ذات يوم من صيف عام 1999 وأنا في طريقي إلى مديرية المسارح والموسيقى في العاصمة دمشق، خطر ببالي موضوع الأكراد السوريين، وحقوقهم القومية والثقافية التي يطالبون بها، آنذاك تساءلت في سري: يوجد أكراد علويون في سوريا، كما يوجد أكراد سنة، وإن كانت نسبة الأكراد العلويين دون الأكراد السنة عدداً بكثير. وأكملت تساؤلي ترى: لمن سيكون انتماء الأكراد العلويين؟ هل سيكون إلى قوميتهم الكردية الحالمة (بشكل عام) ببناء وطن قومي للأكراد؟ أم إلى وطنهم سورية (بحدودها الجغرافية الراهنة)؟ أم إلى دينهم أي علويتهم؟ دون شعور مني أجبت: لِمَ لا يكون إلى إنسانيتهم؟
هكذا أجبت نفسي، ببساطة: لماذا لا يكون انتماؤهم إلى إنسانيتهم، بكلمة أدق إلى الإنسان بمعزل عن لونه وجنسه وعرقه ودينه؟ قطعاً لم أكن أعي ماهية المعاناة التي يعيشها الأكراد، أو بعضهم، في سورية جرّاء عدم تجنسهم، وهي معاناة تبدأ في عدم الحق في التملّك العقاري ولا تنتهي في حرمانهم من التوظيف في الدوائر الرسمية. تماماً كما لم أكن أعتقد أن مسألة الانتماء أبعد وأعمق من أن تكون كما “توهمت” مجرد قرار شخصي محض، بمعنى أن لا علاقة لها بالآخر الذي قد يكون الجار في السكن أو الزميل في العمل أو الرفيق في الحزب أو الصديق في الحياة العامة أو حتى القريب في الحي أو الشريك في ما يسمى وطناً وهلم جرا، وأن المسألة – مسألة الهوية أو الانتماء- بقدر ما هي مرتبطة حتماً وحكماً بنظرة الآخر لي، كذلك مرتبطة بتلك التعقيدات الثقافية الجزئية والمتناهية في صغرها المكونة لي وللآخر ونظرة كلانا للعالم وفهمنا له.. تلك التعقيدات الثقافية المتراكمة في أعماق ذات كل منا، وتكاد تميز كل فرد عن الآخر بحيث غدت بصمة قد تفوق بتفردها بصمة الإبهام.
—
وقد اكتشفت من خلال مخالطتي ومعاشرتي للناس في دمشق –بُعيد استقراري فيها- بمختلف ألوانهم وأجناسهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية، سواء أكانوا من النخبة أم العوام، أنه لا يكفي أن أعتقد وأؤمن في أعماقي أني إنسان مجرد عن أي انتماء آخر حتى يؤمن الآخر أني كذلك فعلاً فيعاملني على هذا الأساس ووفق هذا المنطوق. فكما أثبتت التجربة (الشخصية على الأقل) لابد لهذا الآخر أن يصنفني بانتماء ثان وربما ثالث محدداً لي بذلك هويتي الخاصة بي وبمن يشبهني (بمعنى يماثلني طائفياً بالدرجة الأولى) وهي من وجهة نظره تحمل دلالات الاختلاف الكلي أو الجزئي عنه، والمفارقة تكمن في أن أياً من تلك الانتماءات التي يؤطرني الآخر بها قد لا يكون مهماً بالنسبة لي!، لا بل قد أكون متبرئاً من هذا الانتماء أو ذاك الذي يريد الآخر أن يلصقه بي (أو يلصقني به) ولو على سبيل المزاح. ونادراً ما قدّمني صديق في العاصمة إلى شخص ثالث تجمعنا المصادفة (أو المناسبة المفترضة) لأول مرة إلا وأضاف اسم الطائفة الدينية التي (أنحدر منها أو) أنتمي إليها حتى ولو كان ذلك الصديق (غالباً ما يكون علمانياً!) يعرف في قرارة نفسه أن الدين بالنسبة لي قد يكون إما مادة للتفكه أو سؤالاً ذاتياً قطعاً. في المقابل عندما كانوا يقدمون لي أحد الأكراد كانوا يضيفون مباشرة –دون سؤال مني- انتماءه الكردي. هذه المرة تكون الصفة المضافة عرقية وليست دينية! ومن الملاحظ أن من كان يقوم بمهمة التقديم هذه هو الآخر المختلف عني أو عن الصديق الكردي إما دينياً وإما عرقياً.
وكنت ألاحظ في الجلسات الخاصة مع كبار المثقفين وأنصافهم كيفية انحسار الحديث عن الانتماء الحزبي أو السياسي أو الثقافي لزيد أو عمرو من الناس لصالح الحديث عن انتمائه (أو انحداره) الطائفي مهما كان الموقع السياسي أو الحزبي وحتى الثقافي الذي يتبوأه ذاك الزيد أو العمرو من الناس!.
حقيقة حتى الآن لا أعرف لماذا كان يصر هذا الآخر(أياً كان هذا الآخر) على إلصاق الانتماء الجزئي لي، أو لسواي، على حساب الانتماء شبه الكلي! أو ما يمكن أن نسميه جزافاً الانتماء الوطني أو خيمة الوطن!؟. واكتشفت مع الأيام وأنا أراقب نفسي، أني أنا بدوري كنت أمارس هذه اللعبة التي تبدو لي غير محببة، وسرعان ما كنت أعود (عبثاً) إلى ينابيعي الأولى كإنسان، مكتشفاً مع مرور الزمن أنه من الصعب عليّ العيش كإنسان لا انتماء له يحدده ويؤطره بهوية ما، وإن قَبلتُ أنا ذلك، فالآخر لن يقبله مني حتماً وفقاً لما أثبتته التجارب المتواضعة التي عاركتها في مدارج الأيام.
من هنا كانت الأسئلة التي تضج في رأسي: هل أنا سوري أم عربي أم عربي سوري؟ هل أنا يساري أم يميني؟ شيوعي أم قومي سوري؟ هل أنا مسلم جعفري علوي أم علوي من دون صفة الإسلام التي لا يقبلها الآخر لي أو على الأقل لا يصدقها حتى لو رآني معلقاً بأستار الكعبة (وإن كان كلانا يحتاج لإلصاق صفة “أو هوية” الإسلام بي لاعتبارات سياسية وما شابه ذلك)؟ أم تراني أنطوي في أعماقي على كل ما ذكرته وما لم أذكره؟ أم فيّ شيء من بعضه؟ أم تراني مجرد كاتب معارض للظلم وثائر في وجه القبح والاستبداد السياسيين؟ وهل تلك الانتماءات التي حددتها في هذه الأسئلة وما لم أحدده وأذكره تنطوي على ما يغريني كي أقبله انتماء ومن ثم هوية؟ وهل فيها ما يرفع من قيمتي معرفياً وفكرياً وإنسانياً (يمكننا قراءة السؤال معكوساً) كي يؤطرني الآخر بإحداها دون الأخرى؟
أستطيع أن أمرر هنا سؤالاً خبيثاً أطرحه على نفسي: ما أدراني إن كان عرقي (أو عرق غيري) عربياً حقاً حتى يريدونني أن أتبنى العروبة وأتغنى بها؟ لماذا لا أكون من بقايا الحملة الصليبية التي جاءت الشرق غازية؟ ولماذا لا أكون فينيقيا أو فرعونيا العرق لاسيما إن إحدى الدراسات الحديثة تفيد، على سبيل المثال لا الحصر، أن ربع سكان لبنان فينيقي؟ من ثمّ لماذا لا أكون فرعونياً باعتبار أن أحد أجدادي أتى هرباً من مصر إبان حملات التكفير الديني التي قادها صلاح الدين الأيوبي؟ ومن ثمّ هل قمت بفحص (وغيري كذلك) للجينات الوراثية الخاصة بي حتى أؤكد جازماً أني عربي ولأردد مع محمود دوريش: سجّل أنا عربي