نادرا ما يكشف الاستبداد عن وجهه الصريح. فمنذ أن أطاحت الثورة الفرنسية بحفيد لويس الرابع عشر الذي قال مرة l’Etat c’est moi“” )الدولة هي أنا)، بدأت الأنظمة المستبدة ترتدي أقنعة مختلفة لتخفي وجهها الحقيقي. وفي هذا السبيل كان على هذه الأنظمة أن تخلق منظومة أخرى غير منظومة الاستبداد لتختفي وراءها.
وفي مرحلة النهوض الوطني والتحرر من الاستعمار في البلدان الأقل تقدما، كانت المنظومة الوطنية هي المفضلة لدى جميع المستبدين في شتى تلك البلدان. ولقد بذل المنظرون السلطويون كل جهد ممكن لتأكيد أن الأنظمة الدكتاتورية ضرورة لحل المسالة الوطنية، وأن الديمقراطية هي أيسر السبل إلى التفريط بهذه القضية. ضمن هذا النسق الفكري نشأت العلاقة الوثيقة بين الوطني والمستبد في بلدان عربية وآسيوية وأفريقية وأميركية لاتينية، بل وحتى أوروبية كاليونان إبان فترة حكم الكولونيلات. ونحن في بلداننا العربية نعرف كيف تم استخدام الصراع العربي-الإسرائيلي كرافعة للإبقاء على أنظمة الاستبداد في معظم بلداننا العربية.
بيد أن حينا من الدهر مر على شعوب وحكومات هذه الدول جعلت القضية الوطنية لوحدها غير كافية للإبقاء على الأنظمة المستبدة في تلك البلدان، فتم اللجوء إلى رافعات أخرى، كان أهمها الرافعة الطبقية. ومن هنا بدأت مرحلة المزاوجة بين الطبقي والوطني. وتم الربط الآلي بين الوطنية والفقر. فصار الوطنيون هم الفقراء فحسب، وغدا الفقراء وطنيين بالضرورة. ونتج عن ذلك أيضا استبعاد متعمد لشرائح واسعة من التركيبة المجتمعية من ساحة الشرف الوطني. كانت هذه الشرائح تمثل الشرائح الرأسمالية وبرجوازية المدن والمثقفين الذين لم يعلنوا جهارا “انسلاخهم” الطبقي عن طبقاتهم المتعفنة وانتماءهم للطبقات التاريخية الصاعدة من عمال وفلاحين وصغار الكسبة.
ومن هنا صار التمسح بأذيال “الطبقة العاملة وحلفائها” جواز السفر الذي لا بد أن يناله أي “مواطن” لكي يضمن لنفسه مكانا في خندق الوطنية. واستهل الكثيرون عملية التخوين والطرد من جنة “الفقراء” الأمر الذي كان يعني الطرد من جنة “الوطنية” والانعزال بعيدا في “مستنقع الرأسمالية” أو في “مزبلة التاريخ”، وهو المصطلح الذي كان منظرو حركة التحرر الوطني يفضلونه على ما عداه.
ضمن تلك الحقبة التي لا تزال ذاكرتها غضة في أذهاننا، كان على أي فرد يريد أن يضمن لنفسه موطئ قدم في السوق الاقتصادية، ليس أن يدفع فقط الإتاوة لمن يحميه من المتنفذين من أركان السلطة، ولكن أن يتنكر بأقنعة طبقية متميزة. ومن هنا فقد كانت أسماء الشركات التجارية والصناعية وحتى الدكاكين الصغيرة في أسواق المدينة تسمي أنفسها بأسماء مثل “الحرية، العروبة، الوحدة، الشعب، الثورة، الجمهورية، الجماهير، الفداء...إلخ.” أما الشعراء والمثقفون فكان لا بد وأن يعلنوا جهارا ولاءهم للشعب والفقراء وعداءهم للإمبريالية الرأسمالية، وبخاصة للبرجوازية الصغيرة. وعودة صغيرة إلى أي مجموعة شعرية ظهرت في سبعينات القرن الفائت في سورية على سبيل المثال تؤكد هذه الصورة، كما يمكن أن يؤكد أي كتاب نقدي. ويمكن كمثال على ذلك فقط أن نذكر بكتاب “الأديولوجيا والأدب في سورية،” لبو علي ياسين ونبيل سليمان، الذي صنّف الكتاب السوريين إلى شرائح طبقية: فثمة كتاب إقطاعيون كعبد السلام العجيلي وبرجوازيون كبار كنزار قباني وبرجوازيون صغار كهاني الراهب وبروليتاريون كحنا مينة.
لجملة من الأسباب، كان من غير المنطقي لهذا النهج أن يستمر. وكان لا بد للربط بين الطبقي والوطني أن يصل إلى طريق مسدود، وإن كان ثمة من لا يزال يؤمن بتلك القضية ويدافع عنها بشجاعة وصدق. وبدأت الأفكار الديمقراطية تتسلل بخجل في البداية، ثم بشجاعة أكثر، وربما “بوقاحة” حتى، منذ نهاية التسعينات ومطالع الألفية الثالثة. وانتقل مثقفون وكتاب وسياسيون ومنظرون من خندق الطبقية الفجة إلى عالم الديمقراطية الرحب، الواسع والقادر على الاتساع لكل الأفكار والآراء والتيارات المتباينة والمتنافسة والمتناقضة، أيضا. ولئن شكل الزواج الطبقي-الوطني خدمة للسلطة في أكثر من بلد “ديمقراطي-ثوري”، فإن الانزياح نحو الليبرالية والديمقراطية والتحرر لن يؤدي، بكل تأكيد، الخدمة نفسها ولو بالحد الأدنى. وهو ما شكل خطرا حقيقيا ومباشرا على هذه السلطات. وكان لا بد من حل!!
في سورية، كما في أمكنة أخرى من العالم، جاء الحل الذهبي للحكومة عن طريق نمو الحس الديني لدى قطاعات واسعة من الشعب. ولسنا هنا بصدد دراسة أسباب هذا النمو، ولكننا نريد أن نؤكد على أن ثمة تضحية تجري في سورية الآن بجزء مهم من التاريخ السياسي لهذا البلد. فمنذ خروج العثمانيين، نشأت في سورية حالة من علمانية الدولة السياسية، تجسدت في فصل مقبول بين الدين ومؤسسات الدولة والسلطة. ولا يقلل من أهمية هذه العلمانية أنها لم تكن تسمى كذلك. كما لا يقلل من أهميتها أن معظم السياسيين السوريين كانوا، كمثل معظم السوريين أنفسهم، متدينين. وكان يمكن للأدب السياسي في تلك المرحلة أن يختصر هذا الشكل من العلمانية بشعار “الدين لله والوطن للجميع”، الذي رفعه معظم التيارات السياسية والفكرية آنذاك، أو بأبيات من الشعر كمثل الذي يقول “فلا حد يباعدنا // ولا دين يفرّقنا.” ولذلك كان على سورية أن ترفض الانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي حتى العام 1972. ودارت في مطلع الخمسينات نقاشات حامية حول ضرورة إدراج بند يشير إلى دين الدولة في الدستور. وخاض الإسلاميون معركة شرسة كان نتاجها تسوية أشارت إلى أن دين رئيس الدولة هو الإسلام. وهو ما تكرر بشكل يكاد يكون طبق الأصل في بداية السبعينات، عندما استعرض الإسلاميون قوتهم السياسية لأول مرة في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، وأدى ذلك مرة أخرى إلى إضافة بند لم يكن في المسودة الأساسية للدستور، يقول إن رئيس الدولة هو الإسلام.
باستثناء ذلك، ظلت سورية الدولة الأكثر فصلا بين مؤسسة الدين ومؤسسات الدولة، إلى أن قررت السلطة في السبعينات أن تلعب الورقة الإسلامية من أجل حشد جماهيرية كاذبة لتأييد الحكومة. ولسنا بصدد تفصيل الدعم الذي قدمته الحكومة منذ مطلع السبعينات للإسلاميين في مقابل تشديدها على العلمانيين والديمقراطيين في سورية، ولكن يمكن الإشارة بسرعة إلى أن عدد المساجد في سورية تضاعف، في السنوات الخمس والثلاثين الفائتة، أكثر من عشرة أضعاف مقابل تضاعف عدد السكان أربعة أضعاف فقط. وكانت النتيجة هي الحرب المأسوية التي دارت رحاها بين الأصوليين المتشددين والحكومة، مطلع الثمانينات، وأدت فيما أدت إليه إلى قتل وجرح وتشريد واعتقال عشرات (مئات؟) الألوف من السوريين.
ولسوء الحظ، تعتقد أوساط في الحكومة السورية أن المزاوجة بين الوطني والديني ورقة يمكن استخدامها في مواجهة الضغوطات الخارجية التي تتعرض لها الحكومة السورية. ومن هنا نلاحظ نهوض الخطاب الديني في الأداء السياسي لصناع القرار في سورية وارتفاع وتيرة الغزل بين أركان السلطة وأركان المؤسسة الدينية الأكثر انغلاقا. وثمة ما يدعو فعلا للقلق من نمو ظاهرة الأصولية الدينية وتمكنها من مفاصل أساسية ليس فقط في الجوامع والمعاهد الإسلامية والمؤسسات “الخيرية” ولكن أيضا في بعض المفاصل السياسية والإدارية أيضا. وأن يتم اختيار دمشق — المدينة الأكثر اعتدالا وتسامحا من بين كل العواصم الإسلامية — لحرق وتدمير سفارتين غربيتين، كما حدث في 4 فبراير 2006، عندما دمرت الحشود الموجهة سفارتي الدنمرك والنرويج، بحجة نشر الرسوم الكارتونية المسيئة للنبي، هو أمر يجب أن يثير قلقنا جميعا، من ديمقراطيين وعلمانيين وإسلاميين معتدلين. لقد كان تاريخ الإسلام في سورية تاريخا معتدلا ومقتصدا، وطالما كانت صورة المسلمين السوريين صورة وسطية محببة. بيد أن العقدين الأخيرين شهدا نموا ملحوظا لظاهرة التطرف الديني تجسد في أشكال مختلفة ومتنوعة، تبدأ بدروس دينية في المساجد يحضرها ملايين السوريين، وتمر بدروس في البيوت للسيدات والفتيات، وتنتهي في مؤسسات ظاهرها ديني أو خيري، أما باطنها فتهيئة محمومة للإسلاميين السوريين للمعركة المقبلة. وما يطمح له الإسلاميون، مرحليا على الأقل، هو نوع من أنواع اقتسام السلطة مع الحكومة السورية، فيترك للحكومة القرار السياسي والاقتصادي بينما يترك للإسلاميين الحقلان الثقافي والاجتماعي.
ولئن ظلت كل تلك المظاهر مخفية ومستترة، فلقد جاءت الظروف السياسية الصعبة التي تمر فيها سورية، لتساعد على ظهور هؤلاء المتطرفين إلى السطح. وساعد على ذلك كله تصور ساذج من قبل السلطة السورية مؤداه أن الشعور الديني يمكن حاليا أن يساعد الحكومة على مواجهة الضغوط الخارجية والداخلية التي تعصف بها، كما يمكنه أن يوازن الخطر القادم من جانب الإسلام السياسي الممثل بالإخوان المسلمين، فدفع ذلك بها إلى التساهل أمام الغلو الإسلامي، بل والخضوع في أحايين كثيرة لمطالبهم “الغالية.” والأشدّ من ذلك هو تلوين الخطاب السياسي الرسمي بتلاوين دينية، تهدف إلى استدرار المشاعر الدينية لدى غالبية السوريين لتجييرها من أجل معركة سياسية، وما تلى ذلك من أمثلة قام بها مسؤولون سوريون على درجات متفاوتة من الأهمية.
وكان من المفترض أن تكون الحكومة قد وعت الدرس جيدا، وفهمت أن لعبة ورقة الإسلاميين ليست الحل الأمثل لمشاكلها. ولكن يبدو أن تطورات الأوضاع الأخيرة في سورية لا توحي أبدا بأن الحكومة وعت ذلك. وللحصول على دعم شعبي مزيف، ثمة سعي محموم في بعض أوساط الحكومة السورية للربط بين الوطني والديني. وإذا كان تتويج ذلك قد ظهر في الحرب الأصولية التي شنتها التيارات الدينية على سفارتي الدنمرك والنرويج في الرابع من فبراير 2006، فإن هذا لا يعني أن ذلك كان بداية المطاف، كما أنه بالتأكيد ليس نهايته. ولسوف أقوم هنا بإيراد أمثلة عن تعاظم الدور الذي يقوم به إسلاميون متطرفون للعب بعواطف السوريين وقيادتهم نحو التهور والتطرف.
وقد نبدأ بامتثال رئيس الوزراء السوري لمطالب المتشددين الإسلاميين بمعاقبة داري نشر سوريتين لنشرهما وتوزيعهما كتابا حول الحجاب كانت السلطات السورية المختصة قد سمحت، أساسا، بطبعه وتداوله في سورية. فأصدر السيد رئيس مجلس الوزراء قرارا يحظر على جميع الهيئات العامة التعامل مع هاتين الدارين ومع أصحابهما، دون تفسير لهذا القرار ودون ذكر لموجباته أو مدة سريانه. وقد جاء ذلك بعد تجنيد أجهزة أمنية وقتها وجهدها للتحقيق في هذا الموضوع الذي لم تنته آثاره بعد.
ومؤخرا، قامت جمعية نسوية سورية بإطلاق استبيان رأي وزعته بين سيدات سوريات من مختلف المنابت الاجتماعية والعمرية والمهنية، في الريف والمدينة. هدف الاستبيان هو معرفة كيف تنظر السوريات إلى قانون الأحوال الشخصية السورية، وكيف ينظرن إلى إمكانية إعادة النظر في بنوده. ويبدو أن الأصوليين يمكن أن يتساهلوا مع أي تقصير في قضايا الدين كالكذب والغش والاحتيال وترك الصلاة، غير أنهم عندما تصل الأمور إلى قضية المساواة بين المرأة والرجل، فهم يستنفرون كل طاقاتهم، كما فعلوا على امتداد أسابيع متوالية في خطب جمعة وفي دروس أسبوعية، سخرت بأكملها، ليس لمهاجمة الاستبيان فحسب، وإنما لمهاجمة أعضاء الجمعية واتهامهن بالكفر والفجور والعمالة لأميركا.
ذلك كله سيئ، على أن الأسوأ كان قرار الحكومة، التي بدلا من أن تحتج على الهجوم الظالم الذي شنه رجال الدين، خضعت لمطالبهم وأوقفت المجموعة النسائية عن العمل في مشروع الاستبيان، ثم أردفت ذلك بتقديم هذه الجمعية كقربان، وذلك بقرار وزاري بحل الجمعية، دون أي تبرير مقنع. والحكومة نفسها هي التي دعت الشيخ النائب محمد حبش للخطابة أمام وزير الدفاع ورئيس الأركان وكبار الضباط ليتحدث عن خطأ الخيار العلماني الذي اختارته سورية منذ الاستقلال وليدعو إلى قيام أحزاب إسلامية في سورية، قبل أن يدعو إلى إعادة صيحة الله أكبر إلى النظام العسكري، باعتبارها محفزا على النصر.
وفي العام الماضي، قررت وزارة التربية السورية، إلغاء المدارس الإعدادية الشرعية، وهي مدارس تدرس الشريعة الإسلامية للطلبة من الصف السابع إلى الصف التاسع (من 11 إلى 13 سنة)، وضم طلاب هذه المدارس إلى مناهج التعليم العام، وذلك إثر قرار دمج التعليم الابتدائي والتعليم الإعدادي في مرحلة تعليمية إلزامية واحدة، وبالتالي فقدت المدارس الشرعية مشروعية وجودها. هذا القرار جوبه بحملة شرسة من قبل رجال دين إسلاميين من مشارب مختلفة، تزعمهم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي. وهم ركزوا حملتهم على وزير التربية، وهم يتهمونه بشتى الاتهامات التي بلغت حد التلميح بالتكفير، وخاطبوا رئيس الجمهورية بلغة حادة غير مألوفة، طالبين منه إعادة التعليم الشرعي إلى المرحلة المذكورة. ومن جديد خضعت الحكومة، وأعادت التعليم الشرعي، رغم ما سببه ذلك من فوضى تعليمية في هذه المرحلة الحساسة من العمر.
وفي فبراير الفائت وفبراير من العام الماضي انتشرت في دمشق ومدن سورية أخرى ظاهرة البوسترات الإعلانية التي تدعو إلى مقاطعة “عيد الزناة،” وهو الاسم الذي اختاره المتطرفون لعيد الحب (الفالنتين) ومقاطعة البضائع الدنمركية، بلغة تقوم على استفزاز المشاعر الدينية لتتحول إلى مشاعر عداء وكراهية لكل ما هو مختلف عنا. واستضافت وزارة الأوقاف احتفالا كبيرا لتكريم أهم “شيوخ حفظة القرآن في بلاد الشام.” ومع أننا لسنا ضد تكريم هؤلاء الشيوخ، ومع تقديرنا العالي لفنهم الرفيع في تلاوة القرآن، فإننا لا نستطيع أن نفصل ذلك عن النمو المريب للدعوات الدينية في الفترة الأخيرة.
أضف إلى ذلك، تشجيع السلطة لظاهرة “القبيسيات” وهي حركة تقوم، برأي المتابعين لهذه الظاهرة (2)، على “وحدة الوجود وتقديس الشيخة والتسابق على تقبيل يدها وقدمها أحياناً” واعتقادهن أن “كل ما تهواه موجود في ذات الله”، وأن “شيختنا معنا أينما كنا” وان أمرها مطاع، وانه “مقدم على طاعة الأب أو الزوج وولي الأمر”، على أساس القول المتبع لديهن أن “لا علم ولا وصول إلى الله من دون مربية” و “من قال لشيخه لا، لم يفلح أبدا.” تسيطر هذه الحركة على مدارس ابتدائية وتحضيرية وندوات ومراكز ومساجد، تحت بصر الحكومة السورية وسمعها، دون أن تحرك ساكنا، على الأقل لفهم ماهية هذه الحركة السرية.
وفي هذا العام قامت شرطة محافظة دمشق، المعروفة بميلها الإسلامي، بإغلاق نحو عشرين محلا، يملكها تجار مسيحيون، لمدة أربعين يوما، لبيعهم الكحول في يوم عيد المولد النبوي. وتم اعتداء جسدي نفذته ثلاث نسوة بحق جارة لهن، وهي فنانة تشكيلية معروفة، بسبب استقبالها أصدقاء ذكور في شقتها.
ويبقى أخطر من كل ما سبق دعوة أحد النواب السوريين، أمام حشد من كبار الضباط السوريين وفي مقدمتهم وزير الدفاع ورئيس الأركان، إلى التخلي عن علمانية الدولة السورية، مقدما رؤيته “الجديدة حول دور الحركة الإسلامية في مقاومة التحديات المفروضة على المنطقة وبيان المشترك بين مقاصد التيارين القومي والإسلامي في بناء جبهة متماسكة تتقاسم المسؤولية في الدفاع عن الوطن والأمة.”
ههنا نحن أمام مزاوجة رسمية بين الديني والقومي، على حساب ما هو علماني وديمقراطي ومنفتح. وهي مزاوجة ستدفع، وفقا للشيخ المحاضر في العسكريين، إلى فصل سورية عن السياق التاريخي الدولي. فلئن أحسنت أوروبا بفصلها الكنيسة عن الدولة، فإن الإسلام ليس “عاجزا عن تقديم الإجابات الحقيقية على هذه الأسئلة الكبيرة بخصوص الطوائف والديمقراطية.”
لأول مرة، يدين نائب سوري شعار “الدين لله والوطن للجميع”، الذي طالما افتخر السوريون به، ويرى أنه أدى إلى “تجييش المشاعر الدينية واصطفاف الديني في مواجهة القومي والعروبي والديمقراطي.” ويرى بفرح كيف أن هذا الشعار لم يصمد أمام انتخابات ديمقراطية جاءت بأصحاب العمامات واللحى إلى السلطة في العراق وفلسطين وإيران، دون أن ينسى تركيا والانتخابات المصرية الأخيرة. وإذن فالحل هو أن يتعاون التيار القومي والإسلامي “لرص الصفوف والبحث عن المشترك في تعزيز المواجهة.”
يقوم كل ما سبق على تنويع للاستبدالية الأساسية التي يعيش عليها الاستبداد، وهي المزاوجة بين الاستبداد والوطن، ومن ثم تنويعات ذلك كالمزاوجة بين الوطن والطبقة في الستينات والسبعينات، والمزاوجة الراهنة بين الوطن والدين الإسلامي، حصرا. وفي ذلك كما هو واضح نسف لفكرة الوطنية الحقيقية التي لا بد أن تقوم على أساس انتماء لأرض وشعب يتأسس على عقد اجتماعي بين كافة أطياف هذا الشعب وتلاوينه. وما يقوم به المتطرفون الإسلاميون هو عمليا نسف لهذه الوطنية، واستبدالها بفكرة الانتماء الديني، بما يدفع عمليا إلى استبعاد آلي لملايين السوريين الذين لا يدينون بدين الأكثرية، وطردهم من جنّة الوطنية، كما كان سبق أن طرد البرجوازيون والأغنياء والمثقفون من هذه الجنّة في فترة المد الطبقي.
ولكنها تقوم أساسا على فكرة استخدام الجماهير المتدينة كسلاح بيد الحكومة في مواجهة الضغوطات الخارجية والداخلية المتزايدة في الفترة الأخيرة. ومن هنا تأتي دعوات وعّاظ يوم الجمعة إلى الجهاد بأن “الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة”. ودعوتهم تفضيل أن تكون سورية بلدا محاصرا، محافظا على دينه ومبادئه، من أن تكون بلدا يفرط فيه بالدين والمبادئ، مذكرين باضطرار النبي محمد وصحبه وأهله من أبناء عبد المطلب بن هاشم إلى اللجوء إلى شعب أبي طالب في بداية الدعوة الإسلامية، فعاشوا هناك ردحا من الزمن محاصرين، جائعين لا يجدون ما يسدون به رمقهم، دون أن يتنازلوا عن دينهم أو مبادئهم.
يأتي ذلك كله في نفس الوقت الذي تضيق فيه السلطة على الديمقراطيين والعلمانيين ومناضلي حقوق الإنسان، بحيث يغدو مستحيلا حضور اجتماع من خمسة أشخاص في أي مكان ناء من الوطن. المهم والخطير ههنا أن ما جرى يوم 4 فبراير 2006 هو البروفة جنرال لما يمكن أن يكون الحال عليه، إذا ما ترك المتشددون الإسلاميون أحرارا في تعبئة ملايين الشباب. ولا بد للسلطة أن تدرك أن لعبتها مع هؤلاء المتطرفين لن تحرق فقط أصابعها هي، ولكنها يمكن أن تحرق الوطن بأكمله.
- - — - - - - - — - - - - — - - — - - - - — - — — - —
* كاتب سوري
]2 [ يمكن هنا مراجعة المقالة المهمة التي كتبها إبراهيم حميدي في جريدة الحياة في 3 أيار، 2006.
http://www.alhayat.com/special/features/05-2006/Item-20060502-f5a5eaea-c0a8-10ed-01d1-b9b7cb0d40cd/story.html