في الكلمة التي ألقاها أورهان باموك حين تسلّمه جائزة نوبل في احتفال الأكاديمية السويدية، وكانت بعنوان: حقيبة أبي، يلخّص بجملة دالّة جوهر فكرة الآخر الكتابي، فيقول: “كنت أشعر في بعض الأحيان، بأن أبي يقرأ الروايات في محاولة منه للهرب من العالم الذي يحيا فيه إلى الغرب، تماماً كما سأفعل أنا فيما بعد”. ثم يضيف: “ليست القراءة وحدها، بل بدت الكتابة أيضاً نوعاً من السفر من استانبول إلى الغرب”. على هذا ستتحول الرواية عند باموك، وفي الحقيقة عند الكثيرين غيره، إلى عصا سحرية، سواء عبر قراءتها أو كتابتها. عصا تستطيع نقلنا بشيفراتها اللغوية السحرية، عبر الزمان والمكان، شرط التثبت من قدرتنا على استخدام سحرها الذي لا يتقنه أي كان.
هذه القدرة هي موهبة أن نحكي حكاياتنا الخاصة كما لو كانت تخص الآخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكاياتنا الخاصة. لكن تلك القدرة ظلت شغل العالم الشاغل منذ قرنين ويزيد. كيف نستطيع أن نعيش حيوات الآخرين بكتابة الروايات وقراءتها؟! وكيف تنجح الروايات في نقل خصوصياتنا وتفرّدنا، الضيق والعميق في آن، إلى العالم بكل اتجاهاته الجغرافية والإيديولوجية، وبكل تنوّع مجتمعاته وأذواقه وتقاليده وأخلاقياته وما إلى ذلك...
وحدة صغرى في سجادة
من أوائل المنظرين لهذه الفكرة كان هنري جيمس حين كتب في سنة 1896 مقاله الشهير الذي أسماه: النموذج في السجادة. كان هذا المقال رائداً في طرح مقولة ستغدو منارة نقدية للقرن العشرين، وهي أن العمل الأدبي يشبه وحدة زخرفية صغرى في سجادة تغصّ بالوحدات الزخرفية الأخرى، وهي بذلك تكوّن المشهد الأدبي العالمي. جمال السجادة سيتأتى من خلال التداخل والفوضى التي تشكل صورتها المعقدة بوصفها كلاً، بالتالي نحظى بفهم خصوصية الوحدة الصغرى التي يراد إبرازها. وهي هنا قدرة العمل الأدبي على أن يكون جميلاً بوصفه عملاً أدبياً متفرداً وناقلاً لخصوصية كاتبه ومنطقته، وجميلاً أيضاً بقدر استطاعته الاندماج والتواصل في المشهد الأدبي العالمي. هنا فقط سيكون العمل/ الرواية قادراً على حمل عبء شرفه: الخداع. وهذا أمر لا تقترفه إلا الروايات العظيمة، أي إقناعنا بأن العالم كما ترويه هي، وشخصياتها تتنقل بلحمها ودمها، والأحداث التي تسردها هي وحدها الأحداث الحقيقية، التي جرت أو تجري أو ستجري. بهذا يكون الكاتب قد استطاع نقل خصوصية الخصوصية، أو محلية المحلية، إلى مرتبة “إنسانية”، أو لنقل استطاع حقن تلك الأشياء الصغيرة المحصورة وغير المكررة، بنسغ أرحب، له لذعة تدخل كل دماغ وتحرّك أي مشاعر!
التنظير حول جمال العمل الأدبي المتفرد، منطقة ما زال النقاد يكتشفونها ويعملون على تحديدها حتى اليوم. إنهم ينبشون التقنيات، اللغة، التطور الدلالي، الحدث، ثنائية الشكل والمعنى، وما إلى ذلك، وهم سيظلون على ذلك باعتقادي، ما دام هناك روايات تكتب كل يوم في العالم، فحساسية الأدب تختلف وتتبدل من زمن إلى آخر.
تلك الحساسية جعلت إيتاليو كالفينو ينظّر في كتابه “ست وصايا للألفية القادمة”، عن ميزات الكتابة الروائية وأوصافها، ويوسا في “رسائل إلى روائي شاب” عن أسرار الكتابة وصنعتها، وأمبيرتو إيكو في كتابة الأخير عن غابة السرد ومتاهاتها، وغيرهم الكثيرين. لكن فكرة عالمية الأدب ما تزال أكثر إشكالية بكثير. وما زال النقاد يختلفون حتى اليوم حول الأسباب التي جعلت من كتابة نجيب محفوظ مثلاً كتابة عالمية! هل كان الأمر بسبب غوصه في الخصوصية المصرية، والمصرية جداً، ونقله لتفاصيل البشر والمكان والعيش والعادات... أم لأسباب سياسية/ خارج أدبية كما قيل؟! ربما كان لكل منا جوابه الخاص، البعيد أم القريب من الحقيقة. لكن هناك حقيقة أخرى لا ينبغي إغفالها، وهي أن معايير النشر المتعفنة في الوطن العربي قد تقصي أية رواية تستحق العالمية لاعتبارات خارج أدبية محضة.
في العام 1999 نشرت باسكال كازانوفا كتابها الشهير: الجمهورية العالمية للأدب. كان تصوراً غنياً لعالمية الأدب في الحضارة المعاصرة، على أرضية النقد المقارن للأدب، والنظرية المسماة علم الاجتماع الأدبي. وهي هنا تستند بشكل ما، حسب رأي الكثيرين، إلى نظرية الروماني أدريان مارينو العالمية عن علم الجمال الأدبي. ينحو ذلك التصور، أي عالمية الأدب، منحى مزدوجاً بنظر كازانوفا: فهو من جهة خصوصية النص الأدبي، المنبثق من الخصوصية الثقافية والتاريخية، وحتى السياسية والاقتصادية. ومن جهة ثانية المشترك العام الأدبي، أي موقعه في المشهد الأدبي العالمي. بمعنى آخر هناك اتجاه تحليلي/ يخصص، واتجاه تركيبي/ ينشد العالمية.
الاتجاه التحليلي والخصوصية
لنتفق على عدم وجود وصفة جاهزة في الأدب! بل إنها تبتكر في كل مرة يتم إعداد الطبق اللغوي فيها، بحسب تعبير الكاتب التشادي الفرنكوفوني كولسي لامكو الذي يعرّف الكتابة باعتبارها طبخاً بالكلمات. إن أول ما يجب الاقتناع به هو أن مهمة الروائي هي أن يكون محامي الشيطان، وأنه ليس معنياً بأية اعتبارات أخرى خارج ناموسه الروائي: الجمالُ، الدهشةُ، الخلق، والحرية غير المشروطة. أي أن صدق الروائي يتلخص في تقبله لشياطينه الخاصة وفي خدمتهم بقدر ما تسمح له قواه، كما عبّر ماريو فارغاس يوسا يوماً. وبالتالي، ربما كان الغوص أكثر في الخصوصية طريقا للعالمية. أي أن نبش المحرم والمغلّف ومحاولة تفكيك بنية المجتمع المغلقة والمتشرنقة على نفسها، ربما كان طريقاً واسعاً للتواصل الأعمق مع الآخر. كأننا بذلك نتعرى أمامه أو نزيل كل السواتر المصطنعة والأحكام المسبقة التي عملت دوماً على خلق الشروخ بين الثقافات في العالم.
هنا تصبح الروايات الإيديولوجية طريقاً معبداً لموت الأدب. الإيديولوجيا هي بهذا المعنى مقتل للرواية، وأقصد كل أطياف الإيديولوجيات، قومية كانت أم دينية أم سياسية، أي حين يصير الروائي مجردَ بوقٍ للنظريات الكبرى، بوق إعلامي فحسب، والإيديولوجيات هي التي تمضي به لا شياطينه الخاصة. وهي، أي الإيديولوجيا المسبقة وحدها التي تنظم سير وتطور العالم الروائي لديه، وليس توالده الذاتي، ومشيئة شخوصه المعتدّة بمصائرها. رغم أن الإيديولوجيات عملت على تسويق الكثير من الروايات عالمياً وعلى مرّ الزمان، لكنه كان تسويقاً آنياً برأيي، أي ينتهي بنهاية سطوة تلك الإيديولوجيا على عقول القراء وعلى نظرة الكاتب نفسه للعالم.
كل ذلك جعل من تفعيل كتابة الهامش ضرورة لا بديل عنها، وجعلها أيضاً من أهم الصرخاتالتي أطلقتها مدارس ما بعد الحداثة في النصف الثاني من القرن العشرين. صيحات تدعوناكي نستمع إلى كل صوت سبق وأجبر على الصمت، أن نستمع إلى الهامش بكل أطيافهالمتفاوتة عرقياً وقومياً وطبقياً وجنسانياً. الأمر ذاته الذي تطرحه باسكال كازانوفا أيضاً في كتابها المذكور آنفاً، وهي إذ تتحدث عن بلاد الأطراف (أدبياً)، فهي تسوق العوامل المسببة لذلك التهميش وتبعاته المرعبة على خريطة الأدب العالمية.
حول هذه الفكرة أيضاً تمحور آخر كتيّب للناقد الألسني الفرنسي البلغاري الأصل، تزفتان تودوروف الذي يحمل عنوان: “الأدب في خطر”، حيث يدق ناقوس الخطر إذ يرى أن الأدب اليوم لا يتحدّث عن الإنسان في العالم بقدر ما يتحدث عن الفرد الذي يكتبه. و قد أغرق النقد في الشكلانية وأضحى يفتقد البعد الإنساني والبساطة.
الاتجاه التركيبي والعالمية
تحاول التأثيرات التي يخلقها كل نص أدبي أن تفعل فعلها في الآخر دوماً. فبعد أن ترجم غوته جزءاً من ألف ليلة وليلة إلى الألمانية، قام أنطون جالان بترجمتها إلى الفرنسية في مطلع القرن الثامن عشر، حين كانت باريس قد بدأت تفرض سيادتها الثقافية. كان لهذه الترجمة الفضل في احتشاد مخيلة كتاب ذاك القرن بكل ما هو سحري وغريب آنذاك، وبنكهة هندية فارسية عربية مصرية بغدادية. وهي ربما بلغت الذروة حين طار البارون فون مونشتاوزن فوق قذيفة مدفع في رواية جوستاف دور السحرية ورسومها الإيضاحية. لاحقاً، ستعمل ألف ليلة وليلة على التأثير على كثير من الكتابات والمخيلات، ولا يخفى تأثيرها على كاتب عالمي كبورخس مثلاً.
ستنتظر الرواية اللاتينية، ذات الصبغة الواقعية السحرية أيضاً، حتى القرن العشرين كي تستطيع التأثير في الرواية العالمية، بعد أن أفل زمن الروايات الكلاسيكية ومن ثم الرومانسية فالواقعية الاشتراكية وأطياف الوجودية والعدمية وما إلى ذلك. وكأن أوروبا راحت تنشد بعد كل ما دخل إليها، مسحة من الماورائية والسحرية تلون واقعها العقلي الصرف. خصوصاً بعد أن تمردت مدارس النقد الما بعد حداثي على مدارس الحداثة، حيث كانت الأخيرة تعمل على تأليه العقل، عملت الما بعد حداثية على لفت أنظار العالم إلى الأسطورة والميتافيزيقيا والقص الشعبي وما إلى ذلك. وغدت روايات ماريو فارغاس يوسا، ماركيز، إستورياس، كورتاثار، جورج أمادو، إيزابيل الليندي وغيرهم، تغزو المكتبات الأوروبية وغير الأوروبية. ربما كان السبب هو محاولات الروائيين اللاتينيين نقل الخرافة المحلية في رواياتهم، بغض النظر عن أحكام القيمة وعن ثقل الإيديولوجيات الأخلاقي ومحاكمها الميدانية لكل ما يسمى ما ورائيات وخرافة وأساطير. وهذا جزء لا يتجزأ من قدرة الرواية على نقل الخصوصية بصبغة عالمية. الأمر حدث بشكل عكسي في الرواية العربية، ولزمن طويل طويل، حين راحت تحاكم الخرافة العربية والقص الشعبي والأسطورة، واعتبرتها الروايات الإيديولوجية السبب الرئيسي في تخلف العقل العربي لقرون مديدة!
مؤخراً صارت روايات جنوب شرق آسيا، بخاصة الروايات اليابانية والصينية، والقليل من الروايات الإفريقية أيضاً، تخطّ طريقها للعالمية، مصوّرة خصوصية المجتمعات الشرق آسيوية والجنوب أفريقية التي ما زالت مغلفة بالأسئلة. اللافت للنظر أن أغلب تلك الروايات التي أضحت عالمية، كانت تغوص في عمق خصوصية تلك المجتمعات وتنيط الستائر عما كان مغفلاً ومستتراً على مرّ الزمان. راحت روايات كاواباتا، جونيشيرو كانيزاكي، جاو زينك جيان وغيرهم، تحتل رفوف العرض في المكتبات، كأنها نوافذ شرعت على ذلك العالم المتلفع بالغموض.
بدأت الرواية العربية تتلمس طريقها بخجل في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كشكل كتابي غربي Roman. وقد تم رفضها بشراسة آنذاك، وذلك حين نشر محمد حسين هيكل روايته زينب مسلسلة في جريدة السياسة في العام 1914. وعلى الرغم من أنه نشر معها توضيحاً بأنها صورة ريفية، درءاً ربما لمعركة متوقعة، إلا أن حرباً حقيقية قامت بين الأفندية والمعممين المحافظين في قلب القاهرة، وسقط فيها الكثير من الجرحى. كان السؤال آنذاك: هل من المشروع تصوير الشخوص على الورق؟ هل الرواية مشروعة؟
طبعاً كانت رواية زينب فواز “حسن العواقب” قد صدرت قبلها بخمسة عشر عاماً، لكنها لم تثر ضجة مشابهة للضجة التي أثارتها رواية زينب. والأمر عائد باعتقادي، وللأسف، لكونه نصاً لامرأة، لا يعتد بفاعليته الاجتماعية ولا الثقافية!!
حاول الروائيون المصريون بعد ذلك اللجوء إلى الريف/ العودة إلى الأصول، وهي محاولة ربما لإثبات أن استخدام الشكل الروائي لا يعني التنكر لقيم الأمة كما صار المحافظون يتهمونهم. وبالتالي فقد تم استلهام الشكل والمحافظة على الأصل. نرى الأمر في كثير من أعمال طه حسين، كـ “شجرة البؤس” و“دعاء الكروان”، وفي رواية “يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم، وغيرها الكثير من الروايات المصرية. ثم أتت حقبة الستينيات وأتى المدّ الإيديولوجي معها. فأصبحت الرواية تحت تأثير المد الاشتراكي، في أدب عبد الرحمن الشرقاوي مثلاً، وفي كتابات يوسف إدريس الحرام وحادثة شرف وغيرهم. الأمر ذاته، لكن مع اختلاف الزمن، حصل في سورية. حين جاءت الستينيات وما بعدها، حاملة معها شيوخ الرواية السورية من أمثال حيدر حيدر وهاني الراهب ونبيل سليمان، وهم عموماً حاولوا التجريب على صعيد الشكل، فيما ظلت الأطروحات الإيديولوجية أو الأطروحات الأخلاقية السياسية الملتزمة، واضحة في نتاجهم عموماً.
لنفتح تلك النافذة
هناك رأي للناقد المغربي محمد برادة يقول فيه إن الموقف المعقول هو أن نعتبر شكل الرواية شكلاً مشاعاً شاركت في تشييده وتطويره كل الثقافات، وعلينا أن نتعامل معه دون عقد وبجرأة، لنرتاد مناطق الأسئلة المحرمة وننشر المعرفة الدنيوية الكاشفة. وهو يرى أن الكونية هو المصير الذي ينتظر الثقافات والحضارات في ظل هذه التحولات المتسارعة في العالم والمنطقة.
في ظل ما ينبئ به المستقبل البشري وما ستؤول إليه مخيلته الإبداعية فيما قد يسمى ثقافة الصورة أو حضارة الصورة، ما هو مصير الرواية؟ وهي تحاول أن تجرّنا إلى عالم الأسئلة المتعبة، بمقابل استرخاء الصور الجاهزة والاستهلاك اليومي للأفكار المعلبة أمام الشاشات؟! إلى أين سيؤول مستقبل الرواية وهي تزجنا في عالم التخييل الذي لا بد منه لتذوق الرواية وتحسسها وفهمها، فيما تتنطح الصورة للتخيّل بدلاً عنا؟!
ربما كان التخلص من معظم التحفظات المتعلقة بالشكل والمضمون والتي وسمت الرواية العربية عموماً، والتملص من التعصب القومي والإيديولوجي والديني الذي يقود الجزء الأكبر من السرد العربي وبالتالي من عقول كتابه، وعدم محاكمة الآخر بناء على قوالبنا الجاهزة، ربما كان كل ذلك محاولات جيدة لتصدير العربي إلى الغرب، أو محاولة فتح النافذة المغلقة منذ زمن بعيد، ليسترق الآخر النظر إلينا، وليرانا بالتالي كما نحن حقاً، باختلافنا ومشاكلنا وأخطائنا وجمالياتنا! وليس كما صُدر له قبلاً على طول الروايات العربية التي كانت بغالبيتها، أو لنقل بنسبة كبيرة منها، شوفينية ومتزمتة ومقصية له كعدو، وليس كقارئ للآخر، وليس باعتبار الرواية بساطاً سحرياً يحمله إلينا، بل باعتبارها منشوراً سياسياً وأخلاقياً واجتماعياً ودينياً يشرع سيف الأحكام الجاهزة في وجهه، بدلاً من جره إلى سحر الكلمات الذي لا يفوقه سحر.