«لا يوجد تبادل بين الحقيقة والعنف»
باسكال
التاريخ برسم المنتصرين ووجوهم العابسة وأمجادهم الآفلة. التاريخ برسم اليد التي تجيز القتل والفتك وترفع علم النصر بنشوة وحقد وسُعار. يوجد جنود مجهولين في كل لحظة من لحظات التاريخ، في قلوبهم رحمة ورأفة ديست بالأقدام، وإحساساً بالحريّة مزقته الحراب، وأملاً واعداً تناهشته الضباع. ولكن التاريخ أيضاً ماكرٌ، خدَّاع، يوهم المنتصرين بأن أعداءهم غابوا في غلالة النسيان، ليظهروا من جديد من بين ركام الوثائق، وأكوام الأرشيفات البائدة على يد باحثين وأدباء، أخذوا على عاتقهم مهمة الغوص في المنسيات وزعزعة يقين المنتصرين. هذه هي حال الكتاب المترجم حديثاً إلى العربيّة، بترجمة فارس يواكيم وإصداره الخاص، تحت عنوان فاقع ونافر، «عنف الديكتاتوريّة»، كبديل عن العنوان الأصلي «كاستيلو ضد كالفن أو ضمير ضد العنف»، بقلم الكاتب النمساوي ستيفان تسفايغ.
في لحظة حرجة من تاريخ الاصلاح الديني في أوربا، في القرن السادس عشر، دخل قادة الاصلاح، وعلى رأسهم لوثر، في متاهة تفاصيل دينيّة، كادت تضيع الموضوع الأساسي. شعر جان كالفن رجل الدين الفرنسي، الهارب من محاكم التفتيش في فرنسا، إلى مدينة جنيف السويسريّة، بضرورة وجود مرجع جامع للبروتستانتيّة الناهضة حديثاً في مواجهة الكاثوليكيّة، على نحو يبتعد بالأتباع عن الخلافات الجانبيّة، فكان كتابه الجامع «تعاليم الديانة المسيحيّة». وكان هذا الكتاب من الكتب القليلة التي غيرت مسار التاريخ الانساني.
وبعده تحول القس الاصلاحي، من عالم الأفكار إلى عالم السياسة الواقعيّة. وبعد فترة وجيزة من وصوله مدينة جنيف الآمنة، تمكن من التحكم بها، والقبض عليها وعلى مجلس مدينتها المحلي بقبضة من حديد، وفق تصور محدد، خططَ له بدقة.
وأخطر الطغاة هم أصحاب الأفكار، لأن طغيانهم يكون مزيجاً من القسوة والتعنت والحقانيّة المغلفة بالأفكار المنطقيّة لدعم جبروتهم. كالفن كان ديكتاتوراً من النوع الذي يريد من أتباعه الاذعان الكامل، والخضوع المطلق لإرادته وأهدافه. وكان تسفايغ له بالمرصاد، فهو من أبرع الأدباء، وأكثرهم قدرة على تحليل خرائط الروح الانسانيّة وانعكاساتها على معالم الوجه والجسد في مختلف تجلياته. فها هو يطابق بين وجه كالفن وفكرته، فوجهه «مثل قطاع جبل كلسي، مثل أرض صخريّة جرداء مهجورة وموحشة، يوحي تحفظها الأخرس بأن لا بشر يسكنها، بل الله فقط»49. ويقول عن يديه النحيلتين «لا يمكن أن يتخيل المرء أن تلك الأصابع العظميّة لاعبت وردة ذات مرة، أو داعبت جسداً دافئاً لامرأة ما، أو امتدت إلى صديق بمودة وانشراح»50. ويصفه أيضاً بأنه «قاس ومنهجي... لحقده. غل قاس وحاد وقاطع كالمعدن.. . وضغينته باردة، دؤوبة تأتي من المخ»102.
الرّجل الموصوف على هذا النّحو أراد أن يجعل من مدينة جنيف صورة واقعيّة لفكرته التخيليّة عن الدّين والايمان الذي يتصوره. وكان لا بد له في البداية أن يقصي كل صوت معارض ويخمد أي نفس مغاير، على عادة الطغاة. وقد نجح في ذلك تماماً، ولكن بعد أن خاض معركة حاسمة وخاسرة في النهاية، مع صوت إنساني وحر، ارتفع عالياً ضد القتل، وهو صوت سيباستيان كاستيلو، صديقه ومريده الذي انشق عن طاعته، عندما اكتشف الروح الوحشيّة الكامنة في الالتزام القسري الديني، والإرادة الحديديّة المرافقة له. كالفن كأي طاغيّة سقط بالامتحان عندما تلوثت يداه بالدم، دم ميغيل سيريفيت اللاهوتي المندفع، الذي رفض الثالوث الأقدس في سبيل وحدة الذات الإلهيّة، الأمر الذي أوصله إلى أن يحرق حياً على نار هادئة في إحدى ساحات جنيف.
سيريفيت اللاهوتي، لم يكن مجرماً أو قاتلاً ولا حتى كافراً، فكل جريمته أنه جاهر برأي مخالف في الدين، على نحو وجده كالفن يهدد سلطته وبالتالي يستحق الموت. ولكن كاستيللو الكاتب الانساني المضطهد من قبل كالفن، وجد في موته، جريمة لا تغتفر. فالبروتستانتيّة قامت في مواجهة محاكم التفتيش الكاثوليكيّة، ورفضاً لمصادرة حريّة الرأي والمعتقد، ودعماً لكل ما من شأنه الإعلاء من إنسانيّة الإنسان والدفاع عن حريته، مهما اتفقنا أو اختلفنا معه. فكان كتابه «مقال في الهرطقة» تفنيداً دقيقاً للحكم الجائر بحق سيريفيت، ودعوة حارة وصادقة للدفاع عن الحق الإنساني الطبيعي في الاعتقاد والتدين والتعبير الحر عن الرأي. ولخص القضيّة في جملة شهيرة خالدة «إحراق إنسان لا يعني إطلاقاً الدفاع عن عقيدة، وإنما قتلُ إنسان»22. وبذلك جلب على نفسه المزيد من المطاردة والملاحقة، له ولعائلته، مطاردة ستنتهي أخيراً بوفاته غماً وياساً جراء تقطع السبل به، قبل أن تصله يد السلطة العليا بفترة وجيزة.
عرف كالفن في حياته الشخصيّة مفارقات عديدة بارزة، فهو فرنسي هرب من فرنسا ولجأ إلى جنيف بسبب أفكاره، وصار مواطناً فيها، ثم وصل إلى حكمها حكماً مطلقاً. وأيضاً كما ذكرنا أعلاه، فهو رجل أفكار وليس رجل سياسة، ولكن إلحاح أحد أصدقائه على المشاركة بالعمل السياسي جعله يقدم على هذا التحول بثقة واندفاع، فكان طاغية فاجأ الجميع بمعدنه الصلب وتعنته المزمن. بعد مئات السنين، ورغم تعاليمها الأصوليّة، خلَّفت البروتستانتيّة الكالفنيّة في البلدان التي عرفتها، حالة من التسامح وقبول الآخر، بشكل يناقض تماماً حكم مؤسسها، وصارت بلدان مثل، سويسرا، هولندا، إنكلترا، الولايات المتحدة، من أبرز الدول التي أعلت في قوانينها ودساتيرها من شأن الحريّة الفرديّة، والتسامح إزاء الرأي المخالف، واحتضان اللاجئين الهاربين من قسوة الحكم الاستبدادي... وآخر المفارقات أن كالفن كان رجلاً ينأى بنفسه عن رؤية الدم أو مشاهد التعذيب، لأن روحه لا تحتمل قسوتها، وأذنه لا تحتمل صرخات الضحايا، ولكنه كان قادراً ببساطة على الإيعاز بتنفيذها بحق الآخرين بجرة قلم من خلف طاولته.
رجل التناقضات هذا كان لديه مخطط جاهز في عقله لمدينة فاضلة، ولكن على طريقته الخاصة. مدينة، لا يجد السرور والفرح والموسيقى طريقاً إلى قلوب أبنائها. فالكالفنيّة ترى في الانسان كتلة من الشر، لا بد من تطويعها بالحديد والنار، وتشكيلها بحسب الرغبة والمقام. وهذا هو حلم كل ديكتاتور صغير. ولذلك ابتكر الرجل فكرة «رجال المجمع الديني» كحراس للعفة والفضيلة، شيء من قبيل جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكانت مهمتهم تفتيش أي مواطن يشكون بأمره ولو مجرد شك. وأي غريب يدخل مدينة جنيف كان عليه أن يعرف عن نفسه للهيئة. ومن حقهم الدخول إلى أي منزل لمجرد الشبهة بصاحبه. كما انتشرت الوشايات، أو التقارير الأمنيّة، بلغة العصر، يكتبها مواطنون مرعوبون، بحق جيرانهم أو زملائهم ولاعتبارات متنوعة وعديدة.
قدمت الكالفنيّة بأساليبها المتنوعة في قهر الإنسان وحكمه، الأسس التي أرست قواعد الدولة الشموليّة البوليسيّة لاحقاً في القرن العشرين. ومن جهة ثانية، كانت بحسب رأي ماكس فيبر في دراسة شهيرة له، أهم مساعد لنمو الحركة الصناعيّة، لما تحمله من قيم تحض على الولاء والطاعة وبذل الجهد من قبل المواطنين دون تذمر أو شكوى. فهي تقوم على تصور محدد لإرادة صلبة قاهرة للجسد تحارب الفن، ومختلف أنواع السرور والسعادة اليوميّة، وتعتمد على التربيّة المدرسيّة والأخلاقيّة الصارمة التي تضبط كل إيقاع حركات وأفكار الانسان اليوميّة. وهذا ما دفع تسفايغ إلى أن يحمد الله إلى أنها لم تنتشر في عموم أوروبا وإلا لكانت أخرَّت الفنون والآداب الأوربيّة قروناً ودفعتها إلى الوراء. ويكفي أن مدينة جنيف أصابها العقم خلال قرنين أعقبا حكمها الحديدي «الرشيد»، فلم يظهر أي رسام أو موسيقي ذا شأن، حتى ظهر جان جاك روسو.
ربما كان دافع تسفايغ إلى كتابة هذا الكتاب وانتشال شخصيّة كاستيللو المغمورة من أرشيف التاريخ المهمل، هو الأجواء المشابهة التي عاشها الغرب، وألمانيا خصوصاً في فترة بين الحربين العالميتين. في هذه الفترة استعرت الحركات النازيّة والفاشيّة والدولة الستالينيّة ووصلت إلى ذروة عنفها وحقدها على الإنسان والمجتمع. فكان من الضروري البحث عن أصوات إنسانيّة تدافع عن الكرامة البشريّة المهدورة بسخاء في هذه الأنظمة.