ثمة فوضى خطيرة في استخدام مفاهيم “التغريب” و“العصرنة” و“التحديث” بوصفها مترادفات يمكن إحلال أحدها محل الآخر، سواء في البحوث الأكاديمية أو في اللغة اليومية المتداولة في تركيا. ازداد الأمر سوءاً بالخلط بين مفهومي “السيكولارية” (secularısm) و“اللائكية” (laicism) كما لو كانا بالمدلول نفسه، ومثال ذلك ترجمة عنوان بحث “نيازي بركس” الذي كتبه بالإنكليزية: “The Development of Secularism in Turkey” إلى التركية بعبارة “العصرنة في تركيا”، مما دفع الوضع إلى فوضى مفهومية كاملة.
المشكلة التي أمامنا والنابعة من استخدام مفاهيم متمايزة كما لو كانت مترادفة في المعنى، تزداد تعقيداً مع تحديد تلك المفاهيم بمقاربة ماهوية تماماً وضمن أطر ضيقة جداً. بعبارة أخرى، ينطلق مستخدمو هذه المفاهيم من افتراض وجود “حداثة” وحيدة، و“علمانية” وحيدة، و“غرب” أحادي البعد، وأخيراً معاصرة وحيدة يمثلها الغرب المذكور. بنتيجة ذلك يتم تحميل المفاهيم المذكورة دلالات تعود مرجعيتها إلى حداثة مجتمعات محددة في الغرب، وإلى العلمانية الفرنسية. وبهذا المعنى تخرج اليابان من الحداثة، وتمسي الولايات المتحدة غير علمانية بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل أكثر من ذلك، يتم نسيان أن “الغرب” ذاته مفهوم مستحدث ومصطنع مثله مثل “الشرق الأوسط” أو“منطقة البلقان”.
ثمة مشكلة أخرى أساسية لهذا النوع من التفكير الذي يحصر الحداثة في شكل وحيد ويضيّق حدود مفهوم الغرب إلى بضع دول أوروبية، وتتمثل في اختزال تلك الحداثة الوحيدة وهذا الغرب إلى مجرد آداب السلوك وأنماط الأزياء وشكل الأبجدية المستخدمة، وما شابه ذلك من ظواهر إجرائية. ليس من قبيل المصادفات أن قادة حركة “التغريب” العثمانية رأوا في تأليف كتاب عن آداب السلوك، واجبهم الأهم. حتى في يومنا الراهن، نرى رئيس تحرير إحدى الصحف التركية في حوار مع إحدى الشخصيات الرسمية من دولة خليجية، يظهر دهشته لأن الشخصية المذكورة تتحدث إحدى اللغات الأوروبية بطلاقة، بخلاف التنميط الموجود في ذهن رئيس التحرير. وللسبب نفسه نرى أن شكل ملابس شخص في مجتمعنا يحتل أهمية أكبر من عدد برامج الكومبيوتر التي يتقن التعامل معها – على سبيل المثال – في تحديد مدى “حداثته”. ومن الأمثلة الفاقعة على هذه المقاربة، إضفاء “العصرنة والحداثة” على أبجدية من الأبجديات (علينا ألا ننسى أن الأبجدية الجديدة وصفت في العام 1928، بأنها “الأحرف التركية العصرية”). للسبب نفسه أيضاً كان من الصعب فهم كيف أن حزباً سياسياً لا يمكن وصفه أبداً بـ“الحديث” وفقاً للتحديد الضيق المذكور، يتنطح لمهمة إدخال تركيا في الإتحاد الأوروبي، ولذلك ساد الاعتقاد بوجود لغز وراءه غايات خفية.
ثمة تحديد مشابه يواجهنا فيما يتعلق بمفهوم “العلمانية”، حيث يتم تجاهل حقيقة أن الفصل بين الدين والدولة يمكن تحقيقه بوساطة عدد كبير من الأشكال، ويتم التأكيد بدلاً من ذلك، على كون العلمانية بتطبيقها الفرنسي، هي الوحيدة الصحيحة والممكنة. المثقفون الأتراك الذين لا يريدون الخروج من هذا الإطار الضيق، ويعدون الأشكال الأخرى من السيكولارية في البلدان الغربية الأخرى، انحرافات عن التحديد الصحيح لمفهوم العلمانية، الأمر الذي يمكننا وصفه بأنه مزايدة على بابا الفاتيكان في كاثوليكيته.
التغريب العثماني/ التركي، والنزعة التسلطية
لعل واحدة من أهم سمات هذه المقاربة الضيقة التي حاولنا وصفها في الأسطر السابقة، هي امتلاكها لسمة تسلطية. فهذه المقاربة، إذ تتنكر لأشكال الحداثة والمعاصرة والسيكولارية التي لا تتوافق مع تعريفها الضيق، تكتسب، ربما عن غير وعي، الصفة القمعية. ينبغي ألا ننسى أن هذه السمة شكلت أيضاً الملمح الرئيسي لحركات التحديث والعصرنة العثمانية وقرينتها المصرية في عهد محمد علي. ولكن بخلاف هذين المثالين التاريخيين، يتم التعامل مع المفاهيم المذكورة اليوم، بوصفها ثابتة لا تتغير. من المفيد هنا أن نفتح قوسين لنذكّر بأن أنصار التغريب العثمانيين في عهد المشروطية الثانية، وبسبب تبنيهم لنظرية الداروينية الاجتماعية، لم يفكروا بـ“حداثة” أو “غرب” أحاديين بالطريقة التي يعتقد بها مثقفونا اليوم، بل كانوا يؤمنون، بخلاف هؤلاء، بأن “الحداثة” ذاتها عرضة للتطور والتغير.
ثمة سبب آخر يفسر لنا هذه الصفة لأطروحات “التغريب” و“التحديث” التي أوضحنا وجودها اليوم، ويتمثل في أن التغريب والعصرنة الجمهوريتين، وهما وريثتا التغريب العثماني، قد حولتا تركيب المادية الفرنسية للقرن الثامن عشر والمادية الشعبية الألمانية للقرن التاسع عشر، إلى عنصر أساسي لا غنى عنه لتحديد مفاهيم “الغرب” و“الحداثة” و“العصرنة” و“العلمانية”. ثمة، لهذا السبب، نقطة يتم تجاهلها بكثرة، وهي أن تيار التغريب العثماني، الذي يتم إرجاعه أحياناً إلى عهد السلطان سليم الثالث بل وإلى عصر الزنبق، لا يشبه في شيء تيار التغريب في عهدي المشروطية والجمهورية. وبخلاف الظن الشائع، لا يتجاوز التشابه بين التيارين، التشابه بين المنظورين الفكريين لكل من “إسماعيل غلنباوي” و“كلج زادة حقي بيك”.
بهذا المعنى، علينا أن نبحث عن سبب كون مقاربة “التغريب / العصرنة” في العهد الجمهوري، والتي استمرت انعكاساتها إلى اليوم، أكثر سلطوية من تيار التغريب العثماني المبكر، في الأساس المادي المذكور. علينا ألا ننسى أن الداروينية الاجتماعية ونخبوية “(غوستاف) لو بون” التي تضفي على نفسها الصفة العلمية، تريان الشرط الأساس لتقدم المجتمع، لا في تأسيس روابط “المواطنين المتساوين”، بل في الإصغاء إلى صوت النخبة المميّزة. إن مؤلف كتاب “Le Bon Sans” الذي يشكل المرجع الأول لكل متحزب لتيار “التحديث والتغريب” العثماني/التركي، أي “دولباخ” يدافع عن الفكرة القائلة إن الحرية الحقيقية تكمن في الخضوع للقوانين التي تهدف إلى إيجاد حل للتفاوت بين البشر ومصدره الطبيعة، خضوعاً حرفياً. وزعم كل من فوغت وبوخنر أن فكرة المساواة هي تنكر للعلم. وأخيراً دافعت وضعية “كومت”، التي تأثر بها المثقفون العثمانيون بعمق، عن مجتمع يعطي الأولوية للوظيفة على الحق.
السجالات حول الحداثة والتغريب والعصرنة في تركيا اليوم
من المفيد التأمل بعمق في مفاهيم “الحداثة” و“التغريب” و“العصرنة” و“العلمانية” والمفاهيم الأخرى التي تستخدم بدلالات متطابقة، وتظهر سمة سلطوية وإقصائية. فإذا تم إدراك احتمال وجود “حداثات مختلفة”، والقبول بأن “الغرب” ليس مفهوماً طبيعياً بل مصنوعاً، وبأنه لا يشير إلى بنية أحادية، فسوف يظهر، تلقائياً، أن النقاش حول ما هو “حديث” وما ليس بالـ“حديث” أو ما هو متماه مع الغرب وما ليس كذلك، لا ينطوي على الكثير من المعنى. وبطريقة مشابهة، فإن القبول بأن التطابق الكلي بين العلمانية التركية والتطبيق المعبر عنه في النموذج الفرنسي، ليس الشرط المطلق للفصل بين الدولة والدين، بوسعه أن يريح بيئتنا الاجتماعية أكثر مما يظن بكثير. إذا تم القبول بأن عدم تبني نمط محدد من آداب السلوك أو طريقة محددة في الكساء، لا يعني الخروج على العصر؛ وبأن اليونانيين الذين لم ينجزوا “إصلاح” أبجديتهم بتبني الأحرف اللاتينية، ليسوا أقل “غربية” من الأتراك والألبان الذين “أنجزوا” الإصلاح المذكور، أو أن اليابانيين ليسوا، للسبب نفسه، أقل “عصرية”، فسوف يظهر بسهولة أن نقاشاً حول “العصرنة” على الأرضية الموصوفة، لن يكون ذا جدوى تذكر (أريد التشديد هنا، على أن المقصود ليس ملاءمة الأبجدية للغة المحكية، بل ما إذا كانت تحقق التحديث والعصرنة المطلوبتين أم لا).ُ
لكن المشكلة الأساس التي تواجهنا، بعيداً عن فوضى المفاهيم، هي أن المثقفين الذين يظنون أنهم يدافعون عن “الحداثة \ التغريب \ العصرنة”، إنما يجيبون على المشكلات الضخمة التي وضعتها الحداثة في وجه الفرد التركي اليوم، بمحدودية وضيق أفق يفوقان ما لدى الأوساط التي ينتقدونها ويعدونها “رجعية” أو “خارج العصر”.