هناك أدباء عاثرو الحظ، لم ينالوا من الحياة إلا الفشل والحسرة والندم. ولكنهم تركوا وراءهم أدباً يشهد على عمق الحزن والعبور المأساوي في هذا العالم. وكلما كان عذابهم كبيراً كان أدبهم قوياً وشاهداً على عظمة المحنة والتجربة. يحصل ذلك كما لو أن الفشل في الحياة هو الشرط الأساسي للنجاح في الأدب! أنظر حياة بودلير وبقية الشعراء الملعونين، من فيرلين إلى رامبو إلى لوتريامون. من بين هؤلاء الأدباء المنحوسين يحتل جيرار دو نيرفال مكانة خاصة. ومعلوم أنه ولد في بدايات القرن التاسع عشر ومات بعد منتصفه بقليل (1808-1855). وعلى الرغم من أنه لم يعش إلا سبعة وأربعين عاماً، فإنه يعتبر أحد كبار أدباء فرنسا في ذلك القرن بالإضافة إلى فيكتور هيغو، وبودلير، وبلزاك، وفلوبير، والكسندر دوما وسواهم. والغريب في الأمر هو أن القرن التاسع عشر تجاهله تماماً ولم يعرف قيمته، بل وكان يعتبره كاتباً ثانوياً لا يستحق الاهتمام. وحده القرن العشرون أنصفه ورفعه إلى مصاف الكبار. وهذا شئ يصعب علينا تصديقه نحن الآن. فمن لا يعرف اليوم اسم جيرار دو نيرفال في فرنسا؟ من لم يسمع به؟ ولكن الحقيقة هو أنه قد ينجح أديب ما في عصره وينال شهرة كبيرة ويصبح على الموضة كما يقال، ثم سرعان ما يخفّ تأثيره لاحقاً ويضمحل، ويكتشف الناس أنه ليس إلا كاتبا عادياً بل وأقل من عادي. وقد يعجز كاتب ما عن التوصل إلى الشهرة في عصره، ثم تكتشف الأجيال التالية أنه كبير وعبقري حقاً. ولهذا السبب يرفض بعض الأكاديميين من أساتذة الجامعات أن يدرسوا الأدباء المعاصرين، أو أن يكرسوا لهم أطروحات الدكتوراه، لأنك لا تعرف من الذي سيبقى، ومن الذي سيغربله الزمن وتطويه متاهات النسيان. ونحن بحاجة إلى مرور فترة معينة من الزمن، وربما فترة طويلة، قبل أن نتأكد من أهمية هذا الكاتب أو عدم أهميته. نحن بحاجة إلى اتخاذ مسافة كافية عنه لكي نستطيع أن نحكم عليه. فالزمن يغربل كل شيء. ووحدهم الكبار يجتازون امتحان الغربلة بنجاح. كم كان عدد الشعراء المعروفين في عهد المتنبي؟ كثير جداً. ومن بقي منهم؟ لا أحد تقريباً باستثناء أبي فراس الحمداني، وربما بعض الآخرين الذين نسيت اسمهم. ولكن بالمعنى القوي للكلمة وحده المتنبي بقي، ومعظم الآخرين زالوا. صحيح أن عظمة المتنبي كانت واضحة منذ البداية، ولكن في بعض الأحيان يطغى الشاعر السطحي البراق على المبدع العميق والصعب.
كانت ولادة جيرار دونيرفال في باريس، ولكن أمه ماتت بعد سنتين من ولادته. والسبب هو أنها أخطأت ورافقت زوجها الطبيب العسكري إلى ألمانيا مع جيش نابليون بعد أن وضعت طفلها مباشرة. ولم تتحمّل خضّات الحملة العسكرية وتقلبات الطقس والأجواء، فماتت من الحمى وعمرها لا يتجاوز الخامسة والعشرين ربيعا. وهذه الأم الغائبة هي الجرح الأساسي الذي فجّر في جوانح نيرفال شعلة الأدب. لقد أصبح غيابها حاضراً كل يوم، أصبح أقوى من كل حضور. فبعد أن كبر لم يفهم لماذا تركته أمه وهو رضيع ورافقت زوجها في الحملة العسكرية. كان بإمكانها أن تبقى في البيت لكي تشرف عليه. لقد أحس نيرفال بالهجران منذ البداية. أحس وكأنه مهجور أنطولوجياً، أزلياً، أبدياً، أي قبل أن يخلق تقريباً! وأدرك عندئذ أن الإنسان ملقى في هذا العالم لوحده ولا يمكنه أن يعتمد حتى على أقرب المقربين. وربما كان هذا هو السبب الذي أدى إلى اختلاله النفسي لاحقا. الإنسان وحيد، ووحدته شاسعة واسعة لا حدود لها. وبما أنهم قبروا أمه في ألمانيا فإنه ظل يشعر طيلة حياته بعواطف الحنين والحب تجاه تلك البلاد. بل وكان يحبها أكثر من فرنسا. ولذلك راح يترجم الأدب الألماني بكل شغف، ففيها قبر الأم الغالية، وبالتالي فهي الأرض المقدسة والوطن. ولذا كان يحج إلى هناك من حين إلى آخر لكي يرى قبرها، لكي ينحني عليه ويقبله. فهي لم تتركه كرهاً به وإنما ضرب القدر ضربته. وعندما عاد أبوه من الحرب بعد مرور عدة سنوات بدونها كان نيرفال قد بلغ السادسة من العمر، وأصبح صبياً صغيراً يلعب مع أولاد الجيران. ونظر إليه في البداية دون أن يعرفه، ثم هجم عليه وضمّه إلى صدره بقوة وكأنه يراه لأول مرة. فتضايق الصبي من شدة الضمّ والعناق وحاول أن يدفع أباه قائلاً “يا أبي إنك توجعني!”، فاشتهر بهذه الكلمة فيما بعد.
والواقع أن نيرفال عاش طفولته لدى أعمامه أو أخواله في منطقتين جميلتين من ضواحي باريس غير البعيدة. ومن خلال الاحتكاك بالطبيعة الريفية تشكلت شخصيته الأولى ومشاعره وأحاسيسه. والطبيعة الفرنسية ساحرة، فالغابات والأنهار والأشجار منتشرة في كل مكان على مد النظر. ونادراً أن ترى مدينة إلا وهي واقعة على ضفاف نهر أو بحر. ولهذا السبب يعتبر نيرفال أحد شعراء الرومنطيقية الفرنسية. ولكنه عاد إلى باريس لكي يكمل دراساته ويقوم بأول ترجمة فرنسية لكتاب غوته “فاوست”. وكان من زملائه في المدرسة تيوفيل غوتييه أحد أصدقاء بودلير أو بالأحرى أحد أساتذته. وقد انضم معه إلى حلقة فيكتور هيغو وانخرط شخصياً في معركة “هيرناني” الشهيرة. وهي المسرحية الرومنطيقية التي كتبها هيغو عام 1830 وانقسم الناس حولها بين مؤيد ومعارض. وقد دارت حولها معركة كبيرة. وحصل اشتباك بالأيدي بين الكلاسيكيين والرومنطيقيين، أو القدماء والمحدثين. وكان نيرفال بالطبع في جهة المحدثين والطليعيين. ثم عاش الشاعر بعد ذلك عدة سنوات بوهيمية مع أصدقائه في حارات باريس وأزقتها. وربما كانت الفترة الوحيدة السعيدة في حياته. فقد كتب عنها فيما بعد قائلاً “يا له من زمن سعيد ذلك الزمان! فقد كنا نحضر الحفلات والأعياد، ونلعب في التمثيليات العتيقة... كنا سعداء، فرحين دائماً، وأحياناً أغنياء....”. ولكن غناه لن يدوم طويلاً، فقد بدّد الإرث الذي ورثه عن أمه في شهور معدودات، وأصبح فقيراً يبحث عن لقمة الخبز.
ثم أدركته حرفة الصحافة وأصبحت فيما بعد مصدر رزقه الوحيد. وكان يقدم للجرائد والمجلات الفرنسية عروضاً نقدية عن الكتب الصادرة، أو عن المسرحيات المعروضة في مسارح باريس، أو عن المعارض الفنية، الخ....
ثم سقط جيرار دونيرفال في الحب لأول مرة عام 1934، فقد تعلق بمطربة كانت مشهورة في ذلك الزمان وتدعى جيني كولان. ولكنها ضحكت عليه بعد أن بادلته العواطف لفترة قصيرة. فقد فضلت أن تتزوج رجلاً آخر ذا مستقبل راسخ ومضمون من الناحية المادية. فماذا يمكن أن تفعل مع هذا الشاعر البوهيمي المتسكع من حارة إلى حارة في شوارع باريس؟ وأي أمل مع الشعراء أو الأدباء؟ ولكن حبها ظل عالقاً في قلبه، والدليل على ذلك أنها عندما ماتت فجأة عام 1942 أحس بلوعة وحسرة. وتخمَّر كل ذلك في أعماقه النفسية قبل أن ينفجر لاحقاً في روائع أدبية خالدة. وبعد موت حبيبته الأساسية قام جيرار دو نيرفال برحلة شهيرة إلى الشرق، أي إلى اسطنبول، ومصر، ولبنان أساساً. فهل كان يريد أن يعزّي نفسه، أن ينسى؟ لقد أمضى نيرفال حياته كلها في البحث عن المرأة، لكن دون أن يجدها. ولحسن الحظ أنه لم يجدها، فلو أنه وجدها لما خلَّف لنا تلك الصفحات الخالدة التي تضجُّ باللوعة على حب ضاع، أو عمر منصرم بدون لقاء. وربما كان يبحث في جميع النساء اللواتي تعرف عليهن في الشرق أو الغرب عن امرأة واحدة، هي المرأة الغائبة التي وضعته في هذا العالم ثم سرعان ما تركته والتحقت بالعالم الآخر دون أن تسأل عنه. كان نيرفال يبحث عن الحب، والطمأنينة، والعيش الرغيد، والبيت الدافئ. ولكنه خسر ذلك كله أو قل لم يجده أصلا. ولذلك عوَّض عنه ببناء بيوت رائعة في الخيال. فمن يستطيع أن يمنعه؟ كل حياته عاشها في الحلم والخيالات وضباب الأوهام. كل حياته أضغاث أحلام. ولو أن نيرفال توصل إلى مبتغاه وتزوج المرأة التي أحبها وحقق الحياة الرغيدة السعيدة، لما عاش في عوالم الخيال وخلَّف لنا كل ذلك الأدب.
ينبغي أن تختار في لحظة ما إما أن تنجح في الحياة وتفشل في الأدب، وإما أن تنجح في الأدب وتفشل في الحياة. ولكن هل هناك من اختيار في الواقع؟ الأمور مفروضة عليك “من فوق” شئت أم أبيت. وحده فيكتور هيغو استطاع أن ينجح في الحياة والأدب في آن معاً. ولكن فيكتور هيغو شخص نادر في التاريخ ومحظوظ جداً. أما بودلير، أما بلزاك، أما دوستويفسكي، أما رامبو، أما فيرلين، فكلهم ضحّوا بالحياة لكي ينجحوا في الأدب. كلهم طحنتهم الحياة طحنا، أو قل إن الحياة التي جروا وراءها بكل قوة هربت من بين أصابعهم وأدارت ظهرها لهم، فراحوا يعزّون أنفسهم عنها بكتابة عالية ندعوها نحن بالأدب.
لقد خسر نيرفال كل شيء، بل وخسر حتى توازنه الشخصي، وهذا أخطر شئ. فقد أصيب عام 1841 بأول أزمة نفسية في حياته، ولكنها للأسف لن تكون الأخيرة. فقد تلتها أزمة أخرى أشد وأعنف عام 1851، وبين الأزمتين راح يكتب أجمل مؤلفاته. بل وحتى عندما كان معتقلاً في المصح العقلي أو في مستشفى المجانين كما نقول، فإنه راح يكتب بعض روائعه الخالدة، أنظر “بنات النار”، و“نزهات وذكريات”، و“أوريليا” أو “الحلم والحياة”. ثم تدخل الأصدقاء لتحريره ولكن ضد رأي الطبيب الذي لم يكن واثقاً من أنه استرد توازنه فعلا. وللأسف فقد كانت توقعاته صحيحة. فقد وجدوه بعد فترة قصيرة مشنوقاً في ساحة “شاتليه” الواقعة في وسط العاصمة الفرنسية. كانت ليلة ليلاء، شديدة البرد والزمهرير، كانت ليلة ما فيها ضوء. وبعد أن دقَّ على أبواب عديدة وأُغلقت جميعها في وجهه لم يجد بداً من الانتحار كحل وحيد لمشكلته. ويبدو أنه قال لعمته التي كان نازلاً عندها، لأنه لم يكن له بيت في أواخر أيامه “هذه الليلة سوف تكون بيضاء وسوداء، لا تنتظرينني...”. لقد تخلى عنه الجميع بعد أن أصيب بالمرض العقلي وفقد هيبته الشخصية. ولم يعرفوا قيمته وطيبته إلا بعد وفاته. فقد كان مشهوراً بالطيبة وحب الآخرين، ولكن لم يكن له حظ في الحياة. نعم لقد خسر جيرار دو نيرفال الحياة وربح الأدب: الأدب كأعظم ما يكون.
بدلاً من العالم الواقعي المحسوس راح نيرفال يبتدع عالماً آخر من صنع الخيال ويسكنه. إنه عالم لا أجمل ولا أبهى؛ عالم خال من ضغائن الناس ومكرهم ومناوراتهم وشرورهم، عالم الحبيبات اللواتي لا يعطين أنفسهن إلا في الخيال. ولذلك اخترع مصطلح الأحلام “ما فوق الطبيعية”. وقد أخذ السورياليون عنه هذه الكلمة فيما بعد واعتبره زعيمهم أندريه بريتون أحد روادهم الأوائل. فالعالم الحقيقي بالنسبة له ليس عالم الواقع الذي نعيشه ونراه كل يوم، وإنما عالم ما فوق الواقع أو ما وراء الواقع. إنه ليس العالم الطبيعي وإنما ما فوق الطبيعي. وهذا هو المعنى الحرفي لكلمة سوريالية باللغات الاجنبية. وبالتالي فهو مخترع كلمة السوريالية وليس بريتون. في العالم الواقعي لا توجد إلا الخيبات والآلام، والمصائب والنكبات، لا توجد إلا الشرور والمناورات والأكاذيب والمطبات. أما في عالم ما فوق الطبيعة الذي يحلق في الأعالي فلا يوجد إلا الصفاء والنقاء، والمحبة والحبور. وهناك تستطيع أن تفعل ما تشاء، تستطيع أن تلهو وتلعب وتبني قصورا في الهواء.. أنت حر. تستطيع أن تفصّل الأمور على هواك، فتصبح أغنى الناس وأنت فقير مدقع، تصبح أسعد الناس وأنت شقيٌ مهموم. هكذا راح نيرفال يتواصل مع جميع النساء اللواتي أحبهن وامتنعن عليه في هذه الحياة الدنيا. راح يلتقي بهن على أجنحة الخيال، في عالم أثيري مسحور. وكان يعتقد جازما بأن هناك تواصلاً بين هذا العالم والعالم الآخر ولا يوجد أي حجاب حاجز كما يتوهم معظم الناس، ولكن وحده الشاعر الملهم يستطيع أن يتصل بالعالم الآخر من خلال أحلام اليقظة. بل إن أمه التي لم يعرفها أبداً في حياته لأنها ماتت وهو صغير جداً - كما قلنا - راحت تتجلّى له في الحلم. ففي ليلة من الليالي شعر بإشراق داخلي وهّاج، وفجأة ظهرت له امرأة ملائكية وقالت له “أنا أمك يا جيرار، أنا جميع النساء اللواتي أحببتهن بشكل أفلاطوني وبحثت عنهن طيلة حياتك دون أن تجدهن. وقريباً بعد أن تموت سوف نلتقي اللقاء الأبدي، هنا في دار الخلود، وسوف تراني لأول مرة. لأول مرة سوف نلتقي يا جيرار، فلا تخف، إني أنتظرك. نحن على موعد مع القدر، لنستمع إلى هذه القصيدة الجميلة التي تلخص كل ذلك