ا
يستقطب موضوع “المعرفـة” حيّـزاً مهمـّاً في الفكـر الفلسفـي.
وفـي هـذا المقـال سأتطرّق لمسألـة أراها تستحـقّ التأمّـل والكتابـة عنها وهي المسـألة التي تندرج ضمـن سؤال: من أين تأتي المعرفـة؟
هدفـي إذن، تسليط الضّـوء على مصدر المعرفـة. وسيكون ذلك من خـلال التّركيـز على مدرستيـن فلسفيّتين:
- المدرسـة الأولـى: رأت أنّ المعرفـة تأتي من داخل العقـل.
- المدرسـة الثانيّـة: رأت أنّها تأتي من العالم الحسيّ.
وسأعمـل على معالجـة هذا الموضوع من خلال محوريـن:
- المحور الأول: سأتطرّق فيه لديكارت والأفكار الفطريّـة.
- المحور الثاني: فسأخصّصـه لجون لـوك ونظريّتـه التّجريبيّـة. ثمّ سأخلص لاستنتـاج ورأي في خاتمـة المقـال.
المـحور الأوّل: ديكارت والأفكار الفطريّـة
يرى الفلاسفـة العقليّون أنّ الحقيـقة توجـد في العـقل وليس خارجا عنـه، لأنّ العقـل حسب رأيهم يتوفّـر على مبـادئ وأفكـار قبليّـة هي:
أ ـ مبـدأ الهويّـة أو الذاتيّـة
ب ـ مبـدأ الثّالث المرفـوع
ج ـ مبـدأ العليّــة
وهـذه المبـادئ، كما يـرى العقليـون، مشتركـة بين جميـع النّـاس، ولأنّها بديهيّـة فإنّ جميع النّـاس يدركونـها بوضـوح.
وهـكذا، حسب موقفهـم، لكي نحصـل على المعرفـة، علينـا أن نعـود إلى هـذه الأفكـار والمبـادئ الفطريّـة.
ويعتـبر “رينيـه ديـكارت” رائـد العقلانيين في العصـر الحديث، و قد تلقـّى ديكـارت تعليما كلاسيكيّا في مدرسـة يسوعيّـة، وعرف عن ديكـارت أنّـه لم يكـن يحبّ التّورّط في خلافات وفي مجادلات خصوصا مع أصحـاب الثّقافـة التّقليديّـة. ولهـذا نجـد “باييـه” يصفـه قائـلا: “إنّـه نموذج ما يسمـّى بالإنسـان النّظاميّ. فهـو محافظ من وجهـة النـّظر الدّينيّـة، محافظ من وجهـة النّظـر السّياسيـّة، وهو من بعض الجوانب أقلّ جرأة من العديد من المفكّرين القروسطيّين ومن العديد من اليسوعيّين”(1). وفضـلاً عن هـذا الرّأي فإنّ كلّ الظّواهـر كانت تدلّ على أنّ ديكارت كان كاثوليكيـّا مخلصـا(2).
وفي اعتقادي، إنّ معرفـة هـذه المسألـة عن ديكارت تفيدنا، إذ من خـلالها، نستطيـع أن نفهـم توجـّه ديكـارت الفلسفـي النّظـاميّ كما وصفـه باييه.
وخلاصـة فلسفـة ديكارت، حسبما يقتضيـه موضوعنا، يمكن طرح عصارتها في الآتي: يـرى ديكـارت أنّ شهـادة الحواسّ غيـر مؤكـّدة ولابدّ من الشكّ فيهـا. ولهـذا فإنـّه مادام الشكّ ضـرورة، يتحتّم علينا أن نعترف بـه.
ومن هنا تنهض عبـارة ديكارت الشّهيـرة: “أنا أفكّـر إذن أنا موجـود”. ففي هـذه العبـارة كانت انطلاقة ديكارت ليستنتج أنّه كائن مفكر، ثمّ يستنتج وجود الله من خـلال الدّليل الانطولوجي أي أنّ الإنسـان يملك في داخلـه فكـرة اللّـه الفطريّـة، بل وسيمضـي ديكارت إلى القول إنّ فكـرة الكائن اللاّمتناهـي هي كبصمـة الخالـق في وجدان المخلـوق(3).
وهـكذا، فإنّ ديكـارت يركّـز في فلسفتـه على الأفكـار التي تعتبـر نقاط البداية التي لا يتطرّق إليهـا الشكّ. وقد أثّرت مدرسـته الفكريّـة في الفلسفـة الأوروبيّـة بشكـل كبيـر.
المحور الثّاني: جون لوك ونظريّتـه التّجريبيّـة.
يـرى الفلاسفـة التّجريبيّون أنّ الوصول إلى المعرفـة يكون بالتّجربـة الحسيّـة ومعطياتها. فالعقـل عندهم عبـارة عن صفحـة بيضـاء.
ويـُعتبر جون لوك أحد ممثّلي المدرسـة التجريبيـّة. وقد أبدى اهتماما كبيرا بالتّجارب العلميّـة وبفلسفـة ديكارت. وعلى خلاف العقليّين افترض لوك نظريـّة أقـلّ تفاؤلا حول إمكانيّـة الوصول إلى المعرفـة.
فهـو رفض فكـرة الأفكـار الفطريـّة التي قال بها ديكارت لأنّ العقـل عند جون لوك هو عبـارة عن صفحـة بيضـاء تزوّدها التّجربـة بمضمونها الفعلـي، فالتّجربـة هي المصـدر الوحيـد لكل ما لدينا من معرفـــة.
ويميّـز لوك في نظريّتـه بين نوعين من الأفكـار كان عدم التّمييز بينهما، حسب رأيه، هو ما أوقع بعض العقليين في الخطـأ. هـذه الأفكـار هي:
أ ـ الأفكـار البسيطـة
ب ـ الأفكار المركّبـة
فالأفكـار البسيطـة هي التي تأتي إلى الذّهن بواسطـة الحواسّ، وأمّـا الأفكـار المركّبـة فهـي الأفكـار التي تنشأ من تجمـّع الأفكـار البسيطـة(4) وهي تنقسم بدورها إلى جواهر وأحوال وعلاقات.
وهكـذا فإنّ لوك أخذ على عاتقـه أن يبـرهن عن كون الأفكار تأتي من خلال التّجربـة. وهذه الفكـرة لها خطورة بمكـان. إذ إنّ القول إنّ المعرفـة تأتي من العالم الحسـّي بواسـطة الحواسّ تمثّل قطيعـة مع تصوّرات ديكارت حول المبادئ الفطريّـة الّتي من خلالها يثبت وجود الله.
وهكذا، فإنّ نظريّـة جون لوك قد تعتبر ضربـة قاصمـة تسدّد إلى اللاّهوت والميتافيزيقا باعتبارها جذور شجرة المعرفـة الإنسانيّـة(5).
والغالب أنّ لوك لم يتوجّه إلى هـذه الغايـة، أي نقض اللاّهوت، لأنـّه ظلّ على الدّوام مؤمناً بالمسيحيّـة. ومع ذلك فإنّ أفكـاره مارست تأثيرا قويّا في حركـة الموسوعيّين الفرنسيّـة. هـذه الحركـة التي تعد من أقوى الحركات التّنويريّـة والتي لازال إشعاعها المعرفي قائما إلى حدود اليوم. وهي حركـة، كما نعرف، ناضلت في سبيـل العقل ضدّ سلـطة الكنيسـة و الدّين.
ختاما، إنّ ديكارت رغم إيمانـه بوجود الخالق فإنّه أسهم في تشجيع المذهب المادّي. فالله عند ديكارت ليس له أي دور في الفيزياء التي هي ماديـّة، ولهذا فإنّ العلم عنده يقف على أهبـة الاستعداد لقطع صلته نهائيا باللاهوت(6).
وكذلك حال جون لوك الذي كان مسيحيّا مخلصا رغم استقلال أفكاره الدّينيّة نوعا ما عن الأفكار السّائدة(7).
وهنا أقف عند مسألـة، و بها أختم، وهي:
لعلّ الكهنوت الإسلاميّ أذكى ممّا نتصوّر، لأنّه حين منع الاشتغال بالفلسفة(8)، يكون قد أقفل الأبواب على الفكر. إذ إنّ الفلسفـة حتى وإن كانت تصدر عن رجال مؤمنين قد تقود إلى نتائج أخـرى. وهـذا هو ما حدث بالفعل مع ديكارت وجون لوك ففلسفتهم قادت إلى بروز المذهب المادّي والعقلاني الّذي كانت نتيجته سحب البساط من تحت الكهنوت والمطالبـة بصوت مرتفع، دون خوف أو جبن، بالمجتمع الرّشيد الّذي يحكمـه العقل وحده.
هوامـش: