجوز أن تمس”3 متبلورا من هذا كله المتخيل النفسي الاجتماعي الذي يعمل على إعادة إنتاج الحياة المجتمعية وأشكال الوعي التي تجعل القهر والتسلط يشوه الحياة والنفسية ويبرر منطقها في صورة الطبيعي مدمجا الإنسان من خلال التكرار القهري لعلاقة السيد العبد القانع ٬الخاضع ٬ القابل للأمر الواقع ٬ ولقوانين الاجتماعي التاريخي ٬ التي تتنكر بقناع الطبيعي متنصلة تلك العلاقة من المسؤولية والالتزام تجاه هذا المسخ والقهر والهدر لقيمة وكرامة وحياة الإنسان .
فيتكون عند الإنسان المقهور فهم وقناعة نفسية ٬ تجعله يقبل حياته كواقع طبيعي قدري مكتوب ومحسوم .“يحد الإنسان المقهور من طموحاته إذا. وذلك بان يتقبل مصيره أو يحاول أن يتقبل هذا المصير ويغرق في بؤسه الذي يتخذ عندها طابع القدر والنصيب اللذين ليس إلى تغييرهما من سبيل”4 .
بل يرى أن هذه الحياة تمثل خصوصيته وهويته التي يفكر ويرى من خلالها إلى نفسه كتميز ثقافي مجتمعي. الشيء الذي يجعله في أعماق نفسيته مستعدا للموت و المقاومة لكل أشكال التغيير. بما في ذلك الخطط التنموية والتحديث المجتمعي والتنوير الفكري .
“التمسك بالتقاليد يشكل اوالية دفاعية ضد قلق مجابهة المسؤولية الذاتية فهي بما يسبغ عليها من صفات القانون الطبيعي تتضمن تبريرا للعجز الذاتي عند الإنسان المقهور”5.
إن مهمة علم نفس التخلف هي إزالة هذه الثوابت والترسبات ، التي عمل القهر والتسلط على ترسيخها٬ بتطبيع النفسي الثقافي الاجتماعي ٬ إلى درجة تجعل الإنسان المتخلف يردد هكذا أنا أو هكذا نحن المصريين والتونسيين والسوريين واليمنيين …منذ الأزل والى الأبد . بلغة إيمانية يقينية وثوقية تقديسية ، مما يجعل من الصعب الحديث عن الاجتماعي التاريخي “غنى المتسلط وفقر الكادح عبارة عن قسمة طبيعية للأرزاق والمقامات لايجوز المساس بها وليس من سبيل سوى تقبلها والدفاع عنها”6 .
وهذا المتخيل النفسي الاجتماعي يشكل أكبر عقبة مقاومة لفعل التغيير والتطوير والتحديث ٬ خصوصا ونحن نعيش مرحلة الثورة وما تتطلبه من أدوات جديدة للرصد والتحليل ٬ قصد الفعل والبناء وتحقيق النقلة الحضارية ٬ التي تتجاوز مآزق نظرية للعلوم الإنسانية والاجتماعية العربية والغربية ٬التي فاجأتها الثورة وعرت وهم إيديولوجية نهاية التاريخ . إنه – المتخيل النفسي الاجتماعي - أشبه بقوة مادية فاعلة ومكرسة للتطبيع وإسقاط البعد الطبيعي الديني ،على التناقض والصراع و على جميع أشكال التفاوت الاجتماعي .
هذا يسهل على المتسلط الداخلي والخارجي السيطرة ٬ وديمومة الوضع الاجتماعي واستمرار الهيمنة من خلال ثبات البنيات النفسية ٬ كواقع طبيعي إيماني . إنه يقاوم التاريخ والتاريخية كالمريض نفسيا ٬ يصعب عليه الاقتراب من ذاته الحقيقية ٬ لهذا فهو يقاوم كل العلامات أو المؤشرات والتعبيرات والأفكار ٬ التي تحاول أن تكشف عن ذاته أو نواته الحقيقية7 .
فبفعل الزمن القهري الذي امتد وطال قرونا ، وجد نفسه مضطرا لتزوير تجربته الوجودية التاريخية ٬ من خلال إفلات لاوعيه منه وتحكمه في وعيه وإرادته . إن واقعه النفسي لا يجعله مطمئنا لوضعه وخنوعه ودونيته وعجزه فقط ٬ بل يعترف بحق السعادة والبطولة للمتسلط المستبد كحق طبيعي ." الطمأنينة التي تصاحب هذا القبول تنبع في الحقيقة، بالإضافة إلى سلاح الإيمان، من التحلل من المسؤولية الذاتية (…) اللاوعي يضع الإنسان أمام مسؤوليته باستمرار وهو يثقل كاهله بهذه المسؤولية دون رحمة أو مهادنة .
وتلك وضعية يصعب على الإنسان احتمالها لأنها تخل بتوازنه النفسي إخلالا عنيفا . فما يكون منه إلا أن يتهرب من مجابهتها بذاته وتحمل مسؤوليتها بإسقاط الأمر على إرادة عليا أو خفية أو وضعه على حساب قوانين الحياة "8 . هنا تكمن خطورة النفسي الاجتماعي كمتخيل ٬ تمثلات ، تصورات ، معتقدات و كنمط تفكير ورؤية للذات والعالم والمجتمع . خصوصا حين يصير نمطا وجوديا إيمانيا متعاليا عن التاريخ البشري ٬ يستحيل المس به أو التساؤل بشأنه ٬ لأنه حصيلة سطوة المقدس السياسي على الاجتماعي التاريخي . تتحول النفسية المتخلفة من نتيجة لشرط تاريخي اجتماعي ،إلى قاعدة مادية لإعادة إنتاج الحياة المجتمعية ٬ و إلى أطر نفسية ثقافية اجتماعية .
فرغم هشاشة أسسها وقيمتها المعرفية وخرافية وسحرية أدواتها التفكيرية و الاعتقادية ٬ إلا أنها تكتسب صلابتها كنفسية متخلفة ٬ من خلال إقصائها للتاريخ في نشأتها وتشكلها وتبلورها في أنماط تقليدية جمودية ٬ ذات خصائص جوهرية ثباتية و خصوصية مقدسة “ومن ذلك تحمل المغبونين بالصبر عن عقيدة فيها تحبيذ للقناعة والرضى بالمكتوب والمقدر والقسمة والنصيب عقيدة تدعو إلى القبول بالأمر الواقع على أنه طبيعة الأمور”9 .
فمصطفى حجازي يحاول اختراق هذه الطبقات النفسية كاشفا آليات تشكلها ٬ من مرحلة الرضوخ ٬ إلى مرحلة التمرد ٬ مرورا بالمرحلة الاضطهادية . معريا أسطورة الهوية ،الخصوصية ،التقاليد ٬العادات وكل أنماط التفكير الغيبية والخرافية و السحرية الماضوية ٬ التي تشكل عقبات ضد مصلحة الذات المتخلفة في التحرر ،من عجزها وقصورها ونقصها وانفعالها وتصلبها الذهني . فالمفكر يسعى إلى إنتاج معرفة علمية حول نفسية التخلف ،كشرط للتحرر والاستقلال في التفكير .“إن ما نهدف إليه هو كتابة نوع من المدخل إلى علم نفس التخلف وإسهامه الغني جدا بالنتائج التي تكمل الدراسات الاجتماعية والاقتصادية لهذه الظاهرة” 10.
ينقد المتخيل النفسي الاجتماعي كتمثل ونسق تصوري داخلي . أي البحث في الشروط الذاتية للخنوع و الخضوع لسيطرة المتسلط ٬وذلك لتحرير سيكولوجية المقهور من اسر العبودية المختارة . إن نقد الذات أو معركة الذات ضد الذات هي السبيل لمعرفة عميقة بالذات ٬ “المجتمع الذي يرمي إلى تغيير ذاته لا يستطيع النجاح في هذه العملية دون أن ينفذ أولا إلى عملية معرفة الذات . فالمعرفة الذاتية هي الشرط الأساسي للتغيير الذاتي في الفرد كما في المجتمع .”11
فالإنسان المقهور سيكون بذلك قد أنتج معرفة موضوعية عن ذاته ٬ “فحياة الإنسان المتخلف تنتظم في وحدة قابلة للفهم جدليا وحدة لها تاريخها ومسيرتها رغم ما يبدو عليها من سكون ظاهري يسبغه تحكم التقليد وما يفرضه من جمود في المجتمع”12 . هذا السكون يكرس تطور البنية الاجتماعية السائدة وفق زمانها البنيوي البطيء الذي يعيد إنتاج نفس الواقع المعاش في شكل تاريخي دائري تكراري على حد تعبير مهدي عامل في كتابه في “التناقض” ٬ وليس صدفة أن تكون سلوكات وتصرفات الإنسان في مجتمعاتنا لها بعد مرض الوسواس القهري . وستشتد الحاجة اليوم بفعل هذا النهوض الشعبي٬ إلى ضرورة الحضور القوي في مجتمعاتنا لعلم النفس والتحليل النفسي ٬كدعم موضوعي لسيرورة التغيير٬ وكسند معنوي ثقافي لمعرفة الذات .