تعتمد الدراسات الكونية والفلكية بشكل أساسي على دراسة الضوء الذي يأتينا من الأجسام السماوية. ويمتد طيف هذا الضوء إلى ما بعد ألوان الضوء المرئي، من الأشعة السينية وحتى الأمواج الراديوية. ويرتحل الضوء في الفراغ بسرعة 300000 كلم/ثا، مما يوافق سبعة أضعاف الدوران حول الأرض في ثانية واحدة. لكن سرعة الضوء ليست لانهائية، ولهذا الأمر نتائجه الهامة جداً لعلماء الكونيات بشكل خاص. فهم يرصدون الكون بالتالي بتأخير يزداد كلما كان الرصد يتجه إلى مناطق أبعد في الكون. وهذا الفارق الزمني بالنسبة للقمر يقارب الثانية الواحدة فقط، وبالنسبة للشمس ثماني دقائق. أما بالنسبة للنسر الواقع، وهو أكثر النجوم سطوعاً في الليل فالمسافة الزمنية تصل إلى تسع سنوات، أي أننا عندما نراه اليوم فهذا يعني أننا نراه كما كان في عام 1989! وبسبب هذا الفارق في الانتقال الضوئي، لا نعرف إذا كانت بعض النجوم قد انفجرت مثلاً متحولة إلى سوبرنوفا (مستعرات جبارة). وبالمقابل، بما أن للنجوم دورات حياة تقاس بملايين ومليارات السنوات، يمكننا أن نفترض بأن ما نراه لا يختلف كثيراً عما يوجد فعلياً في هذه اللحظة. لكن عندما نرصد مجرات تبعد عنا مليارات السنوات الضوئية فإن فارق انتقال الضوء يصبح كبيراً جداً. وبما أن ضوء هذه المجرات قطع مليارات السنوات الضوئية حتى وصل إلينا فلا يمكننا التأكيد بأنها لا تزال تشبه اليوم ما نراه منها. إن المنطقة الوحيدة من الكون التي لا يُطرح فيها الأمر بهذه الحدة هي محيطنا المباشر بنصف قطر بضعة ملايين سنة ضوئية. وبسبب هذا الفارق الزمني يستحيل تقريباً على العلماء معرفة ماذا يشبه الكون الحالي بمجمله. وبالمقابل، فإن هذا الفارق الزمني يعد هاماً جداً بالنسبة للعلماء الذين يعملون في تاريخ وتطور المجرات. فهم يأخذون عينات منها على مسافات مختلفة ويعيدون بالتالي رسم تاريخ تشكلها وتطورها بدءاً من الانفجار الكبير وحتى الآن.
كيف يمكن تلخيص فكرة الانفجار الكبير للكون؟
ولدت فكرة الانفجار الكبير لدى علماء الفلك عند دراستهم للمجرات، إذ تبين لهم أنها تتباعد عن بعضها بعضاً. وفُسِّر ذلك على أنه دليل على أن الكون بكامله كان قد انطلق من حركة توسع هائلة. فإذا كانت المجرات تتباعد عن بعضها بعضاً فهذا يعني أنها كانت أقرب إلى بعضها في الماضي. وإذا عدنا بها إلى الماضي السحيق فلا بد أن مادتها كانت تشكل جوهراً أكثر تمركزاً من أية مادة معروفة اليوم بما فيها نوى الذرات. وهكذا ولدت نظرية الانفجار الكبير التي تقول إن الكون كان قد شهد في بدايته منذ نحو 12 إلى 15 مليار سنة حالة فائقة الكثافة والحرارة، والتي يشكل كوننا الحالي بقاياها المتمددة جداً بسبب توسع الكون.
إذا كان الكون يتوسع، فما الشيء الذي يتوسع فيه؟ أو ما هو المكان الذي يتوسع فيه؟
إن الكون يشتمل بالتعريف على كل ما هو موجود. ومن هنا التساؤل حول كيفية توسعه وكأنه يتوسع في شيء خارج عنه، أو بالنسبة لشيء آخر غيره. ولحل هذا التعارض لا بد من رفض الفكرة بأننا نرصد الكون من نقطة خارجة عنه. فمثل هذه النقطة غير موجودة. وبالمثل، لا يمكننا القول إن الكون يتوسع في فراغ سابق له. فالكون يتوسع بالنسبة لذاته، ويجب دائماً فهم هذا التوسع من منظور مراقب يقع داخل الكون. وهكذا فإن التوسع الكوني يشبه انتفاخ قالب الكعك. فإذا تخيلنا وجود حبيبات الزبيب داخل قالب الحلوى المنتفخ، يمكننا تشبيه المجرات بحبيبات الزبيب هذه. فكلما انتفخ القالب تباعدت حبيبات الزبيب عن بعضها بعضاً. ويمكن تشبيه التباعد أيضاً بانتفاخ كرة مطاطية نرسم على سطحها نقاطاً تمثل المجرات. وعندما ننفخ الكرة تتباعد المسافات بين النقاط - المجرات. وفي الحالة الأولى لا يجب النظر إلى التجربة من الخارج بل من داخل قالب الحلوى، أو ككائن ذي بعدين على سطح الكرة في الحالة الثانية. وفي مثال الكرة يمثل سطحها الكون كله حيث لا يوجد معنى لداخل أو لخارج الكرة.
يقودنا ذلك إلى التساؤل إين حدث الانفجار الكبير إذن؟
ثمة رغبة عارمة دائماً لرؤية الكون من الخارج. والدليل على ذلك الصورة المستخدمة والشائعة إنما الخاطئة في تمثيل الانفجار البدئي كانفجار هائل حدث في نقطة مركزية وأدى إلى تناثر الأجزاء المادية في زوايا الكون. لكن يجب التخلص من هذه الصورة الخاطئة، لأن الانفجار بالتعريف يُحدُّ بموجة صدم في حالة توسع تحدِّد داخلاً وخارجاً. وإضافة إلى ذلك فالحديث عن انفجار يعني الحديث عن مركز محدد تماماً. أما بالنسبة للانفجار الكوني البدئي فليس له مركز! فلا يوجد بين النقاط المرسومة على سطح الكرة المنتفخة نقطة تقع في مركزها، بل كافة النقاط متماثلة ومتكافئة، ويمكن القول إنها كانت كلها في حالة إنتاش في بداية الكون. وهذا يعني أن مركز التوسع وأصل الانفجار الكبير موجودان في كل مكان من الكون وليس في أي مكان منه في الوقت نفسه.
هل هناك براهين على نظرية الانفجار الكبير؟
التوسع نفسه هو الدليل الأول على الانفجار الكبير. لكننا في الواقع لا نرى المجرات تبتعد عن بعضها لأن فترة حياتنا قصيرة قياساً إلى التباعد بينها. ولهذا يرتكز العلماء على أرصاد غير مباشرة، وبخاصة انزياح ضوء المجرات نحو الأحمر. إن هذا الأثر الذي يسمى بأثر دوبلر مألوف كثيراً لدينا عندما تجتازنا مثلاً سيارة إسعاف. فكلما ابتعدت عنا بدا لنا أن صفارتها تصبح خفيضة أكثر، لأن إشارتها الصوتية تنزاح باتجاه الترددات المنخفضة، أو بالمثل باتجاه أطوال الموجة الكبيرة. وهكذا لاحظ علماء الفلك ان الإشارة الضوئية الآتية من المجرات تنزاح نحو أطوال الموجة الكبيرة، أي باتجاه الجانب الأحمر من الطيف. والتفسير الأبسط لذلك هو أن هذه المجرات تبتعد عنا بتأثير توسع الكون. وثمة براهين أخرى داعمة لهذا الاثبات. ومنها أن تطور الكون يعني أنه كان فتياً أكثر وأكثر كثافة وحرارة مما هو عليه اليوم. وهذا ما تبينه الأرصاد كلما ذهبنا بعيداً أكثر في رصد المجرات، حيث تظهر نواة المجرة الأبعد أكثر تدوماً ونشاطاً وفتوة بالتالي. وقد جاء البرهان الأكيد على توسع الكون عام 1965 عندما تم الكشف عن إشعاع يأتي من كافة الاتجاهات من السماء، وهو إشعاع الخلفية الكونية. ويأتينا هذا الاشعاع من المناطق الأبعد في الكون، بحيث نرى الكون عندما كان عمره نحو 300000 سنة بعد الانفجار الكبير. وقبل ذلك تماماً لم يكن الكون سوى حساء متجانساً من النوى الذرية والالكترونات والضوء. وقد استطاع هذا الضوء التحرر من المادة ليصل إلينا كدليل متبرد على تلك الفترة الحارة من عمر الكون.
مع تقدم رصد الكون، واكتمال النظريات الفيزيائية كما والأداة الرياضية في علم الكونيات، هل سيمكن يوماً رصد الكون بكامله؟
لقد أثبت رصد إشعاع الخلفية الكونية بشكل جلي نظرية الانفجار الكبير للكون. ومع ذلك فقد أبطل هذا الاشعاع آمال العلماء بالإجابة على هذا السؤال في إمكانية رؤية الكون بكامله يوماً ما. وفي الواقع، بما أن الكون كان قبل انطلاق هذا «الضوء الأول» منه عاتماً تماماً، فلن يمكن بالتالي الرؤية أبعد في عمق الكون. فإشعاع الخلفية الكونية هو في الواقع أشبه بجدار ضبابي لا يمكن اختراقه. وهو يشكل أفق ما نسميه بالكون القابل للرصد، أي مجمل المناطق التي كان الضوء قد انطلق منها منذ بداية الكون ليصل إلينا. ولا شك أن موضع جدار الضباب هذا يتراجع مع تقدم الكون في العمر، لكن ذلك يتم وفق إيقاع واحد. والحياة البشرية لا تزيد سوى بضع عشرات من السنوات الضوئية على مليارات السنوات الضوئية الموجودة سلفاً في الكون المرئي. فما الذي يمكن أن يوجد إلى ما ورائها اليوم؟ هل هو كون يشبه الكون المرصود حتى اللانهاية؟ هذا ما يراه عدد كبير من علماء الكونيات. وفي الواقع فهم لم يرصدوا أبداً اختلافات هامة بين مختلف مناطق الكون المرصود. وإذا أخذنا بعين الاعتبار فترة انتقال الضوء فإن الكون المرصود يبدو متجانساً تماماً. وليس هناك أي سبب يدعو العلماء إلى افتراض وجود حد ما في مكان ما من الكون. بل إن الأمر ليس سوى تعميم يتمم عدم امكانية الرؤية إلى ما وراء جدار الضباب الكوني.
هل يمكن أن نشكل مع ذلك تصوراً عما إذا كان الكون منتهياً أم غير منته؟
تندرج علوم الكونيات الحديثة في إطار نظرية النسبية العامة لأينشتين. وبحسب هذه النظرية يمكن للكون أن يُبنى وفق هندسة عامة مفتوحة أو وفق هندسة عامة مغلقة. وفي فرضية الكون المفتوح يكون الفضاء لانهائياً في كافة الاتجاهات ويحتوي الكون بالتالي على عدد لانهائي من المجرات. وبالمقابل، في فرضية الكون المغلق، يملك الكون انحناء شاملاً للفراغ. ويعمل هذا الانحناء على ثني الفضاء الكوني ثلاثي الأبعاد والتفافه على نفسه وانغلاقه: ويكون بالتالي حجم هذا الكون محدوداً وعدد المجرات التي يحويها منتهياً. ومن المستحيل على الدماغ البشري أن يتمثل فضاء منحنياً من ثلاثة أبعاد. ويمكن تشبيهه بسطح الأرض وهو فضاء منحن أيضاً إنما ذو بعدين. وفي الكون المغلق، الذي يشبه سطح الأرض، يمكن للمسافر أن ينتقل دائماً بخط مستقيم، لكنه يمر باستمرار بمناطق كان قد مر بها. ولاختيار النموذج الصحيح للكون يجب تخيل تجارب تأخذ بعين الاعتبار انحناء الفضاء أو عدمه. وبما أن هذا الانحناء إذا وجد لا يظهر إلا على مستوى مليارات السنوات الضوئية فمن الصعب القيام بمثل هذه الأرصاد. ولهذا يلجأ العلماء إلى مناهج موازية أهمها قياس «كثافة تجمع» المجرات بالاستناد على مشاعل كونية معيارية، وهي عبارة عن أجسام لا تتغير درجة سطوعها الوسطية من أقصى الكون إلى أقصاه. ومثالها المستعرات الجبارة أو السوبرنوفا. ويأمل العلماء، بحساب الآثار الطفيفة لانحناء الفضاء على الكثافة الظاهرية لهذه الأجسام، التوصل إلى قياس الانحناء الشامل للكون بشكل مباشر.
ترتبط هذه المسألة أيضاً بستقبل الكون، هل هو مفتوح أم مغلق؟
يأمل العلماء في الحقيقة معرفة انحناء الكون وهل هو مفتوح ام مغلق من خلال مسألة اخرى تبدو ظاهرياً منفصلة عن هذا السياق، لكنها لا تنفصل عنه في الحقيقة بحسب النظرية النسبية العامة. فبحسب هذه النظرية ثمة علاقة بين هندسة الكون ومصيره. فالجاذبية المتبادلة بين المادة الكونية هي المسؤولة عن انحناء الفضاء الكوني. فإذا كان الكون مغلقاً، فذلك أن مادة الكون مركزة بدرجة كبيرة بحيث يمكن لجاذبيتها أن تلجم يوماً وتعكس حركة توسع الكون. وهكذا فإن الكون المغلق في المكان مغلق في الزمان أيضاً، بحيث ينتهي في انكماش كبير هو عكس الانفجار الكبير. وبالمقابل، إذا كان الكون مفتوحاً، وكان الفضاء الكوني يمتد حتى اللانهاية، فذلك لأن مادة الكون ليست مركزة بما فيه الكفاية لكي تتمكن يوماً من إيقاف التوسع. وهكذا فإن هذا الكون يكون مفتوحاً في المكان وفي الزمان. وبالتالي فإن المادة التي يحتويها الكون هي التي ستحسم إذا ما كان مفتوحاً أم مغلقاً. وحتى الآن لا يعرف العلماء هذه الكمية من المادة التي يحتويها الكون، إذ يوجد فيه مادة لامعة ومرئية وأخرى عاتمة. ومجموع هاتين المادتين هو الذي سيقرر أي مصير سيكون مصير الكون: توسع مستمر أم انكماش. فإذا كانت هذه المادة أقل من قيمة حدية معينة فإن التوسع سيستمر دائماً. وبالمقابل، إذا كانت أكبر من هذه القيمة الحدية فإن قوى الثقالة ستنجح في عكس التوسع إلى انكماش كبير.
هل يمكن أن يكون كوننا قد ولد من انكماش كون سابق؟ وهل هناك أكوان غير كوننا الحالي؟
يجيب العلماء على هذا السؤال بأنه لا يجب فصل الكون عن زمانه كما لا يُفصل عن مكانه. وكما لا نستطيع النظر إلى الكون من الخارج كذلك لا نستطيع النظر إليه من نقطة سابقة له زمنياً. فالكون يشتمل على الزمان والمكان بكاملهما. وهذا يعني أنه لم يكن ثمة زمان قبل الانفجار الكبير. ومع ذلك فقد يكون ثمة وراء تعريف الكون على هذا النحو بأنه يشتمل على كامل المادة مع المكان والزمان إمكانية لوجود أكوان أخرى غير كوننا. وعندها يمكن أن يكون كوننا قد ولد من انسحاق كون سابق له! وهناك عدد كبير من علماء الكونيات يرون أنه بالإمكان وجود أكوان غير كوننا، إنما بحيث أن هذه الأكوان لا تتكاشف مع كوننا ولا تؤثر عليه أو بشكل أدق على ما يمكننا رصده. ويعمل عدد من هؤلاء على وضع نماذج لأكوان فائقة بحيث لا يكون كوننا سوى فقاعة فيها.