عد لحظة الانتباه الآنية الصوفية من غفلة الشقاء الدنيوى هى لحظة وعى الذات وعيا مكثفا بغربتها الزمنية أو منفاها الزمنى عن ذاتها الحقة، ومن ثم فهى لحظة فارقة بين الزمان والأبدية إذ تغدو هذه اللحظة بداية لتأسيس زمن الذات الوجدانى الشعورى، ومن ثم تجاوز منفاها الزمانى، واسترداد أو معايشة ألفتها الزمنية فى عمق وجودها الأصيل المنتمى إلى الأبدية واللازمانية فيما وراء حدود الزمنى النسبى! وهو ما يعنى تطابق لحظة امتلاك الذات زمنها الداخلى مع لحظة استردادها، وجودها ووحدتها وامتلاكها لذاتها الحقة.
ويتجاوز طموح الذات هذه الحدود، حيث تسعى إلى ماوراء تحقيق وجودها الذاتى، فغايتها الملحة هى التحقق بوجودها الصوفى الذى هو نافذتها على أبديتها فى أحضان الألوهية. ومن هنا ستصبح لحظة الانتباه سعيا حثيثا محموما من أجل تأسيس لحظة الآن الخالدة التى تسعى لاقتناص المطلق اقتناصا متجددا وحيا، أو بلغة الصوفية، تأسيس لحظة الفناء أو الوقت الصوفى فى عمق الأبدية الإلهية الحاضرة دوما، أو البقاء بالله. ولحظة الانتباه بهذا المعنى هى لحظة اتصال الزمان بالأزل، وهو اتصال لايعنى التحرر الكامل من الزمان النسبى أثناء هذه اللحظة، لكنه يعنى الوعى بأن هناك بعدا أبدىّا فى صميم الذات.
وبالطبع لا تتحقق هذه الغاية المنشودة، إلا إذا تجاوزت الذات حدود الوعى إلى فاعلية الإرادة، وغدت صورة مرآوية عاكسة وكاشفة للبهاء الإلهى، حينئذ يصبح زمن الذات صورة من الدهر الإلهى، وهو ما يعنى أن تغدو لحظة الآن أو الوقت الصوفى لحظة فردة مطلقة فى حد ذاتها غير قابلة للتكرار، مستقلة منفصلة عما سبقها أو ما يليها؛ إذ ينعدم معيار التوالى النسبى الآنى للحظات، وانفصال الزمن لماضى وحاضر ومستقبل فى سياق الزمان السرمدى. إنها لحظة تمتص داخلها التمزق الزمانى وتفنيه لحساب استمرارية دءوب قارة فى عمق ديمومتها الخالدة، ولذا فهى تعبير جلى عن وحدة الأنا. أو لنقل أن شتات الذات وأنواتها المتفرقة عبر لحظات الزمن العدمى، تقتنص متوحدة مكثفة الحضور داخل هذه اللحظة؛ إذ تعايش الذات معية الآنات الثلاثة وتعاقبها فى آن. إن الآن الخالد الأبدى هو ذلك الزمان اللازمانى، الحاضر حضورا كليا لا نهائيا فى عمق الذات فى كل لحظة من لحظات وجودها بوصفها ذاتا تحيا فى السرمد، أو كما يقول السراج الطوسى فى اللمع:
“أما قول القائل (وقتى مسرمد)، يعنى بذلك أن الحال الذى بينه وبين الله، لا يتغير فى جميع أوقاته... قال الشبلى: تسرمد وقتى فيك، وهو مسرمد، وافنيتنى عنى فصرت مجردًا”
يحوط لحظة السرمد هذه الأزل والأبد، أى مطلق اللانهائية، ومن هنا عرف المتصوفة الوقت بقولهم:
“الوقت ما حضرك فى الحال.. فالزم ما أهمك فيه لا تعلق لك بالماضى أو المستقبل، فإن تدارك الماضى تضييع للوقت الحاضر وكذلك الفكر فيما يستقبل، فإنه عسى أن لا تبلغه، وقد فاتك الوقت، ولهذا قال المحقق: الصوفى ابن وقته.. والوقت الدائم هو الآن الدائم”
ولعلنا نلاحظ ذلك الالتباس المعقد داخل هذه اللحظة، لحظة الانتباه، ما بين السعى للتجاوز، ومحاولة تأسيس الزمن الذاتى والحضور الأصيل، وإمكانات انتكاس هذا السعى، من ناحية، وتحقق المحاولة فعليا، وإحداث المعايشة الحقيقية لزمان الفكرة والمؤانسة، من ناحية ثانية.
ولقد سعى التوحيدى مثلما سعى الصوفية إلى تثبيت، وتأبيد لحظة الآن بمستوياتها الشعورية والإلهية والاحتفاظ بطزاجة اللحظة الحاضرة وعمقها وخصوبتها مكثفة الحضور، متجددة قوية مباغته حيث لا كلل ولا ملل، بل حيوية وتدفق دائمين. حينئذ، تغدو كل لحظة مفاجأة فريدة وقفزة فى المجهول الساحر المغوى لا نهائى التجلى والحيوية والتجدد.
إن هذا السعى الحثيث لتثبيت الآن يمكن تفسيره من عدة زوايا:
أولًا:
الإحساس المرعب بسرابية الزمن الحسى، ذلك المنسرب من بين الأصابع انسراب المياه الجارية، لا تكاد اليد تستطيع الإمساك بلحظة واحدة منه أو الحفاظ عليها، إنها سرابية الزمن المراوغ الذى ما تكاد تعتقد أنك امتلكته، حتى يفلت من بين يديك؛ ومن ثم سعى هؤلاء لتثبيت اللحظة خارج إطار الحسى واحتباسها داخل ذواتهم الباطنية بوصفها مرآة عاكسة وكاشفة للأزل.
إن الطبيعة المزدوجة المعقدة للحظة الآن أو الحاضر الزمنى مارست تأثيرا واضحا فى هذا السياق، ذلك أن الحاضر رغم أنه ملء الوجود فإنه أقل آنات الزمان حظا من الوجود؛ لأنه دوما طور التكوين، وهو دوما رهن الزاوية التى تنظر منها إليه، سواء كانت الماضى أو المستقبل، ومن ثم لا يوجد شىء اسمه الآن الخالص، إنما هو سير الماضى متقدما نحو المستقبل، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية، فإن الآن أو الحاضر يفترس الماضى، ولا يعيش إلا لأنه يلد المستقبل، فهو دوما إمكانية جامعة للأزمنة فى حيويتها وتواليها. ولقد وعى الصوفية هذه الطبيعة المعقدة و المزدوجة للحظة الحاضر؛ ولذا سعوا إلى جعل الآن هو وحده المستحق للحياة؛ لأنه وحده مايمكن أن تملكه اليد، وتقبض عليه دون المحالين العدميين، الماضى والمستقبل. ومن ثم يغدو الآن فى ظل هذا التصور هو الإمكانية الوحيدة لليقين الذى يجاوز أفق الماضى والمستقبل عبر نفيهما، ويعطينا الشعور بالقدرة على امتلاك الذات والوقوف فى وجه الزمن ذلك الغول الذى يسعى لتدمير ذواتنا، وإعاقته عن إخفائها والتهام حضورها. ولايتم هذا التحرر من وطأة الحضور الزمنى إلا عبر تأسيس الذات فى عمق الأبدية؛ حيث تعى الذات فى آنها الحضور الكلى للوجود، وتقتنص سر الخلود والغبطة الأزلية. تتحرر لحظة الآن بهذا المعنى من سمة النقص والسعى الدائم نحو التحقق عبر الذاكرة أو الحلم، حين كانت الذات قابعة فى مقام ليس بعد؛ أى مقام الوجود الإمكانية. وهو ما يعنى أن تغدو لحظة الآن، لحظة معانقة الاكتمال، اكتمال الأنا/ الأنت، أو تحقيق ومعايشة المعية المطلقة مع الله، لكنه الوقت، الهنيهة سريعة الزوال كالبرق، وإلا دمرت الذات وصعقت.
ثانيًا: طبيعة لحظة الآن بوصفها تجسيدا مكثفا لتجربة المعاناة الصوفية من حيث طبيعتها المتناقضة الملتبسة المتوترة. ذلك أنها اللحظة التى تثبت واقعة الهجر وتعمق الشعور بمرارة الانفصام عن الماضى النقى، والفردوس القديم، ومن ثم فهى تواجه الوعى الصوفى وتصدمه بحقيقة الانفصال الوجودى والمعرفى، وحدته، بل إنها تبدو وكأنها تنميه وتؤكده، وتدفع به إلى حدوده القصوى. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنها اللحظة التى تبعث فى الذات الصوفية أشواقها ورغبتها المحمومة فى السعى من أجل التواصل المتجدد مع أصولها الأولى التى انفصلت عنها .. بل إنها تمكنها فى الوقت ذاته من معاينة مظاهر الألوهة، أو التمتع والافتتان بشهود محاسن الغيب، والاستغراق فى جمالها الخالد، ومعانيها الصافية النقية. ومن خلال هذا الاستغراق والافتتان بالعلويات الأبديات تنعكس جماليات هذا العالم ومعانيه وحقائقه الغيبية عبر مرايا الذات الصافية لتغدو مجلى خالدا لها فى هذا العالم الزائل العدمى. أى أنها تمتص سر الوجود والخلود معًا.
ومن ثم، تولد تلك اللحظة لدى الصوفى شعورا مزدوجًا ومتناقضًا وتنميه، فمن ناحية، يشعر بضرورة تجاوز الهوة التى تواجهه اللحظة بها مواجهة قاسية ومباغته، ولكن فى الوقت نفسه يشعر بضرورة التشبث بها لما تثيره فيه من مشاعر الحب والجمال، مراوحة إياه ومقلبة له مع تجليات الحق المتنوعة معرفيا وجماليا، من ناحية ثانية. أى أنها لحظة تمنح الذات الصوفية إمكانية معايشة الألم العميق، ألم الهجر والفقد، ولكنها فى الوقت نفسه، تمنحها إمكانية التلذذ بهذا الألم الذى يعد بالمزيد من ثمرات الكشوف الإلهية، فيذوق الصوفى الهوى، ويكتوى بناره. أو لنقل إن الجمال الإلهى، والافتتان بسحره وغوايته ورعبه يتولد من عمق لحظة الألم، ليس ألم الهجر والفقد فحسب، بل ألم الرعب، رعب مواجهة القدر العبثى، والعدم المخيف. ولعله كذلك ألم المخاض الذاتى العنيف فى تلك اللحظة المصيرية الفاصلة. ومن هنا، فإن تثبيت هذه اللحظة هو تثبيت للألم وعشق لهذا الألم الذى يريد الصوفى أن يلازمه، ويستلذ به. ولعل إصرار الذات الصوفية على لحظة الحاضر هذه، هو إصرار على الامتلاء والتشبع بالمفارقة التى تنطوى عليها، ولاسيما أن هذه المفارقة هى التى تمنح التجربة اشتعالها المستمر، بحيث تبقى عصية على النفاد أو التوقف، أو حتى استنفاد واستهلاك حضور الذات..
إن لحظة الآن الصوفية هى لحظة معايشة تجربة العشق بكل توترها وقلقها، وانطوائها على مفارقة (الحب/الألم أو لذة الوصل والمشاهدة، ولوعة البعد والانفصام). ومن ثم فهى لحظة ارتباط التوتر والقلق بالسرمدية؛ أى أنها لحظة تكثيف لتاريخ معاناة الذات الصوفية، وتأرجحها المضنى ما بين الألم والحب.
ورغم هذا السعى الصوفى لتثبيت لحظة الآن، فإنه ثبات يحتوى على نقيضه حيث الحركة والحيوية والتجدد، أى أن لحظة الآن الأبدية ستُصاغ بوصفها إمكانية مفتوحة دوما لعديد من الاحتمالات؛ لأنها لحظة التقلب مع التجليات الانهائية. ومن هنا كان الصوفى ابن وقته، أى ابن هذا الحضور المتجدد دوما فى لحظاته الخاطفة والمتميزة والمتناوبة ما بين الإثبات والمحو، أو التجلى والاحتجاب.
وهكذا تتسم هذه اللحظة بقدرتها الهائلة على الجمع بين سمات متناقضة الثبات و التغير، والألم والفرح، الكشف الخلاق والحيرة المعرفية للمعنى، الحضور فى الوقت وإطلالة الأبدية، الذاتى والكلى، ناهيك عن الطزاجة والدهشة اللانهائى والمباغته والتجدد الدائم وسرعة الزوال والاستمرارية ... إلخ. ولعلها لحظة جامعة بين الأحوال والمقامات، وهو ما يمنحها كثافتها وعمقها وجمالها ورعبها فى آن.
هذه اللحظة الخاطفة الباقية بقاء الأزل فضاء جامع بين التراجيدى والجمالى فى جدلية صاخبة هادئة فى آن، تتراوح الصوفى ما بين الفرح الصافى بالحرية الكاملة من وطأة الزمان والمكان والأشياء، ومعانقة المطلق، من ناحية، وبين رعب مواجهة هذه الحرية، ودوار معايشتها خارج كل المعايير والأنظمة، من ناحية أخرى. إنها لحظة مواجهة السحر والرعب المغويين فى آن.
وأخيرًا، يمكننا القول إن لحظة الانتباه فى ظل كل ما سبق هى لحظة برزخية الطابع ذات وجهين، وجه ذاتى إنسانى مندرج فى عمق الديمومة والاستمرارية الشعورية، فاصل واصل بين الماضى والمستقبل (الذكرى والحلم)، مكثف مختزل لكليهما معا. ووجه أبدى صوفى متفرد خالد متجدد، ينفتح من خلاله زمن الذات على زمن المتعالى من أجل تأسيس الكينونة الصوفية الخالدة.