“زمن الخيول البيضاء” هي الرواية السادسة من روايات مشروع “الملهاة الفلسطينية” الذي يعمل الشاعر والروائي إبراهيم نصرالله عليه منذ عام 1985. تتناول الرواية الجديدة أكثر من ستين عاما من الحكاية الفلسطينية، بدءا من نهايات القرن التاسع عشر حتى عام النكبة. وستصدر في شهر أكتوبر المقبل عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.
—
الشمسُ في وسط السماء والظلُّ نقطة محاصرة، الحساسين التجأت لأشجار السَّرو.. اندسَّت في الخضرة الداكنة، أما حقل الذرة فقد هدأ كما لو أن الموت سيبزغ منه فجأة.
اعتصر خالد جبينه بأصابع يده اليسرى، فكر أن يبقى في هذا اللهيب واقفاً، حتى تظهر، لا بد أن أحدا سيُعْلِمُها بالأمر، تعرف وتأتي، بعد ساعات اكتشف أنه لم يكن يفكر في الأمر بل كان يفعله.
حوّل الطريق إلى خيط من الصمت، وانفجرت في الأعلى صرخات صقر حلَّقَ طويلاً، قبل أن يُغير على فريسة لا بد أن تكون قد تحرّكتْ.
لم يتحرك.
لم تكن منيرة تريد أن تُلفتَ الانتباه لما يفعله ابنها بعيداً عن بيوت القرية، طوتْ لسانها، وجلست على قلبها مخافة أن يسمع أحد دبيب الرعب الذي يهزّه. ولم يدم الصمت طويلا.
راقبوا الشمس تدور حوله، راقبوا الظل يَقصِرُ ويطول، مرّ اليوم الأول كما لو أن أحداً لا يرى ما يراه، وفي اليوم الثاني تهامسوا، وفي اليوم الثالث اندفعوا من كل الجهات نحوه. وفي اليوم الرابع قال لهم: كل ما تستطيعون فعله، أن تأخذوا (الحمامة) بعيداً عن هذه النار.
كان قد صمَّم أن يواصل بقاءه في المكان نفسه، حتى النهاية.
—
ابتعدوا بالحمامة، لكنها في اليوم الخامس عادت وحدها، ألقتْ عنقَها على كتفه، حيَّره: كم كان رأسها خفيفاً. تلمَّسها لكي يتأكد من أنها معه. كانت أقرب ما تكون إلى ريشة أو نسمة. داهمه الرعب فجأة، أمسك بها مخافة أن تهب ريح وتخلعها عن جسده.
همهَمَتْ الحمامةُ بشيء لم يفهمه، وكان الناس يراقبون عن بُعد.
— الحمامة وحدها تستطيع أن تعيده إلينا. قالت منيرة. يخاف عليها أكثر مما يخاف على نفسه، لن يقبل أن تظلَّ في الشمس واقفة هكذا. لكن الحمامة تسمّرت إلى جانبه.
في اليوم التالي، رأوه يخلع عباءته السوداء ويلقيها على رأس الحمامة؛ قالت منيرة: لقد جُنَّ الاثنان.
كانوا يودّون أن ينتهي الأمر قبل يوم السّوق، قبل أن تندفع القرى والمضاربُ من كل الاتجاهات نحو الهادية، قبل أن يأتي الهبَّاب ورجاله، قبل أن يتحوّل الأمر إلى حكاية يعرفون أي مدى ذاك الذي يمكن أن تبلغه.
جاء يوم السّوق..
قبل شروق الشمس، اندفع الحاج محمود نحوه غاضبا، اندفع أخوته: سالم، محمد ومصطفى، منيرة، عمته الأنيسة، العزيزة، حاولوا أن يعودوا به، لكنه كان قد تحوَّل إلى رمح غاص في التراب، ولم يبق سوى القليل خارجه، القليل الذي، بالكاد، يمكن أن تحيط به يد.
—
جاؤوا بالشيخ ناصر العلي، وقف أمامه، سأله، وظلَّ صامتا، وكان يعرف السِّر: أعدتُ لكَ ذات يوم مَنْ كانت موجودة، لكنني لا أستطيع أن أُوجد لكَ مَنْ لم تُوجَد.
وللمرة الأولى سمعوه يتكلم: ستظهر.
مرَّ الهبَّاب على ظهر فرسه الحمدانية قاصداً السوق، كان بعيدا، وخُيِّل إليه، لخالد، أن أعينهما التقت. بدا الهبَّاب أقلّ طولا من أي يوم، ورآه الهبَّاب كذلك، الهبَّاب الذي لعن اليوم الذي وجِدَتْ فيه المرأة على الأرض.
كل ما لم يقله الناس قالته الريح، وهي تلتفُّ بصمت حوله، تدور وتمضي بأسراره بعيدا، ولم يكن هناك من حل سوى أن تظهر.
—
فكَّر الهبَّاب بمصيبته، ولم يعرف إن كان أكثر حظاً من ذلك الذي تحرقه الشمس، أم لا. ورأى حياتَه أكثر حلكة.
ظهورها سيفتح لخالد بوابة الأمل. لكن الهبَّاب كان على يقين من أن الأمل لم يكن موجودا من قبل.
—
ثمة شيء غريب أيقظ شهية الجوارح في السماء، رائحة موت، ربما، أو الإحساس بوجود فريسة سهلة.
تكاثرت الصقور في الجو وأتتْ نسور لم تظهر من قبل وغربان.
—
يعرف الحاج محمود أن ابنه لم يكن يقبل في أي يوم من الأيام، أقل من أن يمضي بالأمر حتى نهايته، ولم يكن ذلك جديدا؛ كان مستعدا لأن يصمت شهراً كاملا، أو يغضب شهرا كاملا، أو أن يندفع حتى حافة الدنيا.
—
ذات يوم خرج خالد بقطيع الأبقار نحو السهول التي كانت ضمن أراضي الهادية، وهناك وجد مجموعة من الرجال يرعون مواشيهم ويغنّون. كان يحبُّ صوت (الشّبابة) فظلَّ ينتظر إلى أن انتهوا من غنائهم. ذهب إليهم وطلب منهم أن يأخذوا أبقارهم ويرحلوا لأن المرعى للهادية. وكان النزاع على مناطق الرّعي في بعض مواسم القحط يصل إلى إراقة الدماء. رفضوا. هددهم، سخروا منه، وقد تحلقوا حوله. عندها أدرك أنه لن يستطيع الدفاع عن نفسه ما دام في وسطهم. ادَّعى أنه سيذهب؛ وحين ابتعد قليلاً، رمى حجرا أصاب أحدهم. لحقوه، وكان هذا ما يريده. هرب، إلى أن اعتلى سفح تل صغير، وكلما ألقوا حجرا نحوه تلقاه بعصاه وأبعده، إلى أن أحسّ بتعبهم، فبدأ بإلقاء حجارته، وبعد نصف ساعة كان قد أصابهم كلهم. بعضهم كان يعرج وبعضهم لا يستطيع رفع يده وبعضهم انفجر الدم من رأسه مغطياً عينيه. تركهم على حالهم، وعاد إلى القرية كأن شيئا لم يكن.
كان لا بدَّ للقضاء من أن يتدخّل لحلِّ المشكلة، مع وجود كل تلك الإصابات، رغم أن خالد لم يكن قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره. كانت تلك هي المرة الأولى التي يقف فيها خالد أما الشيخ ناصر العلي. سأله: ما الذي حدث؟ فقال خالد: كنت ذاهبا لرعي الأبقار في أراضينا فمنعوني وتجمّعوا عليَّ كلهم وضربوني، وكما ترى لا أستطيع المشي. ورفع طرف قمبازه، ليرى الشيخ ناصر قدمه التي لفّها خالد بقطع من القماش.
سألهم الشيخ ناصر: وأنتم؟ وكانوا شبابا ورجالا وآثار إصاباتهم واضحة، فقال الأول: هذا الأشقر ضربني. وهو يشير إلى خالد. وقال الثاني: الأشقر. وهكذا راحوا يرددون الكلمة نفسها والشيخ ناصر العلي يهزُّ رأسه إلى أن انتهوا؛ وعندها نظر إليهم وقال: إخصْ عليكم أكثر من عَشَر رجال يغلبهم ولد. وطلب منهم أن ينصرفوا. وقبل أن يخرجوا انحنى خالد وأبعدَ الرّباط عن قدمه وهو يقول: وأعترف يا سيدي إنه ما أصابني ولا حجر، وهاذي رِجْلي سليمة وما فيها إشي!!
وعندها راح الشيخ ناصر العلي يضحك من قلبه وهو يردد: والله إني حبّيتك! روح الله يُنصرك على كل من عاداك!
—
يذكُرُ الحاج محمود ذلك اليوم البعيد الذي ذهبوا فيه لصيد الغزلان، يذكر كيف أصاب خالد غزالة كانت قد أثقلتْهُم خِفَّتُها؛ راوغتهم، وراحت تتوارى في سفوح لا تصعدُها الخيل.
فجأة ترجَّلَ، وصاح: ولكنها لي!! وانطلق يعدو خلْفها.اختفى. انتظروه حتى تعبوا. تركوا خيولهم في الوادي. صعدوا خلفه متتبعين آثار خطاه وخيط دم راح يتحوّل إلى نقاط صغيرة حتى تلاشى في النهاية، كما لو أن جرح الغزالة قد جففته رياح اندفاعها.
عندما فقدوا الأمل عادوا. لعلَّ الأمل وراءهم هناك. لعلّه عاد من طريق آخر، لعله مضى نحو الهادية وقد أصبحتْ أقرب إليه عند بلوغ السفوح البعيدة.
عادوا..
ولم يكن هناك.
كان أكثر ما يقلقهم عدم وجود سلاح معه سوى يديه العاريتين.
اختبأ في السفوح يومين، حتى باتوا على يقين من أن الغزالة لن تعيده، أنها مضت به إلى (بلاد الوَداود إللي بتودِّي وما بتعاود) كما تقول أمه، البلاد التي لم تُعد يوما أحدا أخذته.
طمأنهم الحاج محمود: سيعود.
في النهاية عاد خالد، الغزالة تتفلَّتُ حولَ عنقه، وتنطح الهواءَ بقرنيها الصغيرين، وصدرَه بقوائمها الموثقة.
أنـزلها عن عنقه، كما يُنـزِلُ طفلا، بهدوء ومحبة.
— لو كنتُ مثلكِ لفعلتُ ما فعَلتِ، ولو كنتِ مثلي لفعلتِ ما فعلتُ. ليس هنالك غالب ولا مغلوب، قال لها. اتّفقنا؟!
لكنها كانت مغلوبة..
—
انحنى، حلَّ وثاقها، تراجعَ خطوات قليلة، أصبحتْ في المنتصف تماما، عيون البشر تحدّق فيها، وتَعِدُ بطونَهم بوجبة مُشتهاة. بصعوبة وقفتْ، دارتْ حول نفسها، دون أن تُفارق عيناها العشبيتان وجوه الناس. وعندها، أدركتْ أنها بحاجة لجناحين على الأقل كي تتجاوز الحائط البشري المُحْكَم.
أحنتْ رأسها لدقائق، وحين رفعته، كانت تحدّق في عينيه مباشرة. وأمام دهشة الجميع سارت نحوه حتى وقفتْ أمامه ساكنةً تماماً. رفعتْ رأسها ثانية، لكنه لم يجرؤ على النظر في عينيها من جديد. وفهمتْ ذلك؛ ولذا، كان لا بدَّ لها من أن تخطو الخطوة الأخيرة لتلامسه، وأدركَ أنها ستفعلها، وأن ذلك سيعني الكثير، لكنه لم يتحرّك، وتحركتْ هي، مسَّتْ طرف قمبازه بوجهها. أحس بدفء أنفاسها، ولم يكن عليها سوى أن تجعله يحسّ أكثر بلمستها.
قطعتْ المسافة الباقية بين قمبازه وجسده بملامستين رقيقتين له برأس قرنها الأيمن. عندها همس الحاج محمود: إنها تستجير بك.
وتراكم الصمت أكثر.
استدارَ بجسده قليلا، كما لو أن قامته قد تحوَّلتْ إلى باب، ومنه خطتْ الغزالة خطوتها الأولى خارج الدائرة البشرية، وعلى مهلها ظلتْ تسير إلى أن اختفتْ في البعيد.
—
— كيف عدتَ بها؟ سألوه.
— مثلما ذَهَبتْ. بهدوء. انتظرتها في الطريق الذي لا بدَّ أن تعود منه للماء، وكان لا بد أن تعود. اختفيتُ وراء صخرة دون حركة إلى أن سمعتُ وقْع خطواتها يقترب، حبستُ أنفاسي، إلى أن وصلتْ، وعندها التقينا معا وجهاً لوجه، بقينا صامتَين، وقبل أن تُدركَ ما يدور كنت قد أمسكتُ بها.
—
بعد ثلاثة أيام من انقضاء السّوق، كانوا قد فقدوا الأمل تماما، وباتوا مستسلمين للفضيحة التي لم تعد سراً، تركوه وحده مع الحمامة، نصفهم غضبٌ ونصفهم شفقةٌ. امتدت يده إلى جيب قنبازه، ما إن ابتعدوا، أخرج منديلها السّكري وراح يتشممه.
عند الغروب سمع خطواتها، حبسَ أنفاسه، أطلقتِ الحمامةُ صهيلا مكتوماً، ربَّتَ على عنقها طالباً منها أن تهدأ، واقتربتْ الخطى أكثر وأكثر، إلى أن تأكد من أنها خطواتها؛ وفي تلك اللحظة داهمه حسٌّ عميق بأنه لن يسمع بعد اليوم خطاها تبتعد.
هدأ كل شيء فيه، لم يكن بحاجة إلى أن يتحفَّز، أو يقفز، ظلتْ تسير إلى أن وصَلَتْهُ ووقفتْ أمامه وجها لوجه.
وحين سارت من جديد احتكَّ ذراعها به، فاستيقظتْ هناك لمسة الغزالة.
وبهدوء راحت تبتعد.
هبَّتْ ريحٌ خفيفة فجأة، حرَّكتْ عيدان القصب، استدار، وراح يسير وراءها بالهدوء نفسه، وخلْفه كانت تسير سحابة بيضاء.