ساحة الحرية فريــق العــمـل
الجنس : عدد المساهمات : 902 معدل التفوق : 6211 السٌّمعَة : 25 تاريخ التسجيل : 11/12/2011
| | لأُمَّة وحروب العولمة الثمانية | |
مصطفى شفيق علام(رئيس قسم العلاقات الدولية بالمركز العربي للدراسات الإنسانية) منذ انفراط عقد الدولة العثمانية وزوالها رسميًا عام 1924م أصبحت الأمة الإسلامية تعيش لأول مرة منذ تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة قبل أربعة عشر قرنًا، من دون كيان جامع –ولو بصورة رمزية– يُعبِّر عن وحدة الأمة ورمزها السياسي المُعبَّر عنه بالخلافة، فمنذ ذلك الحين شقت "الدول القومية" Nation States طريقها لتغطي خلال فترة وجيزة خريطة العالم الإسلامي برمته لاسيما مع بدء مرحلة انتهاء الحقبة الاستعمارية كأحد التجليات التي ميزت عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.ومع تنامي الاتجاهات التفكيكية والتفتيتية داخل الجسد الإسلامي الكبير، وبالتوازي مع دعوات إحياء "القُطرية" الضيقة بين أبناء الأمة الإسلامية برعاية القوى الغربية المهيمنة، بدأت تلك القوى الغربية تنتهج ذات النهج الذي تهدف وتسعى إلى إبعاد الأمة الإسلامية عنه ألا وهو النهج الوحدوي التجميعي للجهود والمقدرات. حيث بدأت الأحلاف والمحاور والتكتلات تتشكل في الجسد الغربي ممثلة في مؤسسات فاعلة من قبيل حلف شمال الأطلسي "الناتو"، والاتحاد الأوروبي، وتجمعات "النافتا" و"الميركوسور" و"الآسيان" وغيرها.وهكذا تمكن الغرب "الحضاري" بعد تفكيك الدولة العثمانية من السيطرة على المنطقة العربية والإسلامية، التي هي قلب العالم الجغرافي والحضاري أيضًا، ومن ثم استطاع الهيمنة على العالم وقيادته تكريسًا لهيمنة الرجل الأبيض ودوره الرسالي الحضاري المزعوم، فمن يسيطر على القلب يسهل عليه السيطرة على الهامش والأطراف. ولم تمر سوى عقود قليلة على بدء هذه الثنائية المتناقضة – التفكك العربي والإسلامي من جهة، والتكتل الغربي بأشكاله وصوره المختلفة من جهة أخرى، حتى بشرتنا قائدة المعسكر الغربي وحاملة لواءه ودرة تاجه الإمبريالي الولايات المتحدة الأمريكية ببدء عصر جديد من الحضارة الإنسانية أطلقت عليه "عصر العولمة" Age Globalization. العولمة صنو الأمركةوالعولمة؛ ذلك المفهوم الملتبس الغامض الذي بات النغمة السائدة في العلاقات الدولية والعلوم الاجتماعية منذ تسعينيات القرن الفائت وحتى لحظتنا الراهنة، لن تجد لها تعريفًا جامعًا يكشف أسرارها ويسبر أغوارها. ولقد تبارى الكثير من مثقفينا "المقلِّدين" لكل ما هو مستورد من الأفكار والثقافات دون أن يكون لهم أثارة من فكر أصيل أو مسحة من أصالة علمية راسخة، في التبشير بالعولمة بين شعوبنا ومجتمعاتنا العربية المسلمة، باعتبارها الخلاص من آفات الفقر والجهل والمرض والتخلف وضعف التنمية المستدامة، وأنها السبيل الوحيد للرقي والتقدم والحضارة، وأنا أزعم أن جل هؤلاء المثقفين –أو مدعي الثقافة إن شئت الدقة- لا يعرف عن مفهوم العولمة غير طنطنات فارغة وعبارات مبهمة ينقلها عمن ينبهر بهم من مفكري الغرب ومنظريه، ويرددها هكذا دونما وعي أو تفكير.إن مسألة البحث والتحليل لتوضيح معنى العولمة ليس مجرد مسألة معرفية مجردة فحسب، بل هي ضرورة ملحة للدفاع عن مصالح الأمة وهويتها في وجه أنظمة العولمة الغربية التي تهدف إلى السيطرة على مقدرات الشعوب مستخدمة أرقى منجزات العلم والتكنولوجيا والمعلوماتية وشبكات الاتصال.لذلك سنكتفي بتعريف واحد جامع لمعنى العولمة، أطلقه أحد أبرز المفكرين الأمريكيين المعاصرين وهو توماس فريدمان، حيث قال "نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، والعولمة هي الأمركة، والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورية خطيرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق. إن صندوق النقد الدولي قطة أليفه بالمقارنة مع العولمة. في الماضي كان الكبير يأكل الصغير، أما الآن فالسريع يأكل البطيء"(1).ويقول فريدمان في موضع آخر: "إن العولمة تعد بصورة كبيرة، وإن لم تكن كلية، هي الأمركة، ابتداء من ماكدونالدز إلى ماكنتوش إلى ميكي ماوس، والعولمة لها محدداتها التكنولوجية التي تكفل السيطرة على كل جوانب الحياة كالعالم الرقمي والاتصالات عبر الأقمار الصناعية والألياف الضوئية والإنترنت"(2). في أبعاد العولمة الثمانية إذن فالعولمة باختصار وبكلمة واحدة هي الأمركة Americanism، ويمكن القول إن هناك ثمانية معان مختلفة تجمع أبعاد مفهوم العولمة أو الأمركة في صيغته البنائية والعملياتية، يمكن تلخيصها في عناوين العولمة المالية، والتكنولوجية، والاقتصادية، والبيئية، والجغرافية، والثقافية، والسوسيولوجية، وأخيرًا السياسية(3).وتصف العولمة المالية ما يطلق عليه السوق الآنية العالمية للنتاجات المالية المتعامل بها في كبريات المدن المالية –الغربية بالأساس- على مدار اليوم، ومن ثم تصبح النتاجات المتعامل بها في غيرها مدن العالم مجرد تابع يدور في فلك أسواق المال الكبرى صعودًا وهبوطًا، ولعل خير مثال على تلك التبعية المالية ما آلت إليه الأوضاع في أسواق العالم من انحطاط في ظل الأزمة التي ضربت أسواق المال الأمريكية منذ منتصف العام 2008 ولا زالت آثارها مستمرة حتى اللحظة الراهنة دون أن يبدو في الأفق نهاية واضحة لها.أما العولمة التكنولوجية، فإنها تصف المجموعة المترابطة من تكنولوجيا الكمبيوتر والاتصالات وعمليات ربطها بالأقمار الصناعية والتي نجم عنها ظاهرة انضغاط الزمان والمكان والانتقال الفوري للمعلومات عبر العالم. وإذا كانت الفجوة الرقمية بين العالمين الغربي والإسلامي لا تخفى فإن الادعاء بأن هذا البعد التكنولوجي للعولمة يصب بالأساس في مصلحة الطرف الأول لا يكون إجحافًا بقدر ما هو توصيف للواقع، لا سيما إذا كان العالم الإسلامي يكتفي بدور المستهلك للتكنولوجيا أو المجمّع لمفرداتها على أفضل تقدير.وبالنظر إلى العولمة الاقتصادية فإنها تصف نظم الإنتاج الجديدة التي توصف بالمتكاملة، وتشير إلى تمكين الشركات الكونية المتعدية الجنسية Multinational Corporations الغربية بالأساس من استغلال عناصر الإنتاج عبر العالم على اتساعه لاسيما العالم الإسلامي الذاخر بثرواته وموارده الأولية والبشرية كذلك، بما يعني هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي، بل هيمنة النمط الأمريكي بالأخص، على مقدرات وثروات العالم الإسلامي الاقتصادية والذي يكتفي أبناؤه عادة بدور المستهلك الشَّرِه لكل ما هو غربي وأمريكي. إذن فإن البعد الاقتصادي للعولمة إنما يعني بالأساس استثمار شعوب العالم وتحويل كل قدراتها إلى مؤسسات هائلة تملكها مؤسسات غربية محدودة العدد، تسيطر ليس على كوكب الأرض فحسب بل على فضاءه الخارجي كذلك.وتأتي العولمة البيئية، لتسعى من خلالها القوى الغربية إلى محاولة غسل يديها مما تقترفه بحق كوكب الأرض من تلويث وإفساد كنتاج لنهضتها التكنولوجية والتقنية دون أدنى مسؤولية عن مخاطر تلك التقنيات وآثارها البيئية المدمرة، بل يصور الغرب لنا أن الحفاظ على البيئة مسؤولية مشتركة بين الجميع، الشمال والجنوب، الغني والفقير، المتقدم والنامي أو المتخلف، وكأن المقصود من ذلك بمنتهى الصفاقة أن يجني الغرب الربح والفائدة منفردًا، ويتشارك التكلفة مع الآخرين أو يلقي بجلها عليهم إن استطاع، بدعوى وحدة الإنسانية والمصير المشترك!أما العولمة الجغرافية، فتعني باختصار وبدون تزييف لحقائق الأمور، إعادة تنظيم الحيز أو المساحة في الكوكب، بين القوى الغربية المهيمنة، عبر تقاسم مناطق النفوذ والأسواق في العالم، بدعوى الشراكة تارة والتكاملية والاعتمادية تارة أخرى. ولعل خير مثال على تلك العولمة الجغرافية المزعومة لاقتسام النفوذ، الاهتمام الأمريكي والصيني المتزايد بالقارة الأفريقية التي تعد منطقة نفوذ للقوى الأوروبية التقليدية، لاسيما فرنسا، التي باتت تشعر بقلق كبير إزاء الاستراتيجية الأمريكية والصينية الجديدة في أفريقيا(4)، الأمر الذي دفع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للهجوم على من قال "إنهم يتطلعون إلى إعادة استنزاف ثروات القارة ومواردها الأولية"(5).وتظل العولمة السوسيولوجية، هي الخيال الرومانسي الجامح الذي تسعى القوى الغربية للترويج له عبر مقولات من قبيل "المجتمع العالمي" و"الكل الاجتماعي المترابط"(6)، وهي المقولات التي تعني ذوبان وتماهي الكل الإنساني في الجزء الغربي "المتحضر" و"الرسالي" الذي يقدم النموذج المثالي لما يجب أن يكون عليه البشر جميعًا حتى يلحقوا بركب الحضارة والتقدم الذي يزعم الغرب احتكاره بالأساس.ولعل العولمة الثقافية أو البعد الثقافي للعولمة خير مكمل للشعارات السوسيولوجية الزائفة والبراقة التي تروج لها القوى الغربية، حيث تسعى تلك القوى إلى إلى ما يمكن وصفه بـ "تغريب الثقافة" Westernization of culture وقولبة نمط الحياة الاجتماعية للدول والشعوب بكل ما تحتويه هذه العملية من طمس للشخصية الوطنية وتساهل أمام الوافد الغربي من السلع الاستهلاكية والكمالية وصولاً إلى الأفكار والمفاهيم. ويؤكد هذا المعنى ناعوم تشومسكي بقوله "إن العولـمة الثقافية ليست سوى نقلة نوعية في التاريخ البشري، تعزز سيطرة المركز الأمريكي على الأطراف، أي على العالم كله"(7).ولا شك أن الثقافة الاستهلاكية التي تروج لها واشنطن عالميًا تعد أحد مفردات الهيمنة الأمريكية والتي تعبر عنها بشكل رمزي مصطلحات من قبيل "الكوكلة" Cocacolization و"عالم ماك" Mc World نسبة إلى مشروب الكوكاكولا وسلسلة مطاعم ماكدونالدز واسعة الانتشار. وغني عن البيان أن الهزيمة النفسية أمام المنتوجات والأفكار الغـربية - الأمريكية هي أول أهداف الغـزو الثقافي المسمى بالعولمة الثقافية الذى تـتعرض له شعـوب ومجتمعات ودول الأمة الإسلامية(8).وتأتي العولمة السياسية لتحيط التجليات السابقة للعولمة بسياج واقٍ يحميها ويُشَرْعِنها على أرض الواقع عن طريق لبرلة الثقافة السياسية للدول والمجتمعات وصعود النموذج الفكري والسياسي الليبرالي على الصعيد العالمي. ومن ثم فلم تعد السياسة بهذا المعنى محلية كما كانت دائماً عبر المجال المحجوز للدول، كما لم تعد هناك حدود فاصلة للقرارات والتشريعات والسياسات التي أخذت تنتقل بحرية عبر القارات، ويرتبط بعضها ببعض، لقد أصبحت التشريعات البشرية أمام حالة سياسية جديدة هي أن السياسة هنا، أصبحت مرتبطة بالسياسة هناك، والسياسة في الشرق باتت مرتبطة بالسياسة في الغرب، والتشريعات التي تصدر في واشنطن غدت ملزمة وباتة لكل العواصم في العالم(9).وأمام ما سبق بيانه من تجليات وأبعاد لظاهرة العولمة أو التغريب أو الأمركة، يبقى البحث عن حلول عملية وناجعة للخروج بالأمة الإسلامية شعوبًا ودولاً من أسر ذلك القيد الناعم الخدَّاع، هو التحدي الرئيس والواجب الأبرز أمام عقلاء الأمة ورموزها على مستوى الأفراد والجماعات ومن ثم المؤسسات والدول. مع الأخذ في الاعتبار أن واشنطن لن يرضيها إلا أن يكون الجميع تابعين لنموذجها الحضاري الذي هو الأساس في عجلة نظام العولمة- الأمركة، حيث تسعى لتجسيد روح سيطرتها العالمية وهيمنتها الكونية من خلال الفكر السياسي الليبرالي بوجهه الاقتصادي الرأسمالي الشمولي عبر تجليات مالية وجغرافية وتكنولوجية وبيئية وسوسيولوجية وثقافية. | |
|