إن مفهوم التوحيد الذي صاغته الديانات الشرق أوسطية بشكل خاص في سياق الألف الأول قبل الميلاد، يترافق مع صعوبة ذات طبيعة فكرية وعاطفية في آنٍ معاً. ذلك أن الإيمان بإله واحد هو علة الوجود والمتحكم بجميع مظاهره، يجعل من مسألة وجود الشر في العالم مسألة بحاجة إلى حل. فلقد كان من السهل تعليل الشر في المعتقدات الوثنية التعددية بأنه نتاج تناقض أهواء الآلهة ومقاصدها، أو بأنه نتيجة لوجود آلهة خيِّرة وأخرى شريرة؛ أما في المعتقد التوحيدي الذي يترافق مع تصور لله على أنه كلي القدرة وكلي المعرفة وكلي الحضور، وعلى أنه منبع العدل والخير، فإن تعليل الشر يغدو بمثابة المهمة الأولى والملحة المطروحة أمام أي معتقد توحيدي. ولقد حلت معتقدات التوحيد هذه الصعوبة على أربعة أوجه:
يصر الحل الأول على مفهوم صارم للتوحيد يستبعد أية قوة ماورائية حرة ومسؤولة تنشط في استقلال عن الله، يمكن أن يُنسب إليها وجود الشر. وينجم عن ذلك بشكل منطقي أن يُنسب الشر إلى الله مثلما يُنسب الخير إليه، فهو صانع الخير وصانع الشر أيضاً، يُسيِّرهُما وفق خطة خفية عن أفهام البشر. وهذا هو حل المعتقد التوراتي الذي يعبر عنه سفر أشعيا كأوضح ما يكون عندما يقول: “أنا الرب وليس آخر، مصور النور وخالق الظلمة، صانع السلام وخالق الشر، أنا الرب صانع كل هذا” (أشعيا 45: 6-7).
يجعل الحل الثاني من الله كياناً مفارقاً يسمو فوق الخير والشر، ولكنه على الرغم من سموه يقف إلى جانب الخير ويدعمه في مقابل الشر. ولقد ظهر الخير والشر إلى الوجود نتيجة خيار بدئي حر، عندما صدر عن الواحد الأزلي روحان توأمان اختار أحدهما الخير واختار الآخر الشر، ودخلا في تنافس وصراع انعكست آثاره على عالم المادة والطبيعة والإنسان. وهذا هو حل المعتقد الزرادشتي.
يتصور الحل الثالث وجود أصلين أزليين لا أصل واحد، وهما الله والمادة. فالله روح بحت ونور صرف، والمادة كثافة مطبقة وظلمة دامسة. ولشدة كثافة الظلمة في أسفل طبقاتها فقد تحولت إلى مادة؛ ثم إن المادة أنجبت الشيطان الذي ليس أزلياً في حد ذاته على الرغم من أزلية عناصره. ولقد تولد الشيطان عن الظلمة مثلما تتولد العفونة من الأجزاء الرطبة، وتولدت أفلاك القوى الملائكية عن الله مثلما تُشعل الشموع من مشعل متقد. وهذا هو حل المعتقد المانوي.
يؤكد الحل الرابع على الأصل الواحد للوجود وعلى وحدانية الله وخيره وعدله، إلا أنه يعزو الشر إلى شخصية ماورائية ذات أصل سماوي تنشط في استقلال عن الله. وهذه الشخصية ليست أزلية بل مخلوقة من قبل الله الذي أعطاها الحرية منذ البدء، فقامت وبكل وعي وحرية برفض التبعية لخالقها والاستقلال عنه. ولما كانت غير قادرة على ممارسة دور الإله نفسه فقد قررت أن تلعب دور المعارض والمناقض لإرادته، وتعمل على إفساد خلق الله وخصوصاً الإنسان الذي هو مركز الخليقة وسيد الأرض. وهكذا ظهر الشيطان وظهر الشر إلى الوجود منذ الأيام الأولى للتكوين. وهذا هو حل المعتقدين المسيحي والإسلامي.
وبذلك يتخذ معتقد التوحيد طابعاً ثنوياً على هذه الدرجة من الجذرية أو تلك، تتراوح من ثنوية مطلقة تعتقد بقيام أصلين للوجود لا أصل واحد، وثنوية أخلاقية تقصر تناقض الله والشيطان على المجال الأخلاقي والمجتمع الإنساني، مما سأفصّله فيما يلي...
الثنوية الكونية
يمكن تعريف الثنوية الكونية بأنها المعتقد الذي يقول بقيام مبدأين أو أصلين متناقضين وراء مظاهر الوجود وصيرورة الزمن والتاريخ؛ وهذان المبدآن شيمتهما الصراع من أجل أن يلغي أحدهما الآخر، وصراعهما يدفع عجلة الزمن وتاريخ العالم نحو نهاية محتومة عبر ثلاث مراحل: المرحلة الأولى هي مرحلة العصر الذهبي للخليقة قبل أن يعدو الشر على الخير؛ والثانية هي امتزاج الخير بالشر؛ والثالثة هي مرحلة الفصل بين الخير والشر والقضاء نهائياً على قوى الشر لكي يعود للعالم طيباً ونقياً وكاملاً، أو من أجل الارتقاء به من حالة الوجود المادي إلى حالة الوجود الروحاني.
وبشكل عام يمكن تقسيم المعتقدات الثنوية من حيث شكلها ومضمونها إلى ثلاث فئات: 1- الثنوية المطلقة 2- الثنوية الجذرية 3- الثنوية المعتدلة.
تقول الثنوية المطلقة بوجود مبدأين أو أصلين أزليين مستقلين ومتعارضين، لكل منهما عالمه وسلطانه المطلق على ذلك العالم؛ فعالم للروح وللنور الأزلي، وعالم للمادة وللظلمة الأزلية. وقد دخل هذان العالمان في صلة مع بعضهما عندما عدت الظلمة على النور ودخلت في نسيجه، فكان لا بد من الفصل بينهما مجدداً؛ وهذا هو معتقد الديانة المانوية. أما الثنوية الجذرية فتقول بوجود مبدأين متساويين في القيمة النسبية وفي علاقتهما بالوجود، ولكن هذين المبدأين ليسا أزليين بل حادثين ومتولدين عن الإله الأزلي القديم الواحد، وهما في حالة صراع دائم منذ صدورهما؛ وهذا هو معتقد الديانة الزرادشتية. وأما الثنوية المعتدلة فتقول بمبدأ واحد وأصل واحد قديم وأزلي، هو إله الأنوار الأعلى؛ ثم إن هذا الإله الأعلى قد خلق إلهاً أدنى منه مرتبة قام بدوره بخلق العالم المادي. فالمادة شر بطبيعتها، ولايمكن للإله الواحد الخيّر أن يخلق الشر أو يكون مسؤولاً عن وجوده؛ وهذا هو أساس المعتقدات الغنوصية على تعدد فرقها ومذاهبها.
ويشكل المعتقدان المسيحي والإسلامي ثنوية معتدلة خاصة بهما، يمكن أن ندعوها بالثنوية الأخلاقية. ذلك أن التناقض بين الله والشيطان لا يطال كل مظاهر الوجود، وإنما يقتصر على النفس الإنسانية والمجتمعات البشرية. فالله هو خالق العالم، والمادة ليست شراً، والشيطان لا سلطة فعليه له إلا على النفس الإنسانية يعمل على إفسادها وحرفها عن طرق الله: “قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين”- سورة الحجر 39. “قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم”- سورة الأعراف 16. فالثنوية هنا شكلية لا أساسية، ونحن نطلق عليها الاسم استناداً إلى أن الإنسان هو بؤرة خلق الله، وأن العالم خُلق من أجله، فهو خليفة الله فيها وسيدها. من هنا، فإن سلطة الشيطان على الإنسان هي نوع من السلطة على العالم. ويتجلى هذا بشكل خاص في المعتقد المسيحي حيث نجد إنجيل يوحنا يدعو الشيطان برئيس هذا العالم (يوحنا 31:12)، ويدعوه بولص الرسول بإله هذا الدهر (2 كورنته: 4،4).
ولكي يتضح لنا مفهوم الثنوية بشكل أفضل، لابد من التمييز بينه وبين مفهوم القطبية، الذي لايتضمن معنى الصراع بقدر ما يتضمن معنى التكامل والتعاون. فالقطبية هي معتقد يقول بوجود ثنائية أصلية قوامها قطبان متعارضان ومتناقضان في كل شيء، ولكنهما في الوقت نفسه متعاونان ولا قيام لأحدهما بدون الآخر، وعن تناقضهما وتعاونهما تنشأ مظاهر الوجود المادي والحيوي وبهما تستمر.
إن النموذج الأكمل عن معتقد القطبية هو التاوية الصينية، التي وضع أسسها المعلم لاو- تسو في القرن السادس قبل الميلاد. يقول لاو- تسو في الكتاب الوحيد المعزو إليه، وهو التاو- تي- تشينع، أي رسالة في التاو وقوته، بوجود مبدأ أزلي قديم يدعى التاو، والكلمة في الصينية تعني الطريق؛ والتاو ليس شخصية إلهية بل هو القاع الكلي للوجود والحقيقة المطلقة التي بها يقوم كل ما هو نسبي، وطبيعة عمله أقرب إلى المفهوم الحديث للقوانين الطبيعية التي تفعل دون قصد منها أو أرادة. عن هذا المبدأ الكلي صدرت قوتان مجردتان هما قوة الـ “يانغ” الموجبة، وقوة الـ “ين” السالبة؛ وبدوران هاتين القوتين على بعضهما نشأت “الآلاف المؤلفة” من كل شيء. يُرمز للتاو قبل صدور القوتين عنه بدائرة فارغة، ويرمز له بعد صدور القوتين بدائرة تحتوي على مساحة بيضاء ومساحة سوداء في وضع متداخل يوحي بالحركة الدورانية، وفي المساحة البيضاء دائرة صغيرة سوداء، وفي المساحة السوداء دائرة صغيرة بيضاء، دلالة على أن في كل سلب بعض الإيجاب وفي كل إيجاب بعض السلب. فنحن هنا أمام قوة بيضاء وقوة سوداء كما هو الحال في المعتقدات الثنوية، ولكن النور والظلام في هذه الحالة لايحملان أي دلالة قيمية أو أخلاقية، ولا فضل لأحدهما على الآخر؛ وبالتالي فإن أحدهما لا يسعى إلى التغلب على الآخر أو أقصائه، لأن هذه الغلبة تعود بالكون إلى حالة ماقبل الخليقة والتكوين. وأفضل ما يوصف به هذان القطبان هو تشبيههما بقطبي المغناطيس.
في ديانات الشرق القديم نجد أشكالاً من المعتقدات الثنائية التي تنتمي إلى القطبية لا إلى الثنوية، وذلك على الرغم من عنصر الصراع الشكلي بين طرفي هذه الثنائية، والذي هو ناتج من نواتج القص الميثولوجي. ونموذج هذه الثنائيات عبادات الخصب الكنعانية التي مثلت الخصب والجفاف في شخصيتين إلهيتين هما الإله بعل والإله موت؛ فالإله بعل هو المتحكم بأسباب الخصب والحياة، والإله موت هو المتحكم بأسباب الجفاف والفناء. وتصور الأسطورة الأوغاريتية هذين الإلهين في حالة صراع دائم لا يُحسم لصالح واحد منهما، فكلما سقط بعل صريعاً بُعث بعد فترة إلى الحياة ودعا موت إلى النزال، وكلما وقع موت صريعاً قام إلى جولة ثانية وتحدى بعل. فالإلهان والحالة هذه هما ترميز على مستوى الأسطورة لواقع حياة الطبيعة وتناوب الفصول ودورات الخصب والجفاف؛ وما الصراع الشكلي بينهما إلا من قبيل تناوب قوتي اليانغ والين في التاوية؛ فهما قطبان في ثنائية طبيعانية لا طرفان في ثنوية كونية، على الرغم من الطابع شبه الكوني لصراعهما. والأهم من ذلك هو أن تناقض هذين القطبين لاينطوي على دلالة أخلاقية، لأن الإله موت ليس مبدأً للشر الأخلاقي ولا حتى كائناً شريراً، والإله بعل ليس مبدأً للخير الأخلاقي؛ كما أنه ليس لتناقضهما وصراعهما أي أثر على النفس الإنسانية ولا على الأخلاق الاجتماعية. يضاف إلى ذلك أن الإلهين يتمتعان بالمكانة ذاتها في البانثيون الأوغاريتي، وتقدم إليهما فروض العبادة على قدم المساواة.
على أن الإلهين بعل وموت، وأضرابهما في ميثولوجيات الثقافات الأخرى، يمثلان ما يمكن أن ندعوه بالخير الطبيعاني والشر الطبيعاني. فإذا كان الخير هو كل ما يؤدي إلى الصحة والسعادة والحياة، والشر هو كل ما يسبب الألم والشقاء والموت، فإن الآثار الخيِّرة أو الشريرة قد تكون من مصدر طبيعاني أو من مصدر إنساني. فالفيضانات المدمرة والزلازل والبراكين والأعاصير هي شرور طبيعانية، وأما القتل العمد والاغتصاب والسرقة والظلم والكذب، فشرور أخلاقية تنجم عن العلاقات الاجتماعية. وبتعبير آخر فإن الشر الطبيعاني ينجم عن ظواهر فيزيائية، بينما ينجم الشر الأخلاقي عن نقائص إنسانية. وبما أن الفكر الميثولوجي يرى في أحداث الطبيعة انعكاساً لعواطف وإرادات إلهية، فقد نسب الخير والشر على مستوى الطبيعة إلى هذا الإله أو ذاك، ولم يعقد صلة بين هذا النوع من الخير والشر والنوع الآخر المنسوب إلى عواطف وإرادات الذوات الإنسانية الواعية. فحركة الطبيعة وما وراءها من فعاليات إلهية، لا تحمل في حد ذاتها أي قيمة أخلاقية على الرغم من آثارها السلبية أو الإيجابية على مستوى البشر. إن صانع الشر على مستوى الطبيعة ليس بالضرورة حافزاً للشر على مستوى الحياة الإنسانية، كما أن صانع الخير على مستوى الطبيعة ليس بالضرورة راعياً للخير وباعثاً له في النفس الإنسانية. لهذا كله فقد بقيت الأخلاق في المعتقدات القديمة شأناً اجتماعياً تحكمه قوانين المجتمعات الداخلية، ولم تتصل بالدين إلا في فترات متأخرة نسبياً من تاريخ الدين، وخصوصاً مع ظهور المعتقدات الثنوية التي طابقت بين الخير الطبيعاني والخير الأخلاقي وأرجعتهما إلى مصدر واحد، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالشر الطبيعاني والشر الأخلاقي.
على أن المعتقدات الثنوية تختلف فيما بينها بخصوص موقفها من هذه المسألة. فالثنوية الزرادشتية تعزو كل شر طبيعاني وأخلاقي إلى الشيطان، وكل خير طبيعاني وخير أخلاقي إلى الله. والثنوية الغنوصية ترى أن العالم كله شر لأنه ينتمي إلى المادة، وما الخير إلا المعرفة التي تعين الروح الإنسانية على التعرف على مصدرها النوراني الأعلى، وبذلك يتم خلاصها واتصالها مجدداً بأصلها. وهنا لا تكتسب الأخلاق والسلوك القويم في الحياة أي قيمة خلاصية مباشرة، ولكنها تهيء النفس في التناسخات المقبلة إلى المعرفة المخلّصة. فإذا جئنا إلى الثنوية الأخلاقية (المسيحية والإسلام) وجدناها تعزو الشر والخير الطبيعانيين إلى الله، لأن الشيطان لا يمتلك سلطاناً على مظاهر الكون والطبيعة؛ وليس ما يبدو من شر على المستوى الطبيعاني إلا تعبيراً عن غضب الله وعقابه، وكذلك مايبدو من خير فهو رضى من الله ونعمة على عباده. فالخير والشر الطبيعانيان هما أداتان في يد الخالق يستخدمهما وفق قصد إلهي قد يبدو للناس وقد يخفى عليهم.
لقد صاغت الثنوية عدداً من المفاهيم الميتافيزيقية حول طبيعة الألوهة، وأصل العالم، ومبدأ الشر، وصراع القوتين، والمخلص المنتظر، ونهاية الدهر والحياة الأخرى. ولكن هذه التصورات كلها تخدم في النهاية مفهوماً فلسفياً وجودياً يدور حول حرية الفرد في الاختيار، اختيار ماهو عليه واختيار مصيره؛ وحول حرية الإنسانية في رسم مستقبلها الذي يسير في خط صاعد أبداً نحو الكمال. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي لا يخضع لجبرية الطبيعة، ولا تنجم أفعاله بالضرورة عن حتمية السبب والنتيجة مما يسود عالم الطبيعة والمادة؛ ذلك أن روحه قبس من عالم الروح الأسمى وعالم الحرية الإلهية، وليس شقاؤه في التاريخ إلا اختباراً لصلابة هذه الروح وامتحاناً لجدارتها بالحرية ولقدرتها على التغلب على جبرية المادة: “إنَّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض فأبينها وأشفقن منها وحملها الإنسان”- قرآن كريم.
ولسوف تبرر النتائج التي ستنجلي عنها نهاية الزمن كل بؤس التاريخ ووطأته