يصف القرآن الكريم الحالة السابقة على الخلق والتكوين في الآية السابعة من سورة هود: “وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وكان عرشه على الماء، ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.” فقبل ظهور العالم لم يكن سوى الماء والعرش وخالقهما. ثم خلق الله السماوات والأرض على ستة مراحل متتابعة. وأما هدف هذا الخلق فهو الإنسان الذي أخلفه الله في الأرض ليُظهر جدارته بهذه الخلافة، ويمارس عمله الحر الخلاق من خلال خصيصة الحرية التي وهبه إياها الله تعالى.
لاتعطي الآيات الكريمة المتعلقة بالخلق والتكوين جدولاً زمنياً لتتابع أعمال الخلق والتكوين، وإنما يكتفي معظمها بالحديث عن خلق السماوات والأرض إجمالاً في ستة أيام واستواء الخالق بعد ذلك على العرش. ومنها: “الذي خلق السماوات والإرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش. الرحمن فاسأل به خبيراً”.- الفرقان 59. وأيضاً: “ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وما مسَّنا من لُغوب.”- ق 38. وكلمة لُغوب الواردة في هذه الآية تعني التَعَب. وفي هذا على ما يبدو تصحيح لما ورد في توراة اليهود من أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع الذي هو يوم السبت. على أننا نفهم من آيات معينة أن الله قد خلق الأرض وما عليها أولاً ثم خلق السماء، ومنها: “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو بكل شيء عليم.”- البقرة 29. أما عن خلقة بقية مظاهر الكون والطبيعة فقد تم خلال هذه الأيام الستة وما من إشارة إلى ترتيب معين في أسبقية الظهور.
وقد جاء خلق الله هذا تاماً وكاملاً، وسيبقى كذلك إلى اليوم الموعود. فالعالم كله حَسَنٌ وخيّرٌ يسير وفق الخطة التي وصفها الله له، ولا سلطة من أي نوع للشيطان عليه: “الذي أحسن كل شيء خلقه.”- السجدة 7. “فتبارك الله أحسن الخالقين.”- المؤمنون 14. “ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت.”- المُلك 3. “وكل شيء عنده بمقدار.”- الرعد 8. “الشمس والقمر بحسبان.” – الرحمن 5. “والسماء رفعها ووضع الميزان.” – الرحمن 7.
لا تفيدنا آيات الخلق والتكوين عن ترتيب ظهور الملائكة في خطة الخلق، ولكننا نعرف أنها كائنات سماوية ذات قوى متفوقة تحيط بعرش الله: “وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم.” – الزُّمر 75. ولهؤلاء الملائكة عدد متنوع من الوظائف؛ منهم رسل بين السماء والأرض: “الحمد لله فاطر السماوات والأرض، جاعلٌ الملائكة رُسُلاً.” – فاطر 1. وقد ذكر القرآن من أسماء الملائكة: جبريل (= جبرائيل)، وميكال (= ميكائيل)، ومالك. والجن هم فريق آخر من الكائنات غير المادية خلقها الله قبل خلق الإنسان: “ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون، والجان خلقناه من قبلُ من نار السموم.” – الحجر: 26-27. وتعبير نار السموم هنا يعني النار الصافية التي لا يخالطها دخان، ومثله تعبير مارجٍ من نار: “وخلق الجان من مارجٍ من نار.” – الرحمن 15. وهذا يعني أن الجن مخلوقون من نار غير أرضية، فهم طاقة صافية بدون أجسام. ومع ذلك فإنهم يسكنون المجال الأرضي. وينقسمون إلى شعوب وقبائل شأن البشر.
بعد أن فرغ الله من خلق السماوات والأرض عزم على خلق الإنسان، فأطلع الملائكة على نواياه، ولكنهم أبدوا تحفظاً على هذه الخطوة لأنهم رأوا أن هذا المخلوق الجديد سوف يكون فاسداً وميالاً إلى سفك الدماء. فقال لهم ربهم إنه أكثر منهم علماً ويعرف تماماً نتائج ما يفعل: “وهو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو بكل شيء عليم. وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة. قالوا: أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون.” – البقرة 29-30. وهنا نستطيع المقارنة مع نص الهاجادة العبراني الذي اقتبسنا منه في المقالة السابقة، عندما استطلع الخالق رأي رؤساء الملائكة فيما هو مُقدم عليه من خلق الإنسان، فجاءت مشورتهم سلبية لأنهم رأوا أنه سيكون ميالاً إلى النزاع والقتال. فقال لهم: “ما نفع وليمة معدة بعناية وفيها كل الطيبات إذا لم يكن هنالك من يتمتع بها.” وفي ذلك إشارة إلى ما خلق الله على الأرض وهيأها لاستقبال الإنسان.
ثم خلق الله آدم من تراب الأرض الممزوج بالماء، مثلما تُصنع الآنية الفخارية: “ولقد خلق الإنسان من صلصال كالفخار.” – الرحمن 14. “إنا خلقناهم من طين لازب.” – الصافات 11. والطين اللازب هو الطين اللزج الرخو. وكذلك الحمأ المسنون: “ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون.” – الحجر 26. وقد تولى الله خلق آدم بيده لا بكلمته الخالقة، تكريما له وتشريفاً، على ما نفهم من خطابه اللاحق لإبليس: “قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟” – سورة ص 75. وهنا نستطيع المقارنة مع نص الهاجاده أيضاً، عندما مد الرب يده واغترف أربع قبضات من تراب جهات الأرض الأربعة، ثم عجنها وسواها إنساناً.
وبعد أن انتهى الخالق من صنع جسد آدم نفخ فيه من روحه ليهبه الحياة: “وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، ثم سواه ونفخ فيه من روحه.”- السجدة: 7-9. وبذلك صار آدم نفساً حيةً، يجمع في تركيبه عنصرين، الأول مادي ينتمي إلى الأرض، والثاني روحاني ينتمي إلى عالم الألوهة. وهنا نستطيع المقارنة مع نص سفر التكوين التوراتي، ومع بقية الأدب التوراتي المنحول الذي يتحدث عن خلق الإنسان. فقد ورد في سفر التكوين 7،2: “وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة الحياة فصار آدم نفساً حيةً.”
هذا التكوين الخاص الجامع بين المادة الظلامية والروح الإلهية، هو الذي جعل آدم مميزاً على بقية الكائنات الحية ومفضلاً حتى على الملائكة و الجن. ولكي يظهر الله فضل آدم عليهم فقد علَّمه أسماء جميع مخلوقات الأرض ثم عرضهم على الملائكة لينبئوه بأسمائهم فعجزوا، ولكن آدم فعل ذلك: “قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض؟” – البقرة 31-33. وهنا نستطيع المقارنة مع نص سفر التكوين التوراتي حيث ورد: “وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء، فأحضرها إلى آدم ليرى ماذا يدعوها، وكل ما دعا به آدم ذات نفس حية فهو اسمها. فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية.” ولكن نص الهاجادة هو الأنسب للمقارنة مع النص القرآني لأنه يحتوي على العناصر نفسها. فلكي يثبت الرب للملائكة تفوق آدم عليهم، جمع كل حيوانات الأرض وعرضها عليهم زوجاً زوجاً لينبئوه بأسمائها ولكنهم عجزوا. ثم عرضها على آدم بعد أن أوحى إليه بأسمائها، فنطق بها. ونلاحظ هنا الإضافة المتميزة الذي قدمها نص الهاجادة على سفر التكوين التوراتي، والتي تتمثل في تحدي الرب للملائكة أن ينبئوه بأسماء كائنات الأرض، ثم تعليمه آدم تلك الأسماء قبل أن يدعوه إلى عرض علمِه على الملائكة. وهذه العناصر هي التي عادت للظهور في النص القرآني.
بعد أن أثبت الله للملائكة تفوق آدم عليهم أمرهم بالسجود له، فصدعوا بما أُمروا إلا واحداً منهم أخذته العزة الملائكية والغرور، وفضل العصيان على إظهار الاحترام لمن اعتبره أقل منه مكانةً في سُلَّم الخلق، وجوهر التراب الذي خلق منه آدم لا يسمو على الجوهر النوراني الذي خلق منه الملائكة. وكان اسم ذلك الملاك إبليس: “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.” – البقرة 34. “قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين. قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين.” – الأعراف 12-13.
عند ذلك استرحم إبليس ربه أن يؤجل عقوبته إلى يوم الناس الأخير عندما تجزى كل نفس بما عملت، فيعطيه الله هذه المهلة الطويلة، فيأخذ على نفسه عهداً بالانتقام من آدم الذي تسبب في سقوطه، ومن ذريته إلى يوم الدين، وذلك بإغوائهم وحرفهم عن طرق الله ليكون مأواهم جهنم وبئس المصير: “إذ قال ربك لملائكة إني خالق بشراً من طين، فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين. قال: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي؟ أستكبرت أم كنت من العالين؟ قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. قال: اخرج منها فإنك رجيم، وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين. قال: رب فانظرني إلى يوم يبعثون. قال: فإنك لمن المُنظرين إلى يوم الوقت المعلوم. قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلَصين. قال: فالحقُّ، والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين.” – ص 71-85. “قال: أنظرني إلى يوم يبعثون. قال: إنك لمن المُنظرين. قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم، ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين. قال: اخرج منها مذءوماً مدحوراً، لَمَن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين.” – الأعراف 14-18.
لا يوجد أي لَبس في هذه الآيات بخصوص شخصية إبليس، فهو واحد من الملائكة عصى أمر السجود لآدم. لأننا عندما نقول: جاء التلاميذ كلهم إلا أحمد، فإن أحمد هذا لا يمكن أن يكون مدير المدرسة أو أوحد أساتذتها بل هو أحد التلاميذ. والبنية اللغوية في هذه المواضع من القرآن الكريم واضحة في دلالتها ولا تحتمل التأويل. ومع ذلك فقد وردَ في القرآن إشارة إلى أن إبليس كان من الجن: “وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا، إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه.” – الكهف 50. وهذا من متشابهات القرآن التي لا أود الدخول في مناقشتها في هذا الحيِّز الضيِّق.
فيما يتعلق بتكبر إبليس واستعلائه على آدم، وما يتبع ذلك من سقوطه وتحوله إلى شيطان، نستطيع المقارنة مع ما ورد في اللاهوت المسيحي عندما عرف لوسيفر (على ما أوردناه في المقالة السابقة) أن الله يُعد خطة لخلق كائن جديد مصنوع من مادة كثيفة لاترقى إلى ماهيتهم النورانية، ففضل لوسيفر مجده الملائكي على القصد الإلهي، وعلى الخضوع لكائن أقل منه روحانية ونورانية، فأدار ظهره للسماء وتبعه عدد كبير من الملائكة الذين ارتأوا رأيه، فقادهم نحو الشفق الخافت حيث الوجود يلامس العدم، وأخذوا على عاتقهم مهمة إفساد الإنسان الذي فضله الله عليهم. ولكن الأسفار التوراتية المنحولة تقدم مادة أصلح للمقارنة مع النص القرآني بسبب احتوائها على عنصر السجود لآدم، وعلى وجه الخصوص “سفر حياة آدم” الذي عرضنا له في مقالة سابقة، حيث يقص إبليس على آدم قصة طرده من الفردوس قائلاً: “عندما نفخ الرب في أنفك نسمة الحياة دعا ميكائيل جميع الملائكة وقال لهم: اسجدوا لصورة الرب كما أمر، وكان ميكائيل أول الساجدين. وعندما حثني على السجود قلت: لن أسجد لمن هو أدنى مني مرتبةً. فلما سمع الرب قولي ثار غضبه علي وأنزلني من مرتبة المجد مع أتباعي وطردنا من مقرنا العلوي إلى الأرض”. وهنا يضيف نص الهاجادة قول إبليس: “لقد خلقتنا من ألقك وبهائك، فكيف تأمرنا أن ننطرح أمام من خلقته من تراب الأرض؟” وهذا القول يشبه في شكله ومضمونه قول إبليس في سورة ص: “أنا خير منه، خلقتني من نار وخلقته من طين.” وقوله في سورة الإسراء: “أأسجد لمن خلقت طيناً؟”
وفيما يتعلق بالتماس إبليس تأجيل عقوبته إلى يوم يبعثون لتكون لديه فرصة كافية لإغواء بني آدم، وحصوله على المهلة، نستطيع المقارنة أيضاً مع الأسفار التوراتية المنحولة، وعلى وجه الخوص مع كتاب اليوبيليات الذي عرضنا له في مقالة سابقة، حيث ورد: “فأمر الرب ملائكته أن يوثقوا الشياطين جميعاً، ولكن رئيسهم الإبليس مستيما مثل أمامه وطلب منه ألا يهلك الشياطين جميعاً، بل يترك له قسماً منهم لمساعدته على متابعة أعماله الشريرة، فاستجاب الرب لطلبه.”
بعد هذه الأحداث، أسكن الله آدم في الجنة ثم خلق منه زوجة له. ولكن الرواية القرآنية لا تنص على خلق المرأة من ضلع آدم، على ما تقول به الرواية التوراتية، ولا تطلق عليها الاسم حواء: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها” – النساء 1. “ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكُلا منها حيثُ شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين” – الأعراف 19. “فقلنا يا آدم إن هذا (= الشيطان) عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى.” طه: 117-119. ولكن الشيطان جاء إلى آدم ووسوس إليه مزيناً له الأكل من الشجرة: “فوسوس إليه الشيطان قال: يا آدم هل أدُلك على شجرة الخُلد ومُلك لا يبلى؟ فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفِقا يخصفان عليهما من ورق الجنة... قال: اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو. فإما يأتينكم مني هدىً فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً.” – طه: 120- 124.
وفي آيةٍ أخرى يوسوس الشيطان إلى الزوجين لا إلى آدم وحده: “فوسوس لهما الشيطان ليُبدي ما ووري عنهما من سوءاتهما، وقال: ما نهاكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملَكَين أو تكونا من الخاسرين. وقاسمهما إني لكما من الناصحين، فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة. وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين؟ قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين.” – الأعراف: 20-24. ولكن رحمة الله ترافقت مع غضبه، فما لبث حتى غفر للإنسان خطيئته: “فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه. وقلنا: اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين. فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم.” – البقرة 36-37.
على الرغم من أن قصة سقوط الإنسان في الرواية القرآنية تحتوي على جميع العناصر التي تقوم عليها الرواية التوراتية في الإصحاح الأول والثاني من سفر التكوين، إلا أنها تنفرد برؤيتها الخاصة لمعنى ومغزى القصة. فالشيطان قد وسوس لآدم أولاً، ثم إلى الزوجين معاً. ثم إن الاثنين قد أكلا من الشجرة المحرمة، دون الإشارة إلى أن المرأة كانت البادئة بالأكل والمحرض عليه. وبذلك فقد برأ القرآن المرأة من التحريض على المعصية الأولى، وألقى اللوم على الطرفين معاً. ثم إن الله لم يلعن الإنسان بسبب معصيته ولم يلعن الأرض بسببه كما هو الحال في الرواية التوراتية، بل تاب عليه وطرده إلى الأرض ليعمرها ويعمل فيها، مثبتاً أهليته لمغفرة ربه من خلال متابعة مقاومته للشر عبر التاريخ إلى اليوم الموعود: “ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين.” – البقرة 36. “فإمَّا يأتينكم منى هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” – البقرة 38-39. وهذا يعني أن مفهوم الخطيئة الأصلية غير موجود في العقيدة القرآنية، وأن نسل آدم لم يرث خطيئته لينوء بها عبر تاريخه، وإنما هو قادر على تحقيق خلاصه من خلال الإيمان بالله تعالى ومحاربة الشر الذي يبذره الشيطان.
ومن ناحية أخرى، فإن عصيان إبليس واتخاذه جانب الشر ليس العنصر الأكثر أهمية في صيرورة التاريخ. فالشر لا يصدر عن إبليس بقدر ما يصدر عن النفس الإنسانية الحرة والواعية: “ونفس وما سوَّاها، فألهمهما فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دسَّاها.” – الشمس: 7. فمهمة الشيطان تنحصر في تأييد النوازع الشريرة في نفوس الذين انحازوا بحرية إلى الشر: “ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزَّا” – مريم: 83. “ومن يَعْشَ عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو قرين.” – الزخرف 36. أما الذين آمنوا واتخذوا جانب الخير فليس للشيطان إليهم سبيل: “إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانه على الذين يتولونه وهم به مشركون” – النحل: 99-100. “إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من الغاوين” – الحجر 42. “ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين. وما كان له عليهم من سلطان” – سبأ: 20-21. “إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، وكفى بربك وكيلاً.” – الإسراء: 61-65.
خلال المرحلة الثانية من التاريخ، التي تبتدئ بسقوط الإنسان وطرده إلى الأرض، ينشط إبليس وجنوده فيُضلون ويُفسدون. ولكن الله الأمين على عهده ووعده يتابع صلته بالبشر ليجنبهم مهاوي الشيطان: “ولقد أرسلنا رسُلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط.” – الحديد 25. “قد جاءكم الحق من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها.” – يونس 108. “لقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.” – النحل 36. ولكن هذا الصراع المفتوح بين الخير والشر لن يستمر إلى ما لا نهاية، لأن الزمن يسير نحو نهاية محتومة، ومقررة سلفاً في صلب خطة الخلق: “وما خلقنا السماوات والأرض إلا بالحق وأجل مسمى” – لقمان 29. “إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين.” – الدخان 40. ولسوف ترجح كفة الخير في الهزيع الأخير من التاريخ، الذي يتوج بيوم القيامة.
والهزيع الأخير من التاريخ يبتدئ بالبعثة المحمدية التي توجهت للناس كافةً لا لقوم معين من الأقوام: “ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين.” الأحزاب 40. “وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً” – سبأ 28. “هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور.” – الطلاق 11. لقد بينت الرسالة المحمدية لجميع الناس، وللمرة الأخيرة، الحد الواضح بين الهدى والضلالة. وما زال هناك وقت للاختيار قبل أن يأتي يوم الفصل: “لا إكراه في الدين. قد تبين الرشد من الغي. فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.” – البقرة 256. ولسوف يشهد الهزيع الأخير من التاريخ فلاح القصد الإلهي في تخليص البشر: “إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً.” – النصر 1-2. أما من بقي وليه الشيطان فموعده الساعة، يوم تتم هزيمة الشيطان وجنده وأتباعه: “سيُهزم الجمع ويولون الدُبُر. بل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمرُّ.” – الفجر 46. “ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون.” – المجادلة 9FONT> DIV>
الثلاثاء ديسمبر 31, 2013 9:59 am من طرف فيصل