قد يمكن النظر إلى الحداثة في وصفها سلسلة انفصالات: انفصال السياسة عن الأخلاق، انفصال الاقتصاد عن السياسة، انفصال الأخلاق عن الدين، انفصال الدولة عن الدين، انفصال الإنسان عن الطبيعة، انفصال المنتجين عن وسائل الإنتاج، انفصال المحاربين عن ملكية سلاحهم.. إلخ. وقد ننظر يوما إلى ما بعد الحداثة كانفصال للمعرفة والسياسة عن “الحكايات الكبرى” (ما يعيدنا إلى الطائفية عبر النسبوية والتعددية الثقافية).
حداثة انفصالية:
انفصال السياسة عن الأخلاق الذي ينسب إلى ماكيافيلي هو شرط تكون علم السياسة، وانفصال الاقتصاد عن السياسة هو شرط تكون علم الاقتصاد الذي قد ينسب إلى آدم سميث، وانفصال الأخلاق عن الدين على يد كانت هو شرط التفكير في أخلاق عالمية تقوم على مفهوم الواجب، وانفصال الدولة عن الدين هو شرط قيام الدولة العلمانية الحديثة كدولة لمواطنين متساوين، وانفصال العلوم عن الفلسفة (لحظة غاليليه ربما أو نيوتن) هي شرط الثورة العلمية. وعلى مستوى آخر، انفصال الإنسان عن الطبيعية (ربما ديكارت) و“نزع السحر عن وجه العالم” (ماكس فيبر) هو شرط تكون العلم الحديث ووجه لاستقلال الذات. وفصل المنتجين عن وسائل إنتاجهم كما درسه ماركس هو شرط قيام الصناعة الحديثة والإنتاج الواسع، وفي الأساس الرأسمالية. وانفصال المحاربين عن ملكية أسلحتهم هو شرط قيام جيوش وطنية.
وفي كل عملية انفصال يتكون علم أو مجال معرفي جديد، وذاتية جديدة أو فاعل جديد مستقل، ومستوى جديد لتراكم الخبرة والمعرفة. دون انفصال السياسة عن الأخلاق لا مجال لتطور علم سياسي، ولا نخب سياسية وطنية غير وراثية أو معرفة بثروتها، ولا الدولة. ومثل ذلك يصح على انفصال الاقتصاد عن السياسة وتكون علم الاقتصاد السياسي، وطبقة الرأسماليين، والسوق. وفصل المنتجين عن ملكية وسائل الإنتاج يشرط تكون الطبقة العاملة. وانفصال كل من الأخلاق والدولة عن الدين، هو ما يشرط تكون الفرد المسؤول والمواطن. و“انفصال” الإنسان عن الطبيعة هو ما شرط تكون الذات وانتصابها مقابل طبيعة أحيلت إلى موضوع، وانطلاق عملية استكشاف العالم، ونشوء العلوم الطبيعية. وعملية انفصال العلوم عن الفلسفة شرطت تكون فئة العلماء ومؤسسات البحث العلمي.
والذاتيات فاعلون مستقلون، مبادرون، أحرار، حائزون على سلطات نوعية.
والانفصالات والفاعلون والمعارف ومستويات الفاعلية المتولدة عنها عمليات أساسية في الحداثة التي هي اسم للحضارة العالمية المهيمنة. وهي حضارة عالمية لأنها مهيمنة، أي لأن تنظيمها السياسي والمعرفي متفوق على ما سبقه، ولا ينافسه اليوم نموذج مختلف عنه. وعمليات الحداثة، أولاً، عمليات تحرر، أو تكوّن ذاتيات مستقلة وأصيلة، تعرف نفسها بنشاط نوعي (علم، إنتاج، حرب، حكم..). فما هو ذات ليس الإنسان المجرد بل الإنسان المندرج في ممارسات ومجالات فاعلية نوعية، وإن كانت الذات ستغدو “شكلا” للإنسان الحديث. وهي، ثانيا، عمليات “تقدم”، يلتقي فيها تدشين تاريخ محدد الاتجاه، مع أفضلية قطعية للمستقبل على الماضي، ومع تكون أكثرية جديدة هي التي تكون متن “الأمة”، وعدالة جديدة تقوم على المساواة بين الأفراد جميعا لا على إنزال كل مرتبة اجتماعية منزلتها الموروثة. وهي، ثالثاً، عمليات “سيطرة على الطبيعة” وطفرة للعلوم وثورة
غير مسبوقة في التكنولوجية والإنتاج
لكن للحداثة الانفصالية هذه وجه آخر تمثل في عمليات الاستغلال الرأسمالي والأنانية القومية والامبريالية والحروب والاستعمار ومشكلات البيئة والعنصرية. فقد تحررت الذاتيات الجديدة (الطبقات، الدول، الجيوش، العلماء، المستكشفون، المغامرون.. والدول -الأمم) من قيودها السياسية والأخلاقية السابقة، وطورت قيما كانت محتقرة (التقتير، الربا، العمل اليدوي..)، واجتهدت في مجالات وأنشطة كانت منبوذة، فنمت بسرعة إلى أبعاد ديناصورية. فالرأسمالية المجتاحة “اخترعها” الحرص وليس السخاء الارستقراطي. والعلم العظيم ابتكره التجريب الوضيع وليس التأمل الرفيع الجدير بالفلاسفة. والصناعة المنتجة ابتدعها حرفيون من العوام لا نبلاء يجري في عروقهم دم أزرق. والدولة القومية بنْت السلطة الدنيوية لا الدين السماوي. والعلمانية تنحاز للعوام على حساب الإكليروس.. ماركس محق إذ يقول إن التاريخ يتقدم من جوانبه العفنة.
ثم إن الدينامية التي أطلقتها هذه التحولات لن تقف عند حد، في مهدها الأوربي أولا، ثم لاحقا خارج أوربا.
الحداثة كسلسلة انفصالات هي كذلك عملية تراجيدية. فمقابل الذوات الفتية الناهضة دمرت هويات وأنماط حياة وتنظيم اجتماعي موروثة: الدعة الريفية، الارستقراطية، النفوذ الكنسي، الروابط العضوية..، جملة ما يسميه عبد الوهاب المسيري بحنين جارف “الجماعات التراحمية” (مقابل “الجماعات التعاقدية” التي ينْفر وينفّر منها). وتعرض عمال أوربا لاستغلال فادح يعرض ماركس تفاصيل مروعة عنه في “الرأسمال” (بعض مقاطع “البيان الشيوعي”، بالمقابل، أشبه بنشيد حماسي في تمجيد الحداثة الصاعدة، البرجوازية). ومن الوجه التراجيدي أيضا احتلال الأوربيين للعالم، وتدمير حضارات وشعوب بأكملها، في “العوالم الجديدة” بالخصوص: القارة الأميركية وأستراليا، فضلا عن العبودية التي يقدر أن عشرين مليون إفريقي كانوا من ضحاياها. وستتمثل الروح الشيطانية للحداثة خارج أوروبا في إلحاق “الآخر” البشري بـ“الموضوع” الطبيعي، أي مساواة الناس والموارد في عين التوسع الرأسمالي النهمة.
على أن انفصالات الحداثة المكلفة هذه قوبلت حتى في أوربا بمقاومات عنيفة. بيد أن المقاومات هذه لم تلبث أن أخذت تعي نفسها وتسوغ مطالبها بقيم الحداثة ذاتها، فغدت مقاومات حداثية. وهذا هو معنى الهيمنة التي يمكن نسبتها للرأسمالية كنظام إنتاجي، وللبرجوازية كذاتية اجتماعية جديدة، وللحداثة ذاتها كعملية تاريخية.
الحداثة المعاقة:
انفصالات الحداثة التي سيجري استيعابها في المراكز الغربية، تكشفت عارية ومنقوصة الهيمنة خارج أوروبا. هنا كان الانفصال أشد حدة، والذاتيات الجديدة المستقلة ضعيفة ومعزولة، وما سنسميها عمليات الضبط وإنتاج تقاليد جديدة أشد ضمورا. لقد تمثل الانفصال المؤسس للحداثة في المجال العربي، ما استحق اسم “صدمة الحداثة”، في الإقحام العنيف لمجتمعاتنا في تاريخية كونية لا سند لها في تنظيماتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية الموروثة. وسيثير الاتصال القسري مع المركز الحداثي الغربي والانفصال الحاد عن الموروث ردود فعل معاكسة: “اتصالية” ولاغية للاستقلال داخليا، واستقلالية أو انفصالية ضد الذاتية الحداثية، الأوربية. وحيال “اتصال” مفروض بالإكراه مع الغازي الأوربي، ستطور النخب الاجتماعية والثقافية في مجتمعاتنا سياسة اعتصام بالاختلاف عن الغرب تضمن لها مواقعها الممتازة، ويفترض أن تصون للمجتمعات هذه استقلالا رمزيا عن مركز الحداثة/السيطرة الغربي، لكن على حساب استقلالها عن ماضيها. تمزج السياسة هذه بين استنفار الهوية ومقاومة الغرب (مقاومته لا كسيطرة فقط، وإنما كحداثة أو نموذج حضاري أيضا). هذا برنامج النخب المحلية أكثر مما هو رد فعل طبيعي لمجتمعاتنا الراكدة وقتها، خلافا لما تقرره نظرة شائعة تزود مجتمعاتنا هذه بحكمة وقرارات تاريخية يصعب نسبتها إليها. وجيلا بعد جيل ستجد النخب المعنية ما يناسبها في إعادة إنتاج تلك الخبرة التأسيسية الراضة، خبرة الاقتحام الاستعماري الغربي، وتحريض المقاومة ضد الحداثة باسم الخصوصية والهوية، لأن هذا يدعم سلطتها ويشل المقاومة ضدها هي. نريد القول إن الهوية ليست رد فعل على انفصال قسري وبراني، بقدر ما هي سياسة نخب وقوى اجتماعية تنتفع من تشغيل الهوية وزجها في المجال السياسي. وفي مناخ ثقافي سياسي “اتصالي” كهذا ستتعذر انفصالات الحداثة، بالخصوص انفصال الدين والدولة.
لكن ربما يتعين أن نستدرك هنا: ما سيتعذر ليس الانفصال بحد ذاته، فهو محقق بالفعل في كل مكان؛ المتعذر هو جعل الانفصال قيمة وثقافة وقاعدة سياسية وقانونية قارة. أي انتظامه ضمن تقليد مستقر. وسنعيش في عالم فصامي، واقعه انفصالي، لكن رموزه وثقافته اتصاليان؛ عالم حديث، لكن بلا ثقافة حديثة تنظمه وتعكس قدرتنا على “إعادة إنتاجه”. كذلك ستكتسب فكرة الاستمرار قيمة كبيرة ضد فكرة القطيعة أو الانفصال، رغم أن الانفصال والقطيعة هما الواقعيان. وبدل ذاتيات مستقلة، ستعمل السياسة الثقافية السائدة، التي يهندسها سلطويون ومثقفون (“حديثون” ودينيون)، على توليد “هوية قومية” واحدة كلية مضادة لكل استقلال ومبادرة حرة. فهؤلاء لا يكونون “ذواتا” (ولا أقول: ذاتيات) إلا بقدر ما يردون مجتمعاتهم إلى هوية أو هويات، مجرد تمايز سلبي عن الغير.
هل يبدو أننا نقلل من دور الإمبريالية في تناسخاتها المتعاقبة حتى اليوم في إعاقة حداثتنا؟ ما نتحفظ عليه في الواقع هو عادة عقلية مستقرة ترى أننا ضحية دائمة لعدوان الغرب ومؤامراته، وتعفي سياساتنا وأشكال تفاعلنا وتفكيرنا كمثقفين وقرارات نخبنا من المسؤولية عن أوضاعنا الراهنة. وإذا كانت إعاقتنا مستمرة حتى اليوم دون ما يشير إلى قرب انفراجها، فيما يبدو أن بلدانا ومجتمعات أخرى كانت تشبهنا أو في حال أسوأ من حالنا تتقدم اليوم سياسيا وثقافيا واقتصاديا وأمنيا، فإن في هذا ما يقول شيئا عن خياراتنا وتنظيماتنا السياسية والعقلية.
على أن هذا شأن آخر.
الحداثة الاتصالية:
الحداثة حرية (ذاتيات..) ومعرفة (علوم و“خطابات” منضبطة على صورتها ومثالها ..) وتنظيم مؤسسي (مجالات فاعلية نوعية..). ولسوف تطور الذاتيات الجديدة في أوربا وأميركا قواعد وقيما ضابطة لعمليات الحداثة وسلطاتها: حقوق الإنسان، دساتير الدول، أخلاقيات علمانية، أنظمة الضمان الاجتماعي.. أي عمليات وصل بين الأفراد المستقلين (تجمعات مستقلة) وبين الأفراد والدولة (مواطنين)، وبين المجتمع والدولة (ديمقراطية) وبين المنتجين والاقتصاد الوطني (ضمان اجتماعي)، وبين الناس والطبيعة (حماية البيئة). بذلك تحولت الحداثة إلى نظم اجتماعية حية، ستنتظم حول تقاليد صلبة وراسخة. أي أنه تطور وجه آخر للحداثة، وجه اتصالي، منتج لتقاليد وهويات ونظم اجتماعية مستقرة.
فالحداثة الغربية ليست الرأسمالية التنافسية والدولة الهوبسية والجيش النابوليوني المنضبط والغازي والذات المطلقة وعلمانية الفصل بين الدولة والدين؛ إنها كذلك الضمان الاجتماعي والدستور وتوازن السلطات المستقلة الثلاثة والتوازن الأوروبي واستقلال المجتمع المدني والحريات الدينية. بفضل هذه الضوابط تحولت الحداثة المطلقة إلى حداثة مقيدة أو دستورية. قد تنتج الحداثة الانفصالية ذاتيات مستقلة؛ لكن الحداثة المنتجة لتقاليد، ما سنسميها الحداثة الاتصالية، تجعل الاستقلال حرية اجتماعية.
لقد تجاوزت الحداثة الغربية اللحظة الانفصالية نحو التشكل في ثقافة وقوانين ونظام مستقر، أي في تقليد. أضحت منطقا ذاتيا للسلوك الفردي والمؤسسات الاجتماعية والدولة. بالمقارنة، لم تنتظم الحداثة في المجال العربي في ثقافة وقوانين وتستبطن في سلوك وتتشكل في تقليد. بقيت لذلك حداثة فوقية. تحتفظ بمفاعيل انفصالية، لكن دون مفاهيم وقوانين وثقافة تنظم الانفصال وتضبطه وتعدل مفاعيله. وما لا ينتظم في تقاليد ويتكون في ثقافة ويستقر في نظام ثابت مدمر للمجتمع.
والأكيد، في هذا السياق، أن حداثة مجتمعاتنا العربية هي حداثة لم تنتج تقاليد ذاتية. هذه ليست فضيلة كما قد يظن بعض عقائديي الحداثة الذين يجعلون منها إيديولوجية مضادة للتقاليد، بل هي مؤشر أكيد على أن حداثتنا غير ذاتية. وأعني بعبارة “غير ذاتية” شيئان: أنها تفتقر إلى ديناميات إنتاج وضبط ومعرفة محلية، لكن أكثر من ذلك أنها لم تنتج في بلادنا قواعد تراكم وذاتيات مستقلة، أي مجالات غير معروفة سابقا للفاعلية البشرية، وقوى اجتماعية متوسعة القاعدة مستفيدة منها وضامنة لاستمرارها.
لكن لماذا لم تنتظم في تقاليد؟ لأنها غير منتجة، وتاليا غير قابلة للتعميم. والذاتية التي تكونت على أرضيتها جزئية، مكونة من قطاعين: ثقافي ينزع إلى مذهبة الحداثة واحتكارها، وسياسي ينزع إلى تصور أداتي أو جهازي للحداثة، ويحتكرها أيضا. وهي لم تولد أطرا جديدة لتراكم المعرفة والخبرة، تاليا لسلطات نوعية. وانشغلت كما أشرنا بالهوية لا بالإنتاج. المشكلة إذن في أن سياسة الحداثة لدينا موجهة نحو احتكار الحداثة لا نحو تعميمها، وثقافة الحداثة نحو الثناء عليها لا نحو تملكها وتنظيم الوعي بها. إنها حداثة مضادة للمجتمع (ليس المجتمع كهوية، بل كذاتيات اجتماعية ممكنة).
ولا ريب أن مزيج التبعية السياسية والعداء الثقافي مع المركز الحداثي الغربي يسهم في تعميق الانفصال العربي عن الحداثة والاغتراب عنها وعسر التماهي معها. وبفضل هذا النصيب النكد، تبعية سياسية وعداء ثقافية، تكون في بلادنا سياجان ضد “تذويت” الحداثة: رفض لنموذجها القائم على انفصالات مولدة للحرية، وتبعية سياسية تناقض جوهرها الانفصالي أو، في هذا المقام، الاستقلالي. لنتخيل الحال لو أننا جمعنا بين استقلال سياسي واستراتيجي عن المراكز الغربية وانفتاح على عمليات الحداثة، أي بين واقع حداثي وثقافة حداثية!
هذا، على أية حال، ما يتعين على مقاومة تحررية النهوض به. المقاومات الراهنة متهافتة لأنها تصدر عن عداء ثقافي للحداثة حتى حين تقاوم السيطرة الغربية المجحفة. ونستنتج من ذلك أن الحداثة فاقدة لصفة الهيمنة في مجتمعاتنا. إنها تبدو قوة غريبة، يقاومها بعضنا بمنطق وثقافة غريبين عليها.
يبقى أن الكلام على حداثة منتجة لتقاليد هو أيضا كلام على هوية (هويات) تتشكل في الحداثة وتستقر فيها، هويات متكونة حول استيعاب الحداثة الانفصالية وتجاوزها لا حول الاحتماء منها وممانعة الانفصال عن الماضي. الهوية والتقليد بهذا المعنى تتويج لعملية الحداثة وليسا عقبات كأداء في وجهها؛ وهما بعد برهان على نجاح استدخالها أو تذويتها. صحيح أننا نركز أكثر في مقاربة الحداثة على مفاهيم مثل العلاقة والدينامية والعملية والحقل، ونقلل من شأن مفاهيم مثل الهوية والجوهر، لكننا نغفل أن الهويات، مبادئ تماسك وأطر تراكم واستقلال توفر ركائز لعمليات الحداثة وتمنحها شخصية ومناعة ذاتية. دون ذاتيات، كيف للحداثة أن تعي ذاتها وتدافع عن نفسها؟ دون تقاليد وهويات، هل ستكون الحداثة غير انفصال وعري وغربة؟