لقد مررت سريعا على بعض المواضيع التي تتعلق بالقرآن الكريم من عناوينها.. بعضها يزعم تضمن القرآن لأخطاء نحوية لغوية و بعضها الآخر لأخطاء علمية.. ناهيك عن مواضيع أخرى تدور حول تناقضات القرآن و تضارب آياته.. و لأن الموضوع الواحد تكرر هنا و هناك طرحنا هذا الموضوع كرد جامع على مزاعم الأخطاء النحوية على أن لنا في بقية المزاعم كلاما حين تنسانا مشاغل الدنيا و همومها..
دعونا أولا ننسلخ من عقائدنا الى حين و نتخلى عن تطرفنا و عصبياتنا و لنتكلم بلغة العقل و الواقع..
في البداية أريد أن أشير إلى نقطة محورية و هي محاولة البعض النيل من بلاغة القرآن و نُظمه البديعة و الإيهام أنه لا يختلف عن غيره من النصوص الأدبية التراثية أو ربما أسوء من بعضها.. !!!!, في الحقيقة تلك مزاعم لا تستحق الرد.. فالشاهد أن الخصوم قبل الأتباع قد أجمعوا -أو يكادون- على حسن القرآن و جماله و بلاغته منذ العهد الأول عهد الفصاحة و الطلاقة و البلاغة و الشعر.. و لا أظن مرجعا يصلح لتُقاس عليه الفصاحة و البلاغة أصدق و أبلغ من ذلك العهد.. ربما لا ترتقي تلك البلاغة عند البعض لتكون معجزة و حجة على سماوية القرآن و هذه وجهة نظر محترمة قابلة للنقاش و لكن حين نحاول النيل من بلاغة القرآن و الانتقاص من قيمته الجمالية لمجرد أننا لا نعتقد أنه من السماء فتلك هي العصبية بعينها التي دعوت إلى التخلي عنها.. فكونه ليس بمعجزة لا يعني و لا يستلزم بالضرورة كونه ليس بليغا.. فبهذا المنطق سوف ننكر كل القيم الفنية الجمالية الإنسانية لمجرد أنها بشرية..!!!!!
و لنعد إلى مزاعم الأخطاء النحوية و التي أظنها من أوهن و أضعف الحجج و الدلائل التي يسوقها خصوم القرآن لأسباب عدّة نذكر بعضها :
أولا : علم اللغويات يتغير و يتطور ليساير التطور الإنساني ذاته و فيه الكثير من الحالات التي تشذ عن القواعد العامة بل و قد يختلف علمائه في بعض دقائقه و لنا في مدرستي الكوفة و البصرة مثالا.. و ربما من أشهر من دعا إلى إصلاح القواعد و الأصول التي قام عليها النحو العربي هو "ابن مضاء القرطبي" في كتابه "الرد على النحاة" في القرن السادس الهجري ثم تتابعت دعوات الإصلاح من بعده إلى يومنا هذا.. فهو في النهاية إرث إنساني تراكمي متطور و متغير و لا يمكن أن يُقاس بدقائق العلوم..
ثانيا : يكاد يُجمع المؤرخون على أن مؤسس علم النحو هو التابعي أبو الأسود الدؤلي في عهد الخليفة علي بن ابي طالب ثم تبعه بعد ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي و تلميذه المشهور سيبويه.. و لو تجاوزنا الحديث عن الأسباب التي دعت إلى التفكير في تأسيسه -و التي تؤكد بمجملها أن القرآن أهمها على الإطلاق- فلا شك أن كلام العرب و إرثهم الأدبي التراثي الشعري و النثري على السواء فضلا عن القرآن هو المادة الخام في تقرير قواعد النحو.. فعلماء النحو استشهدوا بكلام العرب في تقرير قواعدهم النحوية بما يُعرف بالشواهد اللغوية.. و لا شك أيضا أن من بين أهم و أقوى تلك الشواهد على الإطلاق هو القرآن نفسه.. و السؤال هنا.. إن جاز لنا التشكيك في هذا أو ذاك فهل من الأولى أن نشكك في ذلك الإرث الأدبي و الذي قامت به و عليه و من أجله علوم النحو أم نشكك في فعالية علماء النحو في الإلمام بشتى الأساليب و المناهج و تفريطهم في التعامل مع حالات وجب الأخذ بها كواقع لا يجب بأي حال من الأحوال تجاوزه..!!؟, فالإرث العربي بكل ما يحويه من كلام العرب هو الحجة على علماء النحو و ليس العكس.. و ليس من صلاحية و مهام النحويين فرض قواعدهم الصارمة على واقع كان قبلهم و لكن وجب عليهم التعامل مع ذلك الواقع كما هو بنوع من المرونة و الليونة تكسر صرامة تلك القواعد.. و عليه.. فمن غير المقبول و لا المعقول أن نحاكم الإرث العربي القديم و منه القرآن بقواعد النحو التي تأسست من أجله و لكن نحاكم فعالية قواعد النحو بذلك الإرث لأنه هو الواقع و هو الأصل و الأساس.. و إن كان القرآن يتضمن حالات تكسر القواعد العامة للنحو و مثله في ذلك الإرث العربي من شعر و نثر فالأحرى على النحويين أن يتحلوا بجانب من المرونة لتساير كلام العرب و تحوي أساليبهم و أن يتخلوا عن تلك الصرامة و التعقيدات التي جعلت العرب من أجهل الأمم بقواعد لغتهم.. هذا ما دعا بعضهم في العصر الحديث لإعادة النظر في أصول النحو بل منهم –كالأستاذ راسم طحان- من اتهم سيبويه بالتعمد في تعقيد قواعدها لمنع انتشارها لدواع عرقية..
ثالثا : من غير المنطقي و لا المقبول أن نظر إلى حالة كسر القواعد العامة دائما بنظرة الزلل و الخطأ.. فلا يعقل أن نساوي في هذا بين العالم المشهود له و بين عامة الناس.. فالأولى أن نستفسر و نبحث عن مقاصد العالم في كسره للقواعد بدل أن نرميه بالخطأ فيما لا يُعقل أن يخطأ فيه.. و لو نظرنا إلى هذا الكسر دائما بمنظور الخطأ و الزلل ما تطورت البشرية قيد أنملة.. فما التطور إلى كسر للمعارف و القواعد المتعارف عليها بين الناس.. فكيف نرمي القرآن المثل الأعلى في الفصاحة و البلاغة بأخطاء لا يقع فيها حتى بعض العوام من الناس في حين أن الغالب الساحق منه يخضع إلى القواعد العامة للنحو.. !!؟, فقطعا الكسر ليس من باب الخطأ و الزلل و لكن له أبواب أخرى من الأساليب اللغوية و الأغراض البيانية.. و كمثال على ذلك الآية 69 من سورة المائدة التي يستشهد بها الكثير "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" فالصابئون هنا جاءت مرفوعة رغم أنها معطوفة على اسم "إن".. و لو أخذنا هذا من باب الأسلوب البياني الذي يفيد التوكيد و لفت الانتباه لزال الإشكال من أساسه.. فالصابئون جملة اسمية اعتراضية بمبتدأ و خبر محذوف تقديرها "إن الذين آمنوا و الذين هادوا -والصابئون كذلك- و النصارى.." و هذا يفيد التوكيد و الدلالة على أن حتى الصابئين الذين لا كتاب لهم إن هم آمنوا بالله تعالى و اليوم الآخر و عملوا صالحا فسيكونون من أهل الجنة فما بالك بغيرهم من أهل الكُتب.. فإن كانت قواعد النحو على ما هي عليه من صرامة تقبل هذا الوجه فلماذا لا زلنا نصرإذا على وجود خطأ .. !!!؟
تحياتي الخالصة
الإثنين ديسمبر 23, 2013 11:09 am من طرف باسل