كانت الدعاية الأيديولوجية في المرحلة السوفيتية تعتمد أشد الطرق خشونة و“مباشرة”، حتى عندما تتوسّل الفن. فقد كان خصوم السلطة السوفيتية يظهرون أمامنا دائماً في صورة أوغاد ولصوص وفاجرين وكلبيين. وجوههم منفِّرة بجلاء، إن لم تكن قبيحة كل القبح. ورغم أن المسألة كانت أكثر صعوبة بخصوص الأبطال الإيجابيين، فإن “اللينينيين” المتشابهين كان فيهم على الدوام عنصر تزمت غير جمالي (فـ “الشر أسلوبي سيء دائماً”، كما قال برودسكي). لذلك كانوا يحاولون أن يخلعوا عليهم أحياناً شيئاً من الجاذبية الإنسانية البسيطة. ذلك أن الدعاية السوفيتية لم تكن تخفي أهدافها، أو مهامها، أو قيمها. لقد كانت ساذجة وذات وجه واحد.
أمّا الثقافة الجديدة، مهما أقسمتْ أنها خلوٌ من المضمَر الأيديولوجي، ومهما بدت لا سياسية ولا تفرق بين فئات المجتمع، فإنها تنتج مقولات أيديولوجية جديدة، تلد ميثولوجيا جديدة تحتل تدريجياً مكان الدعاية البلشفية السالفة، وتخلق طقوساً جديدة.
وكما في الأمثال الإنجيلية، فإن الكلب المطرود من بيتٍ خالٍ تمّ الاستيلاء عليه، يعود إليه ثانية على رأس سبعة من أخبث أنصاره.
وخلافاً للأيديولوجيا الشيوعية والشمولية (التوتوليتارية) تكون الأيديولوجيا الجديدة مجهولة النسب. إنها ليست، على وجه الحصر، أيديولوجيا يلتسِن ( أو غايدار، أو تشوبايس، أو غوسينسكي). بل هي أيديولوجيا ترغب، لأسباب معينة، أن تظلَّ، غفلاً، مجهولة الاسم. وأسهل الأشياء أن نسميها، تيمّناً بـ رولان بارت، بأيديولوجيا الرأسمالية (البرجوازية، الليبرالية) التي تفضّل الظهور غفلاً، مجهولة النَّسَب، لأسباب تعود إلى كون الرأسمالية تقابَل بالنفور سلفاً، وإلى ما تحمله هذه الكلمة من معنى سلبي في روسيا. غير أنه تتكرّس في الميثولوجيا الروسية الحديثة العهد أنماط تفكير فائضة توسّع هذا الإغفال الأيديولوجي توسيعاً فائقاً. وقبل أن نعثر على النَّسَب الحقيقي (المُغْفَل) يتوجّب علينا أن نبيّن آليات خلق الأسطورة في هذه الثقافة الجديدة.
موت المؤلف كموت الإله
تتمثّل الثقافة (العالم) في النمط الأنطولوجي للوعي ما بعد الحداثي على شكل “نص”. ذلك أن العمل الأدبي لا يعود منذ الآن كلمات ينظمها المؤلف وتعبّر بطريقتها الخاصة عن “مغزى ميثولوجي”، (عن “منطوق” المؤلف المبدع)، ويصبح “فضاء متعدد الأبعاد تتآلف فيه وتتنافر مختلف أنواع الكتابة فيما بينها، دون أن يكون نوع من تلك الأنواع هو الأصل. فالنص يتألف من مقبوسات تحيلنا على آلاف المراجع الثقافية” (رولان بارت). ومحلَّ المؤلِّف يحلّ مدوِّن ما، يقوم بما يشبه “اللعب بالخرز”، أي أنه لا ينطوي على مشاعر وأفكار وأمزجة وانطباعات، وإنما على ما يشبه ثبْتاً (كاتالوغاً) بالمعاني التي يتلاعب بها. ذلك أن اللعب بالمعاني يفترض غياب المعنى، وإبعادُ المؤلِّف يجعل جميع محاولات “فكّ شيفرة” النص ضرباً من العبث. زِد على ذلك أن استحضار المؤلِّف يعني محاولة إصرار على منح النص قيمة نهائية وإعطائه معنى، وهذا ما يعادل انتهاكَ مقصود ما بعد الحداثة، وبذلك “يكفُّ” النص عن الفعل، في نظر هذا المقصود، و“تنغلق” الكتابة. وعلى هذا النحو لا يكون إبعاد المؤلِّف مجرد مؤثر من مؤثرات الكتابة الجديدة، وإنما يكون انقلاباً أنطولوجياً، أي أن كل امرئ يقرأ كما يريد، ويتلقى كما يحلو له، لأن المؤلِّف مبعَد على جميع المستويات، ولم يعد “حجر عثرة”.
لقد ابتكر شاعر من موسكو، هو ليف روبينشتاين، مكعبات لتكون للفن الجديد نمطاً شاملاً، وعلى كل سطح من سطوح هذه المكعبات جملة من الكلمات، أو وحدة كلامية صيغت صياغة صحيحة. والخدعة أو السر في هذه المكعبات هو أنك كيفما وضعتها أو ألقيتها حصلت على نص مختلف يحق للقارئ (أو اللاعب) نفسه أن يفسِّره كما يطيب له. وكل ما يستطيعه الشاعر (المدوِّن) هو أن يخمِّن مستوى تعدد قراءات ذلك القارئ (اللاعب)، فليست التفسيرات نفسها هي ما يهمه، لأن تأليفه ينحصر في هذا “التوليف” تحديداً، أي في المادة الإيضاحية وقابليتها “للتلاعب”. فـ “المكعبات” هي صورة عالم ما بعد الحداثة الذي كيفما قلّبته، وفي جميع الأحوال يشكل نصاً، وهو بذلك ينقض فكرة وجود نص أصلي، أي - من حيث الجوهر- ينفي وجود خلْق إلهي.
وتقدم رواية الكاتب الأمريكي رايموند فيدرمان “كما يطيب لكم” مثالاً شبيهاً. إذ يملي عنوان هذه الرواية طريقة لقراءتها، ذلك أن صفحاتها ليست غير مرقمة وحسب، بل وهي غير مضمومة في مَلازمَ أو كتاب. وللقارئ الحرية في قراءتها بالطريقة التي يشاء. فبنية هذه الرواية تفضي بحد ذاتها إلى الفكرة القائلة بأن العالم “سائب” تماماً.
وهكذا، فإن هذه النصوص الموجودة على شكل شتات، “مبعثرة”، هي بحد ذاتها فعلٌ رامز من الناحية الاجتماعية، وله أساس كامل من الناحية الأيديولوجية، لأنها تشفِّر وتستعرض إغفال نسب الأيديولوجيا المهيمنة وكأنها “انعدام للسلطة”.
إن الكتابة ما بعد الحداثية بتضاربها الدائم ومعانيها المتداولة ترفض الاعتراف بأن للنص (وللعالم كنص) أيَّ سر، أو أيَّ مغزى نهائي. والحال، فإنها “تطلق حرية نشاطها المعادي للثيولوجيا، الثوريَّ في جوهره، لأن عدم توقيف تيار الفكر يعني في نهاية المطاف إنكار الإله نفسه وجميع صفاته: النظام العاقل، والعلم والشرع” (رولان بارت).
هذا هو برنامج الثقافة الجديدة الثوري. وما صياغته النخبوية هذه إلا إضفاء صبغة جمالية على المغزى المبتذل لكل أنواع الثورات، ولكنها صياغة لا تلغي ذلك المغزى إطلاقاً. والنقيض لهذا البرنامج هو تلك النظرة إلى العالم التي تسمَّى رجعية، والتي تنطلق من الإقرار بـ حقيقة واحدة تصل إلى البشرية عبر الوحي، وفي ضوئها يتطلّع “كل شيء جديد” (سأخلق كل شيء جديد“،” الوحي“21، 5) إلى تلك الحقيقة نفسها. ولكن هذا ما يعني في نظر فكر ما بعد الحداثة أن”النص قد انغلق“، و”لا مكان لتطور المعرفة“، ولا لقول:”أيِّ شيء جديد بعدُ"، إنها الحركة الدائمة لبندول ميشيل فوكو.
هذه النظرة إلى العالم يفسِّرها تيار ما بعد الحداثة على أنها وعي تقليدي، وينسبها، وَفقاً لهذه الصفة، إلى الفاشية (أومبرتو إيكو). وحتى “رفض الحداثة” يُعَدُّ في هذا النمط صفة من صفات الفاشية. وبواسطة هذا الخليط من الاستبدالات والصفات اللفظية يزرعون في الوعي العام أدلوجة التساوي بين أي دين “تقليدي” وبين الفاشية.
غير أن الفاشية في هذه الاستعمالات الدالة الجديدة ليست على الإطلاق تلك الفاشية التي تعني فعلياً فكرة الإنسان المتفوِّق (“الماكر الأبيض”)، والتفوق القومي الذي يتماهى مع العدوان العسكري وأنظمة الاحتلال ومعسكرات الاعتقال، بل إن هذه الكلمة هنا مجردة من جوهرها ولا تعود تعني أي واقع. إنها خدعة، جلد محشوٌّ بالتبن، فزَّاعة يستخدمها الأيديولوجيون الجدد لتخويف الشعوب.
وثمة احتمال كبير أن تتعرض الكنيسة لمضايقات جديدة تحت شعارات مكافحة الفاشية تحديداً...
على أن الصفة الثانية من صفات الفاشية، أي “رفض الحداثة”، أكثر مدعاة للشك. فالمسألة بعكس ذلك تماماً، حيث تبين أن الحداثة تحديداً (المستقبلية والبنائية) هي التي تتماشى مع الفاشية والبلشفية. وأسطع مثال على هذه العلاقة يتجسَّد في مصير مارينيتّي، مؤسس المستقبلية الإيطالية وزعيمها الذي ظل فاشياً طول حياته، وصاغ منذ عام 1909 في “بيان المستقبلية” تلك الأفكار التي تبنتها أيديولوجيا الاشتراكية القومية تبنياً كاملاً.
وحتى جماعة المستقبليين اليساريين (جبهة اليسار الموحَد “ليف”) عندنا، في روسيا، لم تكن مؤلفة من الحزبيين وحدهم، بل كان في صفوفها رجال استخبارات من “لجنة الطوارئ” أيضاً. لقد كانت “جبهة اليسار الموحَّد” التيار الأكثر راديكالية في حركة الحداثة الروسية، والأشد تناغماً مع البلشفية (الجميع يعرفون شعارَيها المشهورين: “سنلقي بـ بوشكِن خارج سفينة العصر!”، و “لا تتاجروا بـ لينِن”، كما كانت تكتب مجلة اليسار الموحد “ليف” بعد وفاة الزعيم مباشرة، محذِّرة من مسِّ صورته: لا تطبعوا صوره على اليافطات، وأغطية الطاولات، والصحون، والدانتيلا، وعلب السجائر).
كما أن قولة إيكو لا معنى لها، وذلك لسبب آخر أيضاً هو أن المجموعات المعاصرة ذات النزعة الفاشية، ولا سيّما الحزب القومي البلشفي الذي أسسه الكاتب إدوارد ليمونَف، تعتمد على الدعم الذي تتلقاه من جانب المثقفين البوهيميين، وتعزز صفوفها بموسيقيي الروك، وكذلك بالفنانين والكتَّاب الحداثيين وما بعد الحداثيين، أمثال زعيم “بوب- ميكانِكا” الراحل ليمونَف نفسه، وسِرغي كوريخِن، و“يغور” ليتََف (مجموعة روك “تشي دانس”)، وسِرغي بوغايف (“آفريكا”)، والشاعر أليكسي تصفيتكوف، ومنظِّر جماعة المثليين القتالية الصحفي يارَسلاف ماغوتِن، وغيرهم.
خلْقُ أسطورة جديدة
إن مشكلة تحوُّل الأدلوجات الجديدة تجد حلَّها في خلق أسطورة جديدة. فالانتقال بالظاهرة الثقافية التاريخية التي صنعها البشر إلى ظاهرة طبيعية لم يصنعها البشر هو ما يعني جعْلَها أسطورة (أَسْطَرَتَها). وهذه العملية تخدمها مهمةُ زرع الفكرة في الوعي بطريقة يكون فيها الوعي نفسه عاجزاً عن إدراك أن هذه الفكرة جاءته من خارجه، وأنها ثمرة نشاط ٍ بشري غريب عنه، أي تخدمها مهمةُ خلْق وهْم بأن تلك الفكرة ملْك الوعي قبْلياً apriori ، على شكل جوهر ثابت، كما يؤكد رولان بارت.
على أن الدعاية هي المثال الأوضح على ولادة الأسطورة الجديدة وزرعها. إذ تتمثّل الفكرة الأساسية في التأكيد على القول: أنت ما تملك. وبذلك فإن مقولة “الكينونة” تتحوّل تدريجياً لتنوب عنها مقولة “الامتلاك”: “أنت ما تملك” (دعاية الجينز).
تقدِّم الدعاية لوحة واقعية زائفة، عليها صورة عالَم “ثريِّ”، شبِع، ناجح، مبتسم، هو- في الجوهر- خرافة، عالم تحقَّق فيه امتلاك عدد كبير من الأشياء، ولذلك يسوده الرفاه والانسجام، غير أنه ما زال قابلاً لأن يصبح أكثر كمالاً عن طريق شراء سلعة جديدة ما. وهذه السلعة بالذات هي القادرة على إظهار الحياة وكأنها “الكمال كلّه”.
إن الحكْم والمعيار القيمي والعاطفي في هذا العالم هو المتعة واللذة: “لا تحرم نفسك المتعة” (دعاية مثلّجات). ذلك أن صورة هذا العالم تكتمل بشعار. وهذا الشعار يتخذ شكل قول مأثور، أو مثل شائع يدّعي الشمولية ويتّصف بالامتناع عن الشرح، أي أنه يخلع على القول صفة الظاهرة الطبيعية، أو المعطى الذي لا يرقى إليه الشك، ولا يقبل الجدل. فالعاصفة التي هبّت على موسكو قبل مدة قصيرة هي واقعة يكون أي حوار معها عديم المنطق، إن لم يكن مجنوناً.
غير أن تسجيل الوقائع هنا ليس موجّهاً إلى إثبات العالم المخلوق، بل هو – بالعكس – يرمي إلى تمويه العالم الذي خلقه الله، والسعي ِ الحثيث لإخفاء آثار الخلق وبصمات الخالق تحت “قناع من المسلَّمات” لازمانيّ وعديم ِالملامح.
فالهدف من الدعاية هو جعْلُ كل موضوع شيئاً - سواء أكان الموضوع ثقافياً، أو دينياً، أو تاريخياً، أو طبيعياً، أو غير ذلك – وتحويلُ كل إنسان إلى مستهلك، حتى ولو إلى مستهلك على سبيل الاحتمال، بعد تشفيرِ (حَجْبِ) فكرة وهمية عالم الدعاية تشفيراً موثوقاً.
ما الذي ينتظره الإنسان من امتلاك الأشياء التي تسوّقها الدعاية؟ “الحياة الجديدة” (مجلّة)، إمكانية تغيير الحياة نحو الأفضل: “فلنغيِّر الحياة نحو الأفضل!” (دعاية لمكنسة كهربائية)، “عيد الذوق” (قهوة)، “مذاق اللذّة الحقيقية” (عصير)، تمتَّع بـ “جميع مباهج الحياة” (مضاد للحساسية)، “الكمال” (شامبو)، وعلى الأقل “تطلَّع إلى الكمال” (قهوة)، اربحْ: “أنت رابح دائماً!” (مياه غازيَّة)، النجاح مرة واحدة...إلخ. وأخيراً، العالم كلّه: “العالم كلّه معك”، “العالم كلّه في جيبك”، “العالم كلّه عند قدميك”، “العالم كلَه في يديك” (شاي، علكة، مياه غازيّة، عطر)، أي “تمتَّع قدْر ما تشاء” (خبز محمَّص)، لك كامل الحق في ذلك.
“هل اقتنينا أحذية لكل يوم؟ ما هو يومك؟”، بمعنى أن“يومك”هذا يأتي عندما تصبح واحداً من مستهلكي الشركة صاحبة هذه الدعاية.
ويهتف المستهلك أحيانا: “كلّ شيء على ما يرام!” (حبوب ضد الزكام)، “كلّ شيء يسير نحو الأفضل” (قهوة)، “الروح ترقص” (علكة). ويتبين في النهاية أن من يشتري يكون جديراً بالسلعة: “L’ Oreal!إنني جديرة به!” (...).
هكذا تقاس جدارة الإنسان بمقدرته على أن يكون مستهلكاً. إن ما يحدد نوعية السلعة هو الشركة المنتجة، “علامتها”. فـ “العلامة” تغدو وهماً صِرفاً يدل على انتماء السلعة ومالكها إلى أعلى درجات الرقيّ والنجاح.
وحتى أحداث التاريخ العالمي وشخصياته (نابليون، سوفورَف، الإسكندر المقدوني...) مدعوون أيضاً ليكونوا علامة غرائبية في الدعاية لبنك “إمبريال”، مثلاً، بوصفه ضماناً “لاستقرار تاريخي عالمي”. وحتى الطبيعة الخارقة في أفريقيا (آسيا؟ أميركا اللاتينية؟)، كدعاية لسجائر “كَمِل”، تتحول إلى مجرّد استمرار “طبيعي” لرائحة تلك السجائر، إلى جزء من تغليفها كسلعة.
وعلى هذا النحو يهضم المجتمع الفكرة القائلة بأن عملية الاستهلاك، التي تجري عند شراء سلعة ما، هي اللوغاريتم الطبيعي لحياة الإنسان، وبأن الأشياء وسيلة الشخصية الإنسانية للتحقق والثقة بالنفس. فـ “أنا” سعيت لأكون في العالم “أنا” + مجموعة من الأشياء التي يُعَدُّ كلّ منها علامة على الجدارة الإنسانية والرقي.
إن النقود التي ما من شيء سواها يستطيع أن يحوِّل الإنسان إلى مستهلك، تغدو شيئاً طبيعياً، تصبح تعبيراً عن القدرة الطبيعية على التملك، واستمراراً للصفات والسيرورات البشرية الطبيعية، إذ تعبِّر عن استعدادها للقيام بوظيفة ابتلاع العالم، والارتقاء بمالكها وترسيخ وضعه.
غير أن الأشياء الممتلكة يصبح لها أيضاً وضع الصفات التي لا تنفصل عن الإنسان (جزءاً منه لا يتجزَّأ). ذلك أن الإنسان يغدو محمَّلاً بما عليه (على ثيابه) من ملصقات وأسماء شركات وعلامات تحيط به من جميع الجهات، بحيث يمكن “أن نقرأه”، وهو نفسه يريد أن يكون مقروءاً على هذا النحو. وبهذا المعنى يكون هو نفسه “نصَّاً” أُبعِد منه المؤلِّف.
وإذا كان خلق أسطورة جديدة يرمي، في أحد تطلعاته الرئيسة، إلى تحويل العالم إلى موضوع امتلاك، ووضع علامته على كل ما فيه، وكأنه يقوم بما يشبه عملية جرد لكل ممتلكاته، فسيكون الإنسان هنا في عداد الأشياء الأخرى وقد اختلطت ملامحه وحدوده مع الممتلكات المادية (إذ إنه، وَفقاً لهذا المنطق، هو ما يملك).
إن الصفة المميزة لأسلوب الحياة الجديد (الذي يمكن وصفه بـ “البرجوازي” لولا ما لهذه الكلمة من تداعيات عَرَضية لا تناسب المقام) يتمثَّل في أن حاجات كثيرة تكفّ من الآن فصاعداً عن أن تكون وليدة الضرورة، لتصبح وليدة ما تمليه “العلامة” التي تتلاعب بالوعي، أي وليدة الموضة والدعاية. ذلك أن الأشياء تتخذ صفات اجتماعية فوقَ شعورية، فتثير في التوجه السيكولوجي نفسه لدى المستهلك رغبة في أن يصبح مالكاً لتلك الأشياء لكي يُعَدَّ واحداً من جماعة اجتماعية ما، أكانت جماعة “رجال أعمال”، أم هواة موسيقى حديثة. إذ أن الأشياء كالأفكار، تبدأ تنتحل صفة الحياة نفسها في المجتمع والثقافة التي سيكون لكل شيء فيها منذ الآن صفة اجتماعية دالّة.
ونتيجة لذلك، فإن الإنسان والمجتمع والثقافة، وحتى السلطة، بوقوعهم في دائرة “سحرية” من العلامات، يفقدون الحرية الحقيقية، ويحكمون على أنفسهم بالعيش في عالم أوهام حتمي.
... إن نظرية الدعاية ليست تجسيداً لنظرية سلطة المال (“العجل الذهبي”) بقدْر ما هي تجسيد لفوضى الإنسان الشاملة وتجرُّدِه من المسؤولية وإباحيته في غياب المؤلف (الخالق).
إلا أن هدف الأسطورة يتجلّى كذلك في تأسيس نظام عالمي يجعل الإنسان يشعر فيه بأنه واثق من نفسه، مغرور، مرفَّه. والحقيقة هي أن العدد الكبير من الدعايات، وما يصاحبها من الشعارات التي تخلق وهماً باستقرار الإنسان ورفاهيته في العالم، ينطوي في ذاته على فكرة رهيبة، مؤدّاها ضياع الإنسان وحيرته وتخلّي الله عنه.
المقال فصل مترجم من كتاب “الأرثوذكسية وصنع أسطورة جديدة” صدر في موسكو أما الكاتبة، فهي باحثة روسية لها العديد من الدراسات والمقالات المنشورة في صحف روسية، خاصة في الملاحق الثقافية والفكرية، وتكتب في الملحق الفكري لجريدة نيزازيسي مايا