إهداء المترجم:
إلى جميع التّراجم،
وإلى لغة الضاد،
إلى عشّاقها، عاربةً ومستعربين !
“يا يحيى خذ الكتاب بقوّة” !
قرآن، مريم، 12.
„ Sage mir, was du vom Übersetzen hältst, und ich sage dir, wer du bist.“
“قل لي ما موقفك من الّترجمة، وأنا أقول لك من تكون.”
هيدغر (1942)
1. ماذا نترجم ؟ أو أيّ كتاب هو “الكينونة والزّمان” ؟
لقد نبّه تيودور كيسيال، أكبر مؤرّخي إشكاليّة الكينونة والزّمان1 ومصطلحه في العالم، إلى العلاقة الوطيدة التي تربط بين “التّرجمة” و“النّشر”(Edition)2 حين يتعلّق الأمر بنصوص هيدغر. إذ لا ينقل المترجم في واقع الأمر غير نشرة معيّنة. صحيح أنّ كيسيال قد سحب فرضيّته بالأساس على برنامج “الطبعة الكاملة”،3 خاصة في جزئها المتعلّق بنشر “دروس” هيدغر أوّلا في فرايبورغ (1919-1923) ثمّ في ماربورغ (1923-1928)، تلك التي وفّرت لنا صيغا جنينيّة مختلفة ومتدرّجة لإشكاليّة كتاب 1927 ومصطلحاته الأساسيّة، لكنّها فرضيّة لا تقلّ وجاهة فيما يتعلّق بالنصّ الأعجوبة ليس في التاريخ الشخصي للمؤلف مارتن هيدغر، بل في أفق الفلسفة المعاصرة برمّتها، نعني نصّ الكينونة والزّمان، والذي يبدو في الظّاهر بعيدا عن أن يكون موضع اختلاف بين المترجمين، مادام هيدغر نفسه هو الذي نشره وأعاد نشره مرّات عديدة بلغت في حياته ثلاث عشرة نشرة (1927-1976). وعلى ذلك فإنّ ما لاحظه كيسيال من تعدّد وتعقّد في النّصوص التي ظهرت في نطاق “الطّبعة الكاملة”، أفضى إلى غموض وتردّد في طريقة إنجاز تلك الطّبعة بل وإلى ارتباك واضح لم تسلم معه من الأخطاء في التّحقيق،1 هو أمر ينطبق بشكل لافت على وضعيّة كتاب 1927.
لقد تدرّج شعار “الطّبعة الكاملة”، التي أخذت في العمل منذ 1975، من تقديم نشرة غير نقدية وإنّما فقط “طبعة مقروءة للأعمال”(eine lesbare Werkausgabe)، إلى “طبعة اللمسة الأخيرة” (Ausgabe letzter Hand)، و“دروب – لا مؤلفات” (Wege- nicht Werke) و“نشرة دون تأويل” (Edition ohne Interpretation). فماذا يفعل المترجم إزاء هذه الشعارات، هو من يقف عمله بعين الضدّ من الشعار القائل “دروب – لا مؤلفات” - إذ عليه أن يقول بدلا من ذلك “مؤلفات –لا دروب”، حتى لا يقدّم لنا نُقُولاً “حرّة” وحتى يستطيع القارئ أن يشعر بأنّ النصوص المقدّمة إليه هي “دروب- وليست مؤلفات”-؛ وبعين الضدّ من الشّعار القائل “نشر دون تأويل”، والحال أنّ “التّرجمة” هي بعدُ، حسب تعاليم هيدغر نفسه، “تأويل”5 ؟
لقد تبيّن، بعد عمل فيلولوجي نقدي هائل قام به مختصّون،6 أنّ الكينونة والزّمان كتاب لا ينفصل عن تاريخه، سواء أكان ذلك من حيث النّشرات والطّبعات التي تداولت عليه أو من حيث التّنقيحات العديدة التي أُجريت على عبارته.
فمنذ ظهوره لأوّل مرّة في فيفري 1927، ضمن المجلّد الثّامن من حوليّات هوسرل،7 عرف كتاب الكينونة والزّمان طبعات عديدة لدى ناشر واحد هو ماكس نيماير في توبنغن، بلغت الطّبعة الثّالثة عشرة في سبتمبر 1976. ثمّ أعيد طبعه، بُعيد موت المؤلف، الطبعة الرّابعة عشرة في دار نيماير في توبنغن في أكتوبر 1977، وقد ظهرت في الأثناء نشرة جديدة للكتاب باعتباره المجلّد الثّاني من “الطبعة الكاملة” في دار كلوسترمان في فرنكفورت.8 وتتالت الطبعات حتى وصلت راهنا في دار نيماير إلى الطبعة التّاسعة عشرة سنة 2006.
لكنّ ما يثير حفيظة المترجم ويجعله على قلق، ليس عدد الطبعات بل أنّ الكينونة والزّمان ما فتئ طيلة هذه السنون يغيّر من نفسه ويُنقَّح من عبارته هنا وهناك، حتّى صار السّؤال المتعلّق بأيّ النّشرات يجدر به أن يتّخذ سندا،9 ليس فقط سؤالا مشروعا بل سؤالا يعسر حسمه دون قرار نقدي أو تأويلي. وحسب الباحثَيْن الفيلولوجيين باسط (Bast) ودلفوس (Delfosse) فإنّ طبعات الكينونة والزّمان يمكن توزيعها إلى أربعة أصناف:
أ- طبعات نيماير 1-6 (1927-1949)؛
ب- طبعات نيماير 7-13 (1953-1976)
ت- طبعة نيماير 14 (1977)؛
ث- طبعة كلوسرمان أو المجلّد 2 من “الطبعة الكاملة” (1976).10
وهو تقسيم يكمن مغزاه في كون هذه الأصناف تتميّز عن بعضها البعض سواء من حيث عدد التّحويرات التي أجريت على النصّ أو من حيث وتيرتها. وإنّ عدد التّحويرات التي لحقت بالنصّ في كلّ طبعة لمثير: مثلا، إنّ الطبعة 7 تختلف عن الطبعة 6 في 480 موضعا11 ! وهو أمر لن تخلو منه لا الطبعة 14 ولا المجلد 2 من الطبعة الكاملة، حيث أنّ هذه الأخيرة قد شهدت تغييرات عن الطّبعة 13 يصل إحصاؤها إلى حوالي 300 موضع12 ، كما أنّها تفارق الطبعة 14 في 74 موضعا13 رغم أنّ فون هرمان (von Hermann )، مهندس “الطبعة الكاملة”، هو الذي قام بهما.
وهكذا صار علينا أن نسأل: أيّ كتاب هو “الكينونة والزّمان” ؟ أعني أيّة طبعة هي الطبعة المناسبة لنقل معاني هذا الكتاب الفلسفي الذي ملأ الدّنيا وشغل النّاس ؟
لنستمع إلى رأي هيدغر الذي أدلى به في التّقديم “الوحيد” الذي نملكه عن النّشرات اللاحقة لكتاب الكينونة والزّمان، نعني تقديم الطبعة السّابعة التي صدرت سنة 1953 :
قال : “إنّ الطّبعة الجديدة التي نقدّمها بوصفها النّشرة السّابعة، هي من حيث النصّ لم تشهد أيّ تغيير، وإن كانت من حيث الشّواهد والتّنقيط قد رُوجِعت على نحو جديد. وإنّ أرقام الصّفحات في هذه الطّبعة الجديدة إنّما تتطابق مع تلك التي في النّشرات الأولى، ما عدا بعض من الاختلافات جدُّ قليلة.
أمّا الإشارة إلى”الجزء الأوّل“، التي كانت مثبتة على النّشرات التي ظهرت إلى حدّ الآن، فقد تمّ حذفها. فإنّ الجزء الثاني لا يمكن أن ينضاف بعد ربع قرن، من دون أن يُعرَض الجزء الأوّل في هيئة جديدة. غير أنّ الطريق التي أخذها مازالت اليوم أيضا من أوجب الطرق علينا، متى كان يجب على السؤال عن الكينونة أن يحرّك الدازين الذي يخصّنا.”14
ليس أقلّ ميزات “مقدّمة الطبعة السّابعة” هذه كونها “المقدّمة” الوحيدة في تاريخ الكتاب، وهو ما حدا بناشري الكتاب، بعد موت المؤلّف سنة 1976، سواء في إطار “الطبعة الكاملة”، أو في دار نيماير، إلى إثباتها فاتحةً لازمة لكلّ نشرة. وبما أنّ هيدغر ينبّه بصريح العبارة إلى أنّ الكتاب “لم يشهد أيّ تغيير” يُذكر و“أنّ أرقام الصفحات” في الطبعات اللاحقة هي على الأغلب “تتطابق مع أرقام النشرة الأولى”، فإنّ ذلك يعني إلى حدّ كبير أنّ الوضع التّأويلي للكتاب لم يتغيّر منذ 1927.
إلاّ أنّ ذلك لا يمنع من هكذا تساؤل: من جهة، كيف نفسّر هذا العدد الهائل من التّحويرات التي أُجريت على نصّ 1927، والتي استمرّت في الظهور حتى “بعد” موت المؤلّف سنة 1976 ؟ ومن جهة، ألا تنطوي تلك التحويرات على قرارات تأويلية “غريبة” عن أفق الفهم الذي تبلورت داخله إشكالية “الأنطولوجيا الأساسية” ؟
إنّ السؤال المزعج هو: إلى أيّ حدّ يمكن الاطمئنان إلى التّحويرات اللاحقة على طبعة 1927 في فهم كتاب الكينونة والزّمان ؟ أليست تحويرات تنتمي رغم كلّ شيء إلى أطوار تأويليّة “أخرى” من مسيرة هيدغر ؟ إذْ ما عدا الطبعة الثّانية الصادرة سنة 1929، فإنّ كتاب الكينونة والزّمان قد صار منذ طبعته الثّالثة سنة 1931 ضيفا مريبا على حدث “المنعرج” المرير والمعقّد من إشكاليّة “الأنطولوجيا الأساسيّة” إلى إشكاليّة “تاريخ الكينونة”، وهو منعرج سيقود هيدغر “الثاني” (بدءًا من 1930)15 إلى كتابه الأكبر “الثاني” الذي عمل على موادّه ما بين 1936 و1938، تحت عنوان مزدوج إسهامات في الفلسفة (عن الملكوت).16 ربّ كتاب هو الدستور السرّي لكلّ أبحاث هيدغر “الثّاني” حتّى ندوة زيهرنغن (Zähringen) في سبتمبر 1973.
صحيح أنّ قوائم “الأخطاء المطبعيّة” التي أثبتها الباحثان الفيلولوجيان باسط (Bast) ودلفوس (Delfosse)17 هي على الأرجح في شطر كبير منها لا تهمّ القارئ العربي في شيء، لأنّها تتعلّق باختلافات في رسم الألفاظ الألمانية18 أو في التّنقيط.19 وذلك فضلا عن أنّ الطبعات اللاحقة هي نفسها لا تخلو من أخطاء لم تكن موجودة في الطبعة الأولى20 ! كما أنّ الطّبعة الرّابعة عشرة التي اعتُمدت في إعداد الطبعة الكاملة هي نفسها تنطوي على أخطاء مطبعية.21
غير أنّه حقيق علينا أن نعرف أيضا أنّ هكذا أخطاء مطبعيّة لم تكن في بعض الأحيان هيّنة بل كانت لتصيب من الأمر المفكّر فيه مقتلا،- ونحن نكتفي بالإشارة إلى بعض التّصحيف الذي أصاب الطّبعة أو الطّبعات الأولى والذي تمّ إصلاحه في الطّبعات اللاّحقة.
مثلا أنّه علينا أن نقرأ “Unkenntnis”-عدم-المعرفة عوضا عن “Erkenntnis” –المعرفة (ص 36)، أو “Vorhandenheit” –القيمومة، عوضا عن “Zuhandenheit”-الكينونة-تحت-اليد (ص76) أو “zeigt”- بيّن وأشار، عوضا عن “zeitigt”-زمّن (ص122)، علاوة على مواضع تتعلّق بنقلٍ للمعنى من الإثبات إلى النّفي والعكس (ص 125، 390)… -ومواضع أخرى ينطمس فيها المعنى الوجوداني، مثل إثبات “Entfernen” –الإبعاد، عوضا عن “Ent-fernen” - إزالة البعد أو التقريب (ص105،السطر 21)-، وذلك يعني أنّ الأخطاء الاصطلاحيّة، على قلّتها، ليست باليسر الذي وصفه المترجم الفرنسي مارتينو.22 إذ المسألة تتعلّق بخلط بين مصطلحات لها دلالات جدّ خطيرة في فهم إشكاليّة النصّ. ولو أخذنا مثالا واحدا مثل الفرق بين “Vorhandenheit” (القيمومة في الأعيان)، أي كينونة الكائن الذي من شأنه أن يصبح موضوعا للسّلوك النّظري في العلوم، و“Zuhandenheit” (الكينونة-تحت-اليد)، أي كينونة الأدوات التي نتعامل بها في العالم اليومي الذي يشغلنا لأوّل وهلة،- لتبيّن جسامة الخلط الاصطلاحي الذي وقع فيه القرّاء الأول لكتاب الكينونة والزّمان من الطّبعة 1 (1927) إلى الطّبعة 6 (1949) !
- من أجل كلّ ذلك فإنّ اعتماد الطّبعة التّاسعة عشرة والأخيرة لكتاب الكينونة والزّمان، التي صدرت عن دار نيماير سنة 2006، هو اليوم من أفضل ما يمكن أن يفعله المترجم من التحوّط النّقدي والفنّي في أمر الطّبعات المعتمدة لهذا الكتاب العمدة في الفلسفة الغربيّة المعاصرة. إذ توفّر هذه الطّبعة الهيئة المتّفق عليها اليوم في تخريج عبارة هذا الكتاب، ومن ثمّ هي الأكثر أمانة في ضبط دلالاته والأحرص على تحقيق فهم دقيق لمسائله ومقاصده.
ولكن هل أنّ “لغة” هيدغر قابلة للتّرجمة بعامّة؟ أعلى الأقلّ كيف يكون علينا أن نواجه هكذا مشكلة ؟
2. هل أنّ “لغة هيدغر” قابلة للتّرجمة أصلا ؟ أو في ضرورة التّرجمة
ثمّة شعور ينتاب المشتغلين بالفلسفة مفاده أنّ بعض الفلاسفة لا يُترجمون، أو أنّ بعض النّصوص الفلسفيّة هي مستحيلة التّرجمة. وهيدغر هو في الغالب من يقع على رأس هذه القائمة، كأنّ “لغة هيدغر” قد صارت لغة “داخل اللّغة الألمانيّة”23 نفسها.
بل قد بلغ الأمر بأحد الباحثين الأنغلوسكسونيين إلى الدفاع أصلاً عن نظرية منهجية “في عدم قابليّة الفلسفة الألمانيّة للتّرجمة”24 ! حيث نبّه إلى أنّ ثمّة رأيا منتشرا بين الفلاسفة التّحليليّين مفاده أنّ “النّصوص الكلاسيكيّة للفلسفة الألمانيّة هي غير قابلة للتّرجمة إلى الانجليزيّة. وهذا الرّأي يُسحَب مثلاً على فيشته، شيلنغ، هيغل (…)، هامان، دلتاي، هيدغر، أدورنو وبلوخ، ولكن أيضا على فلاسفة غير ألمان من قبيل لوكاتش، ألتوسير ودريدا، من حيث هم في ارتباط وثيق مع التّراث الألماني”.25
ولكن بأيّ معنى ؟
علينا ألاّ نخلط بين “عدم قابليّة التّرجمة” (Nichtübersetzbarkeit) وبين “عدم إمكانيّة الفهم” (Unverständlichkeit).26 إنّ الأمر يتعلّق بالنصّ وليس بالقارئ. وما يُلام على نصّ هيدغر أمران:
أ- أنّ “عنصر المفعول الخطابي” فيه كبير ومؤثّر.
ب- أنّ فيه شبها قويّا مع أسلوب “الهَدْي الدّيني”(religiöse Bekehrung).27 وذلك من شأنه أن يضفي عليه “طابعا هرمسيا”.28 وإذا كانت الفلسفة الألمانيّة هي “من خلال الثّقافة الألمانيّة برمّتها في ترابط مع تطوّر الشّعور القوميّ الألمانيّ ومع الأمّة الألمانيّة ذاتها”، فإنّ هيدغر إنّما “في أعقاب هذه الفلسفة الجرمانيّة (Philosophiae Germaniae) هو قد ابتدع فلسفته”.29 وهذه الفلسفة تتميّز في الأساس بأنّها “نتاج جامعات” (على عكس الوضع في فرنسا أو انجلترا حيث تأتّت الفلسفة من ضرب من “مقاومة” سلطة الجامعات)، وأنّ “اللغة الأمّ للفلسفة ذاتها” قد توطّدت في وقت سيطرت فيه “قوى ثقافيّة من نوع دينيّ وسياسيّ” (على خلاف الفلسفة الانجليزيّة حيث ظلّ النّموذج هو العلم الحديث).30
هل يعني ذلك أنّ الفلسفة الألمانيّة، وفلسفة هيدغر بخاصة، فلسفة لم تفلح في التّوفّر على “مطلب الكونيّة”؟ ليس من الصّعب أن يتراءى لنا من وراء أطروحة “عدم قابليّة هيدغر للتّرجمة” التي عرضنا لها تشكيك كارناب على كلام هيدغر في “العدم” بوصفه “مشكلا كاذبا” لا يصمد أمام التّحليل المنطقيّ للغة31 ، أو اعتراض هابرماس الأوّل ضدّ “تأويليّة” غادمير، بكونها لا تنطوي على “صلاحيّة كليّة” كالتي يحقّقها العقل “التّحليلي”.
علينا أن نقرّ إذن بأنّ “الترجمة الفلسفيّة” بعامّة، وترجمة هيدغر بخاصّة هي “مغامرة”. فمع نصوصه نحن نعيش بالفعل ما سمّاه بعض دارسيه “مغامرة التّرجمة” (das Abenteuer des Übersetzens)32 بإطلاق. في المغامرة نحن نذهب إلى “أرض مجهولة”، لكنّ “المجهول هنا ليس هو رغم كلّ شيء النصّ، الذي نطمع في ترجمته، بل على العكس من ذلك لغتنا الخاصّة. إنّ مغامرة التّرجمة إنّما تغامر في صلب لغتنا الخاصة”33 . وذلك لأنّ التّرجمة هي مدعاة إلى تغيير علاقتنا بماهيّة لغتنا، أي بطريقتنا في الكلام بما هو طريقتنا في الكينونة داخل العالم. ولذلك تنطوي التّرجمة على قدر كبير من “المباغتة” ( Überraschung) التي من شأنها أن تضع الدازين الخاصّ بنا موضع خطر.34
لكنّ ما يعسّر مهمّة ترجمة نصوص هيدغر بخاصّة هو أنّ فلسفته متواشجة بشكل فظيع مع اللغة، ليس فقط مع لغته الألمانية أو، إلى حدّ ما، مع اللّغة اليونانيّة، بل مع اللّغة بما هي كذلك. إنّ اللّغة الفلسفيّة ليست “أداة” نستعملها دون أيّ اشتباك روحي معها، بل هي “الوسط” أو “الميدان” الذي ينبسط فيه معنى الكينونة بالنسبة إلى دازين معيّن. ولذلك فحين نترجم نحن لا ننقل جملة من المعاني المجرّدة بواسطة جملة من الألفاظ المناسبة، بل نحن نعمل على تملّك وسط “تاريخاني” (أفق للفهم، شكل ما للمصير، عالم من المعنى،…) من خلاله يتحرّر أمامنا تراث ما ويخرج إلى اللّغة مرّة أخرى.
من أجل ذلك ليست التّرجمة تقنيّة آليّة لنقل المعاني، بل “هي مطيّة من خلالها يفسّر النّص الأصليّ نفسه. فإنّ النصّ الأصلي لا يتكلّم في لغته الخاصّة فحسب، بل هو يتكلّم أيضا عبر التّرجمة. بهذا المعنى فإنّ التّرجمات ضروريّة للنصّ الأصليّ، بل هي تنتمي إليه. إنّها بُعده الكوني. فأيّ نصّ إنّما يصبح كونيّا حقّا، أي يتكلّم لجميع البشر في كلّ العصور، بقدر ما يكون مترجَما في اللغات العديدة”.35 ولكن ما “معنى” أن نترجم ؟
3. ما معنى أن نترجم ؟ أو التّرجمة الفلسفيّة وراثة المعاني من الدّاخل ولكن في لغة أخرى
تكمن طرافة علاقة هيدغر بالتّرجمة في كونه أحد القلائل الذين رفعوا مهمّة التّرجمة إلى رتبة مشكل فلسفي قائم برأسه. ونحن نعثر لدى فون هرمان، الذي ارتضى هيدغر الأخير أن يجعله مهندس الطّبعة الكاملة والأمين الأكبر عليها وأحد شرّاحه الألمان الكبار، على استجماع طريف لدلالة “التّرجمة من حيث هي مشكل فلسفي”.36
إنّ ما هو إشكاليّ في التّرجمة الفلسفيّة هو كونها تتخطّى مهنة التّرجمة بالمعنى التقني. إنّها لا تنقل معاني مستقرّة لدى أهلها، سواء على صعيد اللّغة العاديّة التي يتكلّمها شعب ما، أو على مستوى الاصطلاح العلمي وما شابهه، مثل الوثيقة القانونيّة أو المادّة الإعلاميّة. إذ ليست المفاهيم الفلسفيّة مجرّد مصطلحات كما أنّها ليست محض ألفاظ عاديّة. إنّها بالتّحديد مفاهيم، أي قرارات مفكّرة يمتحنها الإنسان بلغته في أفق تاريخ تأويلي معيّن لذاته من حيث هو كينونة في العالم.
بذلك فإنّ ماهيّة التّرجمة في تواشج سابق مع ماهيّة اللّغة وماهيّة التّاريخ الذي يتحرّك المترجم في أفقه.37 – بهذا المعنى خاض هيدغر نفسه في ماهيّة التّرجمة على الأخصّ في ثلاثة مواضع من مدوّنته التي نشرها:
أ- في مقالة “كلمة أنكسيمندر” (1946) من مجموع شعاب38 ؛ ب- في الدّرس الثّاني من ما معنى أن نفكّر؟ في سداسي صيف 1952،39 ج- ضمن درس مبدأ العلّة في سداسي شتاء 1955/1956.40 لكنّ دروسه، التي نشرت بعد موته، لم تخل هي أيضا من خطرات عميقة في ماهيّة التّرجمة، نذكر منها مثلا درس صيف 1942 عن هولدرلين،41 ودرس شتاء 1942/1943 عن برمنيدس،42 ودرس صيف 1943 عن هرقليدس.43
لقد امتحن هيدغر ماهيّة التّرجمة من خلال ما عقده دوماً من “ترجمة مفكّرة”(denkende Übersetzung) من اليونانيّة واللاتينيّة-الرّومانيّة إلى اللّغة الألمانيّة؛ وحسب فون هرمان قد كان لنا في هيدغر–المترجم أسوة حسنة، على المترجمين أن يقتبسوا منها، وذلك ليس فقط متى نقلوا من الألمانيّة إلى اللّغات الأوروبيّة بل أيضا متى ترجموا إلى اللّغات الخارجة عن أوروبا.44 هاهنا هو قد كشف عن بعض شروط التّرجمة الفلسفيّة الأصيلة علينا الوقوف عندها.
وعلى الرّغم من أنّ هيدغر لم يتعرّض إلى عبارة “الترجمة” في نصّ الكينونة والزّمان إلاّ قليلا (أربع مرات)، فإنّه قد أشار إلى الخطر الحقيقي لكلّ ترجمة: أن تكون “ترجمة حرفية” (wörtliche Übersetzung) فَتُوهمنا بأنّها “ترجمة مشروعة” (rechtmäßige Übersetzung)،45 والحال أنّ وظيفتها قد تنحصر في “أن تحجب المعنى” الذي رآه المتفلسف الأصلي في لغته الأصليّة، كما تفعل لفظة “Wahrheit” إزاء “Âl®jeia”.46
إنّ أوّل شرط جوهريّ للتّرجمة حسب هيدغر هو أنّ : “كلّ ترجمة إنّما هي بعدُ في ذاتها ضرب من التّفسير (Auslegung) [..]فالتّفسير والتّرجمة هما من حيث نواتهما الجوهريّة صنوان”.47 فلا يمكن لأيّ أثر أن يُترجَم إلاّ بقدر ما يُفسَّر، أي بقدر ما يُتملَّك فهماً ضمن تفسير ما. – ونحن نترجم “Auslegung” بعبارة “التّفسير” (القديمة الاستعمال في لغتنا الاصطلاحيّة الخاصّة بالنّصوص التّأسيسيّة) وليس “التّأويل” (الذي هو “فنّ مشتق”48 منه) لأنّ الأمر لا يتعلّق بمعنى فيلولوجي “أوّل” نبحث عنه، بل بسلوك بصري يقوم، كما هو مشار إليه في اللّفظ الألمانيّ “Aus-legen”، على “وضع” الشّيء “في الخارج” أي نشر الشّيء من خلال فتح “الطيّات” أو “الطّبقات” التي تكوّنه وعرض الشّيء أمام النّظر. وهو تحديدا معنى “فَسَرَ” في العربيّة، أي كشف عن المغطّى.
وطبقا للفقرة 32 من الكينونة والزّمان، المتعلّقة بالعلاقة بين “الفهم والتّفسير”، فإنّ التّفسير من شأنه أن يتأسّس ضمن ثالوث تأويليّ لا مناص من تملّكه هو تواليا، حسب تسميات هيدغر: “die Vorhabe”، “die Vorsicht” و“der Vorgriff”49 - “المكسب السّابق”، “الرؤية السّابقة”، “التصوّر السّابق”. – إذْ نحن نلتقي بالنصّ الذي نترجمه ضمن “فهم سابق” على هذا القدر أو ذاك من الإبهام والاتساع، هو عندنا بمثابة “المكسب السّابق” الذي هو معطى سلفا ولا يمكننا تحاشيه. ذلك يعني، كما يشير جان غرايش (صاحب أهمّ تفسير لكتاب 1927 بالفرنسيّة)،50 أنّه لا وجود أبدا للدّرجة الصّفر من الفهم، بل كلّ تفسير يستند إلى فهم مكتسب سلفاً. لكنّ تلقّي المكسب السّابق لا يتمّ سبهللا، بل تحت هدي “زاوية نظر” هي “ما-على-جهته (woraufhin) يجب أن يُفسَّر ما تمّ فهمه-من-قبل”، وهذا النّحو من جهة النّظر هو “الرّؤية السّابقة” بوصفها ما من شأنه أن يحمل “المكسب السّابق” إلى نطاق التّفسير،51 مثلا أن يجعلنا نفهم حدثا ما “من حيث”(als) ما يعنيه بالنّسبة إلينا. إنّ الرّؤية السّابقة هي ما يعيّن “الوجهة” التي ينبغي أن يأخذها التّفسير.52 لكنّ كلّ تفسير إنّما يجد نفسه مضطرّا إلى تكلّم “لغة استباقيّة”، وذلك من خلال اختراع مفاهيم مُصاغة بقدر ما، وتلك اللّغة المفهوميّة الاستباقيّة هي “التّصوّر السّابق” الذي يرتسمه كلّ تفسير من أجل أن يصاحب الفهم نحو مقصده، حتى ولو أُجبر في وقت لاحق على تعديل مفاهيمه. وحسب عبارة طريفة، فإنّ “التّصوّر السّابق” هو حسب غرايش ضرب من “تسبقة معنى” (une avance de sens)53 بدونها لا يكون فهمُ. وبعامة لا يُفسَّر أيّ نصّ إلاّ في ضوء “الوضعيّة التأويليّة”(المكسب السّابق، الرؤية السّابقة، التّصوّر السّابق) التي يستند إليها.
ولكن أين يجدر بنا أن نبحث عن جذور هذا “السّابق”(das Vor-) إلى الفهم والرؤية والتصوّر؟ - يكمن ذلك “السّابق” حسب هيدغر في ماهيّة الإنسان نفسها من حيث هو “دازين”(Da-sein) أي قدرة أصليّة على “كينونة الهناك” الذي بحوزته من حيث هو الكائن الذي يتعلّق الأمر في كينونته بمعنى الكينونة نفسها. “الهناك” هو نمط “انفتاح” كينونة ذاتنا من حيث هي كينونة-في-العالم. إنّ “في” هذه لا تشير إلى ظرف مكان، بل هي نمط من “المُقام”. العالم ضرب من المُقام وليس مكانا بالمعنى الطّبيعي.
من أجل ذلك لا يمكننا أن نفهم ما في “النّص” من مكسب سابق ورؤية سابقة وتصوّر سابق إلاّ بقدر ما نهتدي إلى “البنية السّابقة” (Vor-Struktur) التي تشدّ تلك العناصر التأويليّة إلى نمط كينونة الإنسان من حيث هو “دازين” وليس شيئا من الأشياء القائمة في الطبيعة أو التي يستعملها أداةً في عمله اليومي. “كلّ ترجمة هي بعدُ تفسير، لكنّ كلّ تفسير هو مكوّن من بنية-سابقة مثلّثة”54 تضمّ ما هو معطى سلفا في فهمنا، ووجهة ما في الفهم وصيغة ما للتّعبير عن ذلك الفهم. “فليس التّفسير بأيّ وجه إمساكا خاليا من أيّ مسبَّقات لشيء معطى سلفاً”.55 بل هو متورّط بعدُ في وضعيّة تأويليّة لا فكاك له عنها من أجل أنّها جزء من ماهيّة المفسّر نفسه.
إنّ المكسب السّابق والرؤية السّابقة والتصوّر السّابق هي الشّروط التي تمكّن كلّ تفسير ومن ثمّ كلّ ترجمة من “العبور” (übersetzen) إلى “المقول” والإنصات إليه هناك حيث هو، أي داخل الوضعيّة التأويليّة التي تكوّن في رحمها. إنّ المهمّة النّقديّة للتّفسير تتمثّل في الفصل الجيّد بين ما هو مسبّقات غير مناسبة أو غريبة عن النصّ، وبين المسبّقات الأصليّة التي تنتمي إلى صلب النّص.56 إنّ “الاشتباك” (das Sicheinlassen) مع ما يقوله النّص من ذات نفسه هو “روح الحوار”(die Seele des Gespräches) الأصيل معه57 . وهو أمر لا يظهر لنا حقّا إلاّ متى صار التّفسير نفسه تجربة “فينومينولوجية”، أي “بيانا عمّا ينكشف انطلاقا من ذات نفسه، كما ينكشف انطلاقا من ذات نفسه”.58
ومتى كانت التّرجمة تفسيرا فينومينولوجيا للمعاني فإنّها لا يمكن أن تكون “حرفيّة” (wörtliche)، وإنْ كانت تريد أن تكون “أمينة على الكلمة” (wortgetreue).59 وحسب هيدغر، فإنّه “طالما كانت ترجمةٌ ما حرفيّة فحسب، هي لا تحتاج بعدُ لأنْ تكون أمينة. هي لا تكون أمينة إلاّ متى كانت ألفاظها (Wörter) كلمات (Worte) تتكلّم نابعةً من لغة القضيّة [نفسها]”.60 بين “اللّفظ” بما هو مشكل نطق وحرف وبين “الكلمة” بما هي إنصات إلى ما “يأتي إلى اللّغة” ثمّة الفرق الجوهري عينه بين الإنسان الذي هو “حيوان ناطق” والإنسان الذي يكون من حيث هو “دازين”61 -كينونة الهناك داخل العالم، بين “التّأويل” بما هو تقنيّة شرح النّصوص وبين “التّفسير” بما هو نمط “وجوداني” (existenzial) لكائن حُمّل وزر الكينونة، بين “الدّلالة” الألسنيّة للفظ ما و“المعنى” الوجوداني-التأويلي للكلمة بما هي مقام لدنه تخرج الأشياء إلى الكينونة.62
في ضوء هذا التّمييز بين “اللّفظ” و“الكلمة” يجدر بنا أن نضع التّمييز الذي عقده هيدغر بنفسه بين “ما يُترجَم” (übersetzbar) و“ما لا يُترجَم” (unübersetzbar):
“إذْ أن نترجم وأن نترجم لا يعنيان نفسَ الشيء، حين يتعلّق الأمر بخطاب تجاري هنا وقصيد شعري هناك. ذاك قابل للتّرجمة، أمّا هذا فلا.”63 و“كما أنّه يصعب علينا أن نترجم الشّعر، كذلك يصعب أن نترجم فكرا ما”.64
لا يقصد هيدغر بذلك إبطال التّرجمة والتّشكيك على المترجمين. بل هو يحضّ على التهيّب من جسامة أمر التّرجمة وخطرها على النّصوص العظيمة. - إنّ “ما يُترجَم” هو ما يمكن أن نجد له عديلا لسانيّا أو اصطلاحيّا، داخل عائلة لغويّة وروحيّة واحدة؛ فتكون التّرجمة بذلك عملا إجرائيّا على الدّلالات الواحدة، وإنْ قيلت بألفاظ أمم مختلفة إلاّ أنّها تشترك في رؤية واحدة للعالم والمصير. وهذا يعني أنّ هيدغر يقرّ للمعنى السّائد للتّرجمة، بما هي نقل للدّلالات من لغة عاديّة إلى لغة عاديّة أخرى، بالصّلاحية التّقنيّة التي من شأنها. أمّا “ما لا يُترجَم” فهو يثير صعوبة من نوع آخر. ولا يعني ذلك أنّ القصائد والأفكار الكبرى إنّما تظلّ موصدة دوننا بسبب “عدم-قابليّة-التّرجمة”(Unübersetzbarkeit) بالمعنى التّقني، بل فقط أنّ ثمّة “فرقا جوهريّا في قابليّة التّرجمة”65 ذاتها. ولذلك يميّز هيدغر بين التّرجمة بالمعنى السّائد وما سمّاه “ترجمة جوهريّة” (eine wesentliche Übersetzung)، وهو يعني بها تحديدا ترجمة أعمال الشّعراء والمفكّرين، الذين غيّروا طريقة الإنسانيّة في الكلام عن نفسها و على كينونتها في العالم.66 إنّ القصائد والأفكار الكبرى قابلة للتّرجمة ولكن في معنى للترجمة ينبغي النّهوض بالمساءلة اللاّزمة لماهيّته.
يقول هيدغر:“في مثل هذه الحالة، لن تكون التّرجمة تفسيرا فحسب، بل تراثا أيضا. ومن حيث هي تراث، فهي لها مكانها في الحركة الباطنيّة جدّا للتّاريخ.”67
ماذا يعني تأصيل التّرجمة بوصفها “تراثا”؟ - إنّ التّرجمة بما هي ضرب من “العبور” (Über-setzung) من شأنها أن تصبح “تراثا” (Über-lieferung) حين توفّر ما به “يعبر” و “ينتقل” (über-setzt) الكلام الجوهري “من لغة تاريخانيّة إلى أخرى”، وهو أمر يستثمر هيدغر في تخريجه بنيّة العبارة الألمانيّة “Überlieferung” التي تدلّ، كما يشير هيدغر بنفسه، على معاني “النّقل” و“التّحويل” و“التّسليم” ( ein Liefern) في معنى “liberare” اللاّتيني أي معنى “التّحرير”(Befreiung)68 أي تسريح المدى الذي يجعل المعنى ممكنا.
لذلك ليس ثمّة ترجمة تغني أو تحلّ محلّ (ersetzen) النصّ الأصلي؛ إنّها لا تكون إلاّ عونا أصيلا على الولوج إلى لغته الأصليّة ووراثة معانيها من الدّاخل. تلك هي “الحدود الجوهريّة” (Wesensgrenze) التي تكتنف “قابليّة التّرجمة” الجوهريّة في كلّ نصّ جوهري.69
ولكن ما معنى أن تكون “التّرجمة” عندئذ ضربا من “العبور” ؟ - هذان معنيان أطلق هيدغر سراحهما من العبارة الألمانيّة “Über-setzung”.
يقول:“بيد أنّ التّرجمة (Übersetzen) ليست ممكنة إلاّ من حيث هي عبور (Übersetzen)”.70 أن نترجم هو أن “نضع” (setzen) المعاني في مواضعها من لغة ما، لكنّنا لا نفلح في ذلك على نحو جوهري إلاّ بقدر ما نستطيع أن نحتمل العبور “إلى” (Über-) المقام الذي يجعل ما نضعه مستقرّا في مكانه. ومن ثمّة فإنّ هذه التّرجمة لا تنجح إلاّ من خلال “قفزة” (ein Sprung) تنقل “النّظر” من أفق ما تقوله اللّغة العاديّة إلى ما قالته لغة أصليّة71 تنام تحتها أو ترصدها في منامها الميتافيزيقي.إنّ التّرجمة الفلسفيّة قفزة في ماهيّة تراث ما؛ بحيث أنّ “التّرجمة تتحوّل هنا إلى عبور نحو الضفّة الأخرى التي تكاد لا تُعرَف وتقع ما وراء نهر عريض”،72 وليس مجرّد نقل قاموسي للألفاظ من لغة إلى أخرى.
وبالفعل فإنّ ما يقوم به التّفسير الأصيل لنصّ أصلي هو أن “يعبر” ( über-setzt) إلى هناك حيث يقبع ما تكلّمته لغةٌ أخرى، بحيث هو ينجح في أن “يترجمه”(übersetzten) إلى لغتنا من خلال “حوار مفكّر معه” (in einer Zwiesprache des Denkens).73 وما أطرف عبارة “die Zwiesprache” فهي تعني حرفيا “das Zwiegespräch”- “التحاور” و“التحادث” وجها لوجه، ولكن أيضا “اللغة -مُنَاصَفَةً” أو “اثنين-في-لغة-واحدة”. لا نفسّر إلاّ بقدر ما ننصت إلى ما قيل، ومن ثمّة نحن لا نترجم إلاّ بقدر ما يمكننا من خلال “الحوار” أن نضع ما قيل في مداره.74
بهذا المعنى يفترض هيدغر أنّنا لن نفهم ما قالته يونان في كلماتها الأصلية الأُوَل مثل عبارة “Êòn Émmenai (كينونة الكائن) إلاّ متى اعترفنا” بأنّه من اللّازم علينا في نهاية الأمر أن نترجم هذه الكلمات إلى اليوناني“75! وعلى عكس ما يظهر لأوّل وهلة، فليس في ذلك أيّة لجاجة. بل القصد اللّطيف أنّنا لا”نترجم“إلاّ متى”عبرنا“إلى هناك حيث يقال ما قيل في تربته الحميمة. لذلك أن تكون التّرجمة”دقيقة“(أي موافقة للاستعمال) ليس ذلك أكبر فضائلها؛ فقد تكون”الدّقة (Richtigkeit) منزلقا أيضا من أجل أنّها تورّطنا في أتون تمثّلات هي من النّاحية التّاريخيّة متأخّرة، حديثة وسائدة إلى اليوم“.76 فالترجمة الدقيقة، تلك التي تقول ما هو منتظر منها بالنظر إلى لغة عادية مستقرة لدى أهلها ومن ثمّ لدى عصرها، هي لا تزيد على بناء شبكة ترادف يومي مع لغة يوميّة أخرى، وليس”العبور“إلى تراث ما وتمكينه من”الانعتاق“في الميدان التّاريخاني للغة”أخرى“.
وحين تعرّض هيدغر إلى محنة التّرجمة، إبّان اشتغاله على تخريج معنى”كلمة أنكسيمندر“(1946) في معجم تاريخ الكينونة، هو قد صرّح قائلا:”إنّ ذلك يفرض على فكرنا أن يعبر (übersetzt) أوّلا قبل الترجمة إلى ما قيل في اليوناني. هذا العبور المفكِّر إلى ما يأتي من خلال الكلمة إلى لغته، إنّما هو ضرب من القفز على خندق. “77 ولكن ما الذي يُفترَض أن يقفز: ما قيل في لغة غريبة إلى لغتنا أم لغتنا إلى اللّغة الغريبة ؟ إنّ هيدغر يطالبنا بأكثر من ذلك: إنّه بدلا من ترك الألفاظ الأجنبيّة تمرّ إلى لغتنا، علينا قبل ذلك”أن نمرّ نحن أنفسنا إلى فضاء اللّغة“78 التي نترجمها! هذا صعب ولكنّه ليس بلا معنى. إنّ القصد هو أنّنا لن نترجم حقّا نصّا ما إلاّ متى فكّرنا معه في ما يقوله داخل اللّغة التي قيل فيها، وليس في لغة أخرى. علينا أن نستفزّ لغته حتى تقوله بين يدينا، لأنّه نتاج داخلي لماهيّتها، وليس مجرّد إجراء ألسني. وبكلمة واحدة علينا أن نرثه من الدّاخل، وهو ما يعني حسب إشارة العبارة الألمانيّة” Überlieferung“، علينا أن نفكّ قيوده، أي أن نسرّحه مرّة أخرى في فضاء لغة أخرى، هي ربّما لم تقله صراحة من قبل، وإن كانت تنطوي عليه في ماهيتها.
في هذا المستوى بالتّحديد علينا أن نستضيء بدلالة اعتراضات هيدغر على”التّرجمة“الرّومانيّة لليونان. قال:” إنّ الفكر الرّوماني قد نقل الألفاظ اليونانيّة من دون التّجربة الأصليّة المناسبة لما تقوله، من دون الكلم اليوناني. وإنّ اهتزاز أرضيّة الفكر الغربي قد بدأ مع هذه التّرجمة.“79 فقد تكون التّرجمة”حرفيّة في ظاهرها“ومن ثمّ”صادقة“، ولكنّها تخفي في باطنها،”عبورا“من تجربة تاريخانيّة مخصوصة إلى”نمط تفكير آخر“80 غريب عن مضمونها الأصيل تماما.
4- التّرجمة والقوميّة : أو هل تتكلّم الكينونة لغة هذا الشّعب أو ذاك ؟
يقول هيدغر في رسالة بعث بها إلى هنري كوربان، أوّل مترجم فرنسي له، في مارس 1937:
”بالتّرجمة إنّما يتمّ نقل عمل الفكر إلى روح لغة أخرى، ومن ثمّ هو يطرأ عليه تحوّلٌ لا مناص منه. بيد أنّ هذا التّحوّل إنّما يمكن أن يصبح خصبا، من جهة كونه قد يُظهر الوضع الأساسيّ للمسألة في ضوء جديد؛ بذلك هو يساعدنا على أن نصير بإزائها نحن أنفسنا أكثر استبصارا وأن نتلطّف أكثر في رسم حدودها.
ولهذا السّبب لا تتمثّل ترجمةٌ ما في مجرّد تيسير التّواصل مع عالم لغة أخرى، بل هي بحدّ ذاتها استصلاح مشترك لتربة المسألة. إنّها تساعد على الفهم المتبادل في معنى راقٍ. وإنّ كلّ خطوة على هذا الدّرب لَهْيَ نعمة مباركة للشّعوب.“81
ولكن من هو”الشّعب“؟ - إنّه ضرب من” الدازين القَدَري،82 بقدر ما هو كينونة-في-العالم“ولأنّه”من حيث الماهيّة يوجد في نطاق الكينونة-معاً صحبة الآخرين، فإنّ تأرّخه هو تأرّخٌ-معًا ويتعيّن بوصفه مصيرا“.83 – إنّ التّرجمة حدث قدري في لغة ما، لأنّها نمط من التأرّخ-معاً في مساحة”النّحن“العميقة التي يوفّرها شعب ما. لكنّ الشّعوب لا توجد كالأشياء، إذ ليست لها”ماهيّات“أو”هويّات“معطاة سلفا أو نهائيّة. وكما يبيّن هيدغر في درس ألقاه سنة 1934، إنّ”الشّعب“ضرب من”الانتماء“الحرّ المنبثق ليس فقط عن”قرار“(Entscheidung) حرّ إزاء أنفسنا؛ بل عن نوع من”الحزم“(Entschiedenheit)84 إزاء كينونة-ذاتنا؛ الشّعب قرار ولكن ليس”ضدّ أو من أجل الآخرين“، بل هو قرار”من أجل أو ضدّ أنفسنا“.85 وحسب هيدغر فالانتماء أو عدم الانتماء هو”ضرب من الإجابة“(Antworten) على ما هو تاريخاني فينا، ومن ثمّ هو في عمقه”مسؤوليّة“(Verantwortung) أمام”المصير“العميق لذاتنا،86 بعيدا عن أيّ مزعم عرقيّ أو أخلاقيّ أو دينيّ. فالشّعب، حسب هيدغر، ليس”جسما أو جسدا“(Körper/Leib) ولا”نفسا“(Seele) ولا”روحا“(Geist)،87 بل إنّ ما يميّزه هو”طابع القرار“التّاريخاني إزاء مصيرنا.88
ولكن إلى أيّ مدى يمكن أن يزعم”شعب“ما (اليونان أو الجرمان) أنّه قد توفّر على”اللّغة“الأخصّ للكينونة، أو أنّه قد خُصّ وحده بتكلّم لغة”الكينونة“دون غيره من شعوب الإنسانيّة الحاليّة؟
لقد تُرجم كتاب Sein und Zeit إلى لغات عدة، منها اليابانيّة (1940) والإسبانيّة (1951) والإيطاليّة (1953) والانجليزيّة (1962) والفرنسيّة (1964-1986)، ولكن أيضا إلى لغات أقلّ انتشارا، مثل”الكرواتيّة“و”السلوفاكيّة“و” الاستونيّة“. – في كلّ هذه التّرجمات تساءل المترجمون، تقريبا، تساؤلا واحدا في صيغ شتّى:”هل يمكن أن نترجم هيدغر إلى لغتي؟“. وهو سؤال يخفي في طيّاته تساؤلا أقلّ نبرة :”هل تتكلّم الكينونة لغتي أيضا ؟“.
وتعترضنا صيغُ ذَيْنِكَ التّساؤلين مطبّقة من قبل الباحثين في الهيدغريّات على حالات شتّى. فإذا نحن في بابل تأويليّة،”فلا يفهم الحُدّاثَ إلاّ التّراجمُ“(كما قال المتنبّي ذات قصيد). وتختلط أصوات تُهَمْهِمُ متسائلة :”هل يقبل تفكير هيدغر أن يُترجم إلى اليابانيّة ؟“89 أو”هل يمكن أن نترجم هيدغر إلى السّلوفاكيّة ؟“90 أو هي تُسرّ مستدركة بأنّ” الفلسفة قد يمكن أن تتكلّم الكرواتيّة“لكنّ”كلّ لفظ كرواتي من التّرجمة إنّما يحوّر من دلالة المصطلح الأصلي“91 أو هي تهمس متحيّرة”هل تتكلّم الكينونةُ [اللّغة] الإستونيّة أيضا؟“92 أو تقول في نفسها مستعظمة للأمر، إنّ ترجمة هيدغر إلى الصّينيّة”هي ليست ترجمة لأعمال هيدغر من الألمانيّة إلى الصينيّة، فحسب، بل أيضا هي نقل لفكر هيدغر من ’’العالم’’ الألماني، الأوروبي، إلى ’’العالم’’ الصّيني، الشرق-آسيوي“.93 واللّغات تأتي…
وإنّما تكمن نواة الصّعوبة هاهنا في هذا المعطى السّابق على التّرجمة: أنّه لا فلسفة إلاّ بالكلّي، لكن لا شعب ولا لغة إلاّ بالخاص. هل”الكلّي“هو الأجنبي والغريب ؟ أم هو”الخاصّ“ذاته ؟
يشير باحث كرواتي، في معرض فحصه عن مدى ترجمة هيدغر إلى الكرواتيّة، إلى أنّ”الألماني“يسمّى لدى السّلافيين”Nijemac“أي”الأخرس“، بل إنّ لديهم لفظة”tudj“(من deutsch ) التي تعني”الغريب“.94 – علينا إذن أن نقرّ دون مواربة أنّ كلّ لغة”خاصة“هي بالضّرورة”غريبة“لدى شعب آخر. ومن ثمّ لا فضل للغة على لغة إلاّ بتقوى الكينونة. وإذا كان لابدّ من أن تكون لغةٌ ما خاصة بشعب معيّن، فإنّه لا يوجد”فكر خاصّ“، ومن ثمّ فإنّه ليس ثمّة”فكر غريب“، بل ما يوجد هو فقط”الفكر الحرّ“.95
ولا بأس أن نذكّر بأنّ مصطلح هيدغر ليس مشكَلا على”الأجانب“فحسب، بل هو متوعّر حتى على”الألمان“أنفسهم.96 وذلك أنّ التّرجمة ليست مجرّد مقابلة قاموسيّة بين الألفاظ في لغتين مختلفتين، فأيّ قاموس قد يوفّر دلالة اللّفظ”الصّحيحة“، لكنّه”لا يضمن بعدُ بهذه الصحّة (Richtigkeit) أن نبصر بحقيقة (Wahrheit) ما يعنيه اللّفظ ولا ما يمكن أن يعنيه“97 . أن نترجم”حقّا“هو أن”ننظر من ناحية الرّوح التّاريخاني للغة ما في جملتها“، بحيث تتمثّل مهمّة التّرجمة الأصيلة في أنّه”ينبغي عليها ضرورة أن تمرّ من روح اللّغة الخاص بلغة ما إلى الرّوح الخاصّ بلغة أخرى“.98
لكنّ الشّرط الحاسم الذي يجعل هذا النّحو من المرور الصّعب من روح لغة إلى روح لغة أخرى، ومن أفق شعب تاريخاني إلى أفق شعب تاريخاني آخر، إنّما هو شرط طريف وينطوي على شيء من المفارقة. – فإنّ هيدغر الذي ينبّه إلى أنّ”كلّ ترجمة هي ضرب من التّفسير“لا يتردّد في قلب المسألة مصرّحا بشكل لا يخلو من تهكّم تأويلي:
”نحن نعترف انطلاقا من ذلك بأنّ كلّ ترجمة ينبغي أن تكون تفسيرا. ولكنّ العكس هو في نفس الوقت صحيح أيضا: كلّ تفسير وكلّ ما يقوم في خدمته، هو ترجمة. بذلك لا تتحرّك التّرجمة بين لغتين مختلفتين فحسب، بل ثمّة في صلب اللّغة ذاتها ترجمة. إنّ تفسير نشيد هلدرلين هو ترجمة داخل لغتنا الألمانيّة“.99
بذلك نحن لا نترجم فقط ما هو”أجنبي“حتى نفهمه؛ بل علينا أن نترجم أيضا ما هو مكتوب في لغتنا ! ولكن بأيّ معنى؟
يفترض هيدغر أنّ التّرجمة ليست حاجة تقنيّة أو فيلولوجيّة خارجة عن طبيعة”الأثر“المترجم أكان فلسفة أو شعرا. بل أنّ الآثار العظيمة هي طبقا لماهيّتها وفي صلب نفسها”في-حاجة-إلى-التّرجمة“( übersetzungsbedürftig)100 ! وذلك من فرط ما تحمل في ذاتها من علاقة جوهريّة مع”ماهيّة اللّغة“التي يتكلّمها”شعب تاريخاني“عظيم (ولا يتعلّق الأمر في هذا المضمار المهيب إلاّ بالشّعوب العظيمة). من أجل ذلك فالتّرجمة لئن كانت تفسيرا، أي ضربا من”التّفهيم“(ein Verständlichmachen)، فليس شأنها أن”تنزل“الأثر من”قمّة“المسألة التي عبّر عنها، حتى يصبح مقبولا في الفهم السّائد، بل”إنّ الترجمة ينبغي أن تضعنا على درب الصعود إلى القمّة“101 ذاتها. وذلك لأنّ”حاجة-الترجمة“لا تسكن في الأثر العظيم (أكان فكرا أم شعرا) إلاّ بقدر ما تكون قبلُ وبشكل أصلي”حاجة-إلى-التفسير“(auslegungsbedürftig) مِلْحاحة :
”إنّ الترجمات في مجال الكلمات العليا للشعر والفكر هي دائما في-حاجة-إلى-تفسير، وذلك لأنّها هي ذاتها ضرب من التفسير“.102
إنّ القصد من هذه الإشارة إلى التّرجمة داخل نفس اللّغة هو التّنبيه على أنّ التّرجمة من لغة إلى لغة أخرى هي حالة من حالات متعدّدة من التّرجمة، وليس ظاهرة معزولة. إنّ”الكلام والقول هو بحدّ ذاته ضرب من التّرجمة. […] في كلّ حديث وكلّ حديث مع أنفسنا يسود ضرب من التّرجمة الأصليّة“.103 وإنّ”أصعب“التّرجمات إنّما تبقى دوما حسب هيدغر”ترجمة اللّغة الخاصّة في الكلم الأخصّ لها“.104
ورغم ذلك فإنّ هيدغر يصرّح دونما مواربة أنّ الشّعب التّاريخاني، الذي بلغت لغته إلى التّعبير عن ماهيّة مصيره، لا يمكنه أبدا”أن-يصير-وطناً“( das Heimischwerden) لوحده وبشكل معزول، أي لا يمكنه أبدا أن”يعثر على كفاية ماهيّته من ذات نفسه وبشكل مباشر في لغته الخاصّة“، بل إنّ”أيّ شعب تاريخاني لا يكون إلاّ انطلاقا من حوار لغته مع اللّغات الأجنبيّة“.105 إنّ التّرجمة بالمعنى اليومي هي مجرّد”إجراء تقني“له ضرورته، مثل تعلّم الانجليزيّة-الأمريكيّة، التي يتعلمها حسب هيدغر جميع من في العالم. ولكن هل نحن على بيّنة من”الخطر الجوهري“لهذا النّوع من معرفة اللّغة ؟ فإنّ التّرجمة الأصيلة، التي تتعلّق بالاشتباك مع لغة تاريخانيّة، تكلّمها شعب تاريخاني، هي بالأحرى”إيقاظ وإيضاح وبسطٌ للغة الخاصّة بمساعدة المناظرة مع اللّغة الأجنبيّة“.106 إذ ليس القصد من مناظرة اللّغة”الأجنبيّة“سوى”تملّك اللّغة الخاصّة“.107
5- التّرجمة والضيافة: أو في تعدّد منازل الكينونة
في”حوار حول الكلمة. بين ياباني وسائل يسأل“، نَشَرَهُ في كتابه الترقّي نحو الكلمة،108 أبدى هيدغر شكّا واضحا في إمكانيّة”الحوار“بين العقول المنتمية إلى عوالم تاريخانيّة متباعدة.
قال:” قبل ردح من الزّمان، سَمّيتُ اللّغة، دونما احتياط كاف، منزل الكينونة. وإذا كان الإنسان من خلال لغته يقيم ضمن مطلب الكينونة، فإنّنا،نحن الأوروبيّون، نقيم على الأرجح، في منزل مغاير تماما لذاك الذي يقطنه إنسان شرق آسيا.[…] بذلك فإنّ حواراً من منزل إلى منزل إنّما يكاد يظلّ مستحيلا.“109
ولكن ماذا لو كانت”منازل الكينونة“متعدّدة ؟ - ذلك ما اقترحه باحث ياباني كردّ طريف على نبرة الموقف الذي اتّخذه هيدغر في النصّ المشار إليه عن”الحوار مع ياباني“، قائلا:
”إذا كانت اللّغة منزل الكينونة، فإنّه لابدّ أن تكون هناك منازل عديدة للكينونة، ذلك بأنّه ثمّة في الواقع لغات إنسانيّة عديدة.[…] بذلك فإنّ السّؤال الذي يطرح نفسه هو: هل أنّ منزل الكينونة هو ممكن فقط في المفرد الألماني أم في الجمع؟ […] إنّ ثمّة في العالم من جهة الواقع عددا لا يُحصى من اللّغات المختلفة ومنازل الكينونة والثّقافات المختلفة والعوالم المختلفة. وإذا كان التّواصل المتعلّق بالكينونة بين منازل الكينونة المختلفة والثّقافات المختلفة غير ممكن، فإنّه لا وجود أيضا لأيّ تفاهم فلسفيّ بينها.“110
- نحن نأخذ مسألة”تعدّد“منازل الكينونة بوصفها الأفق الوحيد المناسب للإقدام على”ترجمة“هيدغر إلى العربيّة، متأوَّلة في معنى”العبور“إلى الضفّة الميتافيزيقيّة الأخرى التي يقف عليها، وإن كنّا لا نشعر أنّ ما يفصلنا عنها هو”نهر عريض“. فما يشعر به المترجم الصّيني مثلا من افتقار الثّقافة الصّينيّة إلى دين توحيدي111 مثل المسيحيّة، وجد أنّ معجم هيدغر السرّي ما فتئ ينهل منه أو يقاومه، هو شعور لا يمكن أن ينتاب المترجم العربي.
نحن نعلم أنّ هيدغر قد نهل من التّراث التّوحيدي ومن الأنطولوجيا اليونانيّة في كرّة واحدة. وهو يفترض أنّ تجربة الكينونة التي رصدها قد عرفت انكسارا مع عبور الأنطولوجيا اليونانيّة إلى الأفق اللاتيني-المسيحي، ومن ثمّ رسمت الانعطافة التي أدّت إلى تكوّن التّجربة”الأوروبيّة“و”الغربيّة“و”الحديثة“للمُقام في العالم وتفسيره. لذلك نحن مرتبطون ارتباطا مضاعفا بهذا الحدث التّاريخاني للقول الفلسفي في الكينونة: أوّلا لأنّ العربيّة هي الوسيط التّاريخاني (الذي يغفله هيدغر في تاريخ الكينونة) بين اليوناني واللاّتيني؛ وثانيا من أجل أنّ قدر القارّة الرّوحيّة التي تحمل اسم”الإسلام“قد صار جزء لا يتجزّأ من قدر”الغرب“نفسه منذ أن كانت العربيّة المعلّمة الميتافيزيقيّة للاتينيّة، وهذا وضع تاريخاني لم يؤدّ سكوت المحدثين عنه إلاّ إلى تضييق باب الإنسانيّة الحاليّة نحو المستقبل.
وممّا زاد الأمر تعقيدا هو أنّ”الآخر“لم يعد يقيم”خارج“أيّ إنّية تأويليّة قد يدّعيها هذا”الدّازين“التّاريخاني أو ذاك؛ إنّ الآخر هو نمط”الكينونة-معا“التي نحملها سلفا في علاقتنا الأصيلة بأنفسنا. ولذلك فالسّلوك السّويّ إزاء الآخر (اللّغويّ أو السياسيّ) ليس التّسامح (الذي يخفي شيئا من الغطرسة) بل أحد الآداب القديمة لأنفسنا، والتي أعادها فيلسوف”غربيّ“إلى الخدمة، نعني أدب”الضّيافة“، وليس ذلك الفيلسوف سوى كانط،112 الفيلسوف” الأوّل والوحيد“، حسب هيدغر، الذي تحرّك خطوة في طريق البحث في إشكاليّة الزمانيّة بما هي أفق فهم معنى الكينونة.
التّرجمة ضرب من أدب الضّيافة إزاء تراث ما. وعلى خلاف المعنى”الأخلاقيّ“للضّيافة، فإنّ طرافة التّنشيط الكانطي لهذا المفهوم تحت عنوان”الضّيافة الكونيّة“(allgemaine Hospitalität) تكمن في أنّه قد نقل معنى الضّيافة من إطار”محبّة النّوع الإنسانيّ“إلى”حقّ كسموبوليطيقي“113 للغريب بما هو كذلك. الضّيافة الكونيّة هي”حقّ الغريب“في المرور في أفق العالم الذي يزعم دازين ما أنّه يسكنه لوحده. صحيح أنّ كانط لا يعترف بما يسمّيه”حقّ الضّيف“أو حقّ الإيواء (Gastrecht) في منزل معيّن، لكنّه يقرّ بما يسمّيه”حق الزّيارة“(Besuchsrecht) الإنسانيّة، وليس ذلك تكرّما، بل من أجل أنّ هذا الغريب هو”إنسان“بإطلاق، يتمتّع سلفا بما يطلق عليه كانط حقّ”الملكيّة الجماعيّة لمساحة الأرض، لكونها مساحة كرويّة“.114
إنّ التّرجمة ضيافة كونيّة بالمعنى المتعالي: فهي تستمدّ مشروعيّتها من”حقّ“العقل الإنساني، ممثَّلا هنا من خلال النّصوص”الأجنبيّة“التي شكّلت ماهيّة الإنسانيّة الحاليّة، في”المرور“في أفق لغتنا115 ، بمقتضى”حقّ“المواطنة في العالم، من جهة ما هو”أرض“روحيّة لا مناص من اقتسامها بسبب أنّها”كرة“، أي دائرة تأويليّة مشتركة ومحدودة هي المحيط التّاريخاني الوحيد للعقل الإنسانيّ الحالي.
- وبعدُ، ينبغي علينا هنا أن ننوّه بأعمال الذين سبقونا إلى محنة تعريب المعاني الفلسفيّة في فصاحة نظريّة تريد أن تكون أصيلة وكونيّة في حركة واحدة. وهو موضع لابد أن نذكّر فيه بجهود السّابقين، وإنّها لجهود جدّ متنوّعة، تمتدّ زمناً من الكندي إلى اليوم، مصطلحاً وتبيئةً ونحتاً وتصرّفا في المعاني وتملّكًا للأصول ومغامرةً في ركوب الألفاظ الصّعاب ومقارعة الغريب وافتراع الجديد المحدث.
وإذا كانت هذه أوّل ترجمة عربيّة لكتاب الكينونة والزّمان، فهي ليست بأوّل مرّة نُقل فيها مصطلح هيدغر116 أو شُرحت معانيه أو تُصُدِّي فيها إلى إشكاليّته. وذلك على الرّغم من أنّ الاهتمام العربيّ بنصوص هيدغر لم يجر على نسق واحد، بل تداول عليه باحثون ينتمون إلى سياقات بحث وإلى حقب متباينة، شكّل تباينُها في واقع الأمر عائقا منهجيّا حال دون بلورة مصطلح موحّد أو خطّة جامعة في التّعريف بأعمال هذا الفيلسوف الكبير ونقلها إلى لغة الضّاد.
لك