المثقفون الأتراك الذين لا يستطيعون مناقشة مشكلاتهم الاجتماعية والثقافية، بل وتاريخ بلدهم، إلا بوساطة معايير المركزية الأوروبية، يطلقون أفكاراً من نوع: “سند الاتفاق هو ماغنا كارتا التركي” (“سند الاتفاق” ميثاق عقد في العام 1808 بين القصر والأعيان، في عهد السلطان محمود الثاني-المترجم) أو “القرآن هو إنجيل الأتراك”، ما يدفعهم إلى تقديم تحليلات يمكن وصفها بالعبثية. النقاش الذي شغل الرأي العام عندنا مؤخراً حول “الكالفنيين الإسلاميين”، هو أحد الأمثلة اللافتة على ذلك. إذا كان علينا أن نوضح بكلمات أخرى بمساعدة الأمثلة المذكورة أعلاه، فإن المسألة التي نواجهها، هي عجزنا عن مناقشة ما يخص ثقافتنا إلا بوساطة “عزله عن ذاته” بل بـ“تغيير هويته” أو جعله “آخر”، وذلك بالذهاب أبعد من مجرد المقارنة بين علاقات “المركز – المحيط” التي تربط بنى سياسية مختلفة بعضها ببعض، أو المقارنة بين أحكام أديان مختلفة (ولا ضرورة لتبيان مدى أهمية هذا النوع من المقارنات).
أعدّت مؤسسة “المبادرة الأوروبية للاستقرار” تقريراً بعنوان: “الكالفنيون الإسلاميون: التغيّر والنزعة المحافظة في الأناضول الأوسط”، ينطلق من التوكيد التالي: “يربط كثير من رجال الأعمال من مدينة”قيصري“(وسط تركيا) نجاحهم الاقتصادي بأخلاق العمل البروتستانتية التي يعملون بها” الأمر الذي يجب تلقيه بالشك في أقل تقدير. لقد قدم هذا التقرير للمثقفين الأتراك أداة من أدوات “تغيير الهوية” (أو التماهي) يمكن أن يشكل، بالنسبة لهم، الإطار النظري لتطور “غير قابل للتصديق” من نوع “المبادرة الاقتصادية الناجحة في الأناضول الأوسط”، عجزوا عن تفسيره بمعاييره الذاتية.
ما من شك في أنهم بنوا هذا الإطار انطلاقاً من تطبيق الأطروحة الأساسية في كتاب ماكس فيبر الشهير “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” المنشور في العام 1904، على المجتمع التركي والمجتمعات الإسلامية. ويشير هذا إلى عدد من الأمور، أولها إساءة فهم أطروحة فيبر الأصلية، وثانيها الجهل التام بتراث نقدي ضخم تراكم لأكثر من قرن لأطروحة فيبر، وثالثها وجود طبقة مثقفة تركية تغربت تماماً عن مجتمعها وثقافتها، تبذل جهودها لفهم قيمهما بوساطة “التماهي مع الآخر”.
فيبر وأطروحة الأخلاق البروتستانتية
عند تناولنا العلاقة السببية التي سعى فيبر إلى إقامتها بين الكالفنية وروح المبادرة الرأسمالية، يجب، قبل كل شيء، التذكير بأن الأمر لا يتعلق بعلاقة بسيطة أو ميكانيكية. لقد شدد فيبر بصراحة على هذا الأمر، فقال إنه لم يطرح أبداً مقاربات ميكانيكية من نوع الزعم بأن الرأسمالية كنظام اقتصادي هي ثمرة تلقائية للإصلاح الديني، وإنه لم يهدف أبداً إلى اختزال الموضوع إلى بعد “أخلاقي” أحادي شبيه بالتفسير المادي الأحادي لماركس. إذن من غير الممكن الزعم، بالاستناد إلى فيبر، أن مفهوماً محدداً للأخلاق من شأنه أن يولّد بذاته سلوكاً اقتصادياً محدداً، أو الزعم بأن هذا السلوك الاقتصادي لا يمكن أن ينشأ إلا في مجتمعات يحكمها مفهوم محدد للأخلاق.
أبعد من ذلك، أكدت دراسات “لوجو برينتانو” و“ريتشارد تاوني” – وخاصةً هذا الأخير – التي فتحت آفاقاً جديدة في هذا الميدان، أن أطروحة فيبر تشكو من نقاط ضعف خطيرة جداً، وأنه أخطأ في تفسير التطورات التاريخية السابقة بانطلاقه من حقائق عصره، في نوع من التفسير التقهقري. ادعى “تاوني” أن “الروح الرأسمالية قديمة قدم التاريخ” وأن الكالفنية لم تشكل، في أحسن تقدير، أكثر من عامل مسرّع؛ في حين أكد “برينتانو” أن عصر النهضة وماكيافيللي لعبا دوراً مؤثراً في تحطيم القيود الأخلاقية للقرون الوسطى، يكافىء على الأقل، الدور الذي لعبته الكالفنية. هذه الانتقادات التي استغرقت ربع القرن اللاحق على نشر كتاب فيبر، واصله المؤرخون الذين تناولوا الموضوع، فعبّروا عن متناقضات أكثر خطورة انطوت عليها. “هربرت لوثي” مثلاً، وجّه ضربة قوية لأطروحة فيبر، عندما أثبت إجازة الأسقف الكاثوليكي “فابري” للإقراض بفائدة في جنيف، قبل قرن ونصف القرن من ظهور الكالفنية. أما “أندريه بييلييه” فقد أثبت، بدراسته التفصيلية لتعاليم كالفن، أنه كان، في الحقيقة، من أبرز معارضي الرأسمالية. فقد كان كالفن، على عكس ما تقوله أطروحة فيبر، يتبنى، في المجال الاقتصادي، الأفكار الكاثوليكية التي يمكن إرجاعها إلى القديس أوغسطين وأمثاله من قادة الكنيسة، مثله في ذلك مثل لوثر وزوينغلي وجميع قادة الإصلاح الديني.
أبعد من ذلك أيضاً، تتمثل نقطة الضعف الأكبر في أطروحة فيبر، في أن العلاقة السببية التي افترضتها، لم تتطابق مع التطور التاريخي اللاحق. يجب ألا ننسى أن الرأسمالية لم تزدهر في بلدات الريف الهولندي التي أخلصت للمذهب الكالفني إخلاصاً تاماً، بل ازدهرت في أمستردام التي تبنت “المذهب الأرميني”[1]؛ ولم تزدهر في البلدات الجبلية في اسكتلندا التي تفتخر إلى اليوم بتمسكها بأشد أشكال الكالفنية نقاءً، بل في غلاسكو. وبالطريقة نفسها، نرى كيف أصبحت منطقة الفلاندرز الكاثوليكية أحد أكثر المراكز الرأسمالية تطوراً في أوروبا، في حين لم تشهد اسكتلندا “البريسبيتارينية”[2] أية تطورات اقتصادية تذكر، إذا استثنينا بضعة مدن. بعبارة أخرى، من غير الممكن تفسير بزوغ الرأسمالية الأميركية في ثلاثة قرون والحديث عن “روح” تمتد سلسلة نسبها إلى بنيامين فرانكلين، من خلال تناول تاريخ للبروتستانتية تم اختلاقه بوساطة أمثلة انتقائية كـ“جماعة جنيف” والبروتانية والميتودية والمعمدانية. كالفنية القرن التاسع عشر كما فهمها فيبر، لا تشبه كثيراً الجماعات الكالفنية المبكرة التي استندت إلى أرضية فكرية، يمكن لنا بمعنى من المعاني، أن ندعوها “اشتراكية مسيحية”.
بهذا المعنى، عجز فيبر، أيضاً، عن تفسير كيف أن الكالفنية تحولت، بمرور الزمن، إلى إنسانوية مسيحية. إضافةً إلى ذلك، علينا ألا ننسى أن نفوذ الكالفنية بات في تراجع مطرد في جميع أنحاء العالم، بدءًا من الحقبة التالية لمعاهدة ويستفاليا. وهكذا سنرى مع انتصاف القرن العشرين، زوال الكالفنية كقوة اجتماعية ذات شأن، في جنوب إفريقيا، إذا استثنينا الأقلية البيضاء التي تتحدث اللغة الأفريكانية. بدون تفسير سبب إنتاج الكالفنية تأثيرات مختلفة باختلاف الأماكن، لن يكون بوسعنا الدفاع عن فكرة انطوائها على قيم أخلاقية تلعب دوراً محدداً في الاقتصاد.
لذلك نرى اليوم حتى المدافعين عن أطروحة فيبر، يقولون إنها لم تنطو، في الحقيقة، على التفسير الميكانيكي الذي نسب إليها في زمن مضى، وإنها تقدم لنا فقط أداة من شأنها تقوية العوامل الأخرى، في تحليل تفصيلي يتناول تفسير ولادة العلاقات الاقتصادية الرأسمالية.
أطروحة فيبر والإسلام
أطروحة فيبر التي تناولت العلاقة بين روح المبادرة الرأسمالية والأخلاق، زعمت أن الظاهرة الملاحظة لدى الجماعات الكالفنية، لم تلاحظ لدى المجتمعات اللوثرية والكاثوليكية. بعبارة أخرى وضع فيبر الجماعات الكالفنية في تقابل مع المجتمعات اللوثرية والكاثوليكية، كقطبين متضادين. أما فيما يخص الإسلام وعدم تقديمه لأرضية ملائمة لنمو الرأسمالية، فقد تطرق إلى هذا الموضوع بصورة رئيسية في دراسته: “سوسيولوجيا الدين” حيث طرح أربعة أسباب أساسية، هي: عدم استناد الإسلام إلى أساس “الغفران” بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ وعجزه عن بناء مدن مستقلة، بسبب قيمه الإقطاعية؛ واستنسابية العدالة الإسلامية التي تعتمد على رأي القاضي وتختلف أحكامها باختلاف الواقعة، أي عدم قيامها على معايير ثابتة؛ والصفة المرنة للتشريع الإسلامي الذي يؤدي إلى عجزه عن إقامة تقليد قانوني منتظم، وهذا شرط أساسي لقيام العلاقات الرأسمالية، وأخيراً كون المجتمعات الإسلامية تحكم بوساطة قرارات قراقوشية لاستبداد ذي طابع وراثي يدعى “الحكم السلطاني” (Sultanism).
لكي نفهم مدى بعد فرضية فيبر الأولى عن الحقيقة، أي زعمه أن الإسلام لا يستند إلى “الغفران”، وأن “العمل”، بوصفه القيمة التي من شأنها أن تؤمّن المغفرة، لم يحتل مركز منظومته الأخلاقية، وعجزه، نتيجةً لذلك، عن تأمين الأرضية الملائمة لنمو العلاقات الرأسمالية، ... يكفي إلقاء نظرة على المصادر الأساسية للإسلام. كذلك تفسد فرضيته الثانية بالنظر إلى الصفة المدينية لنشأة الإسلام الأول. وإذا كان من الصعب مشاركته الجزء المتعلق بعجز الإسلام عن مراكمة تقليده الخاص في مجال القانون، فإن نقد فيبر المتعلق باستنسابية القرارات القضائية في التطبيق، هو نقد صائب، كما يشير إلى ذلك فقدان القاضي العثماني لاستقلاليته منذ القرن الثامن عشر وصاعداً. أما مفهوم “الحكم السلطاني” عند فيبر، فهو نموذج مثالي لم يوجد أبداً في الواقع العملي. لكن الفرضية الأساس لمقاربة فيبر هي أن الإسلام معيق بذاته للانتقال إلى نمط الإنتاج الرأسمالي. يطرح فيبر، بهذا المعنى، مقاربةً تساند الفكرة القائلة إن التطور الاجتماعي الذي شهده الغرب، هو نتاج الإصلاح البروتستانتي، والتي تبناها، بوساطة من “غيزو”، قادة تيار التغريب العثماني \التركي وتيار الحداثة الإسلامي الذي يمتد إلى رشيد رضا. من زاوية النظر هذه، يمكن القول إنه ليس من قبيل المصادفات أن يسود الاعتقاد، منذ تيار التغريب في عهد المشروطية الثانية إلى يومنا هذا، بأن “الإصلاح الديني للإسلام” هو الشرط الذي لا بد منه للتطور الاجتماعي.
أطروحة فيبر وفكرة الإصلاح الديني والمجتمع التركي
نوقشت أطروحة فيبر في الرأي العام التركي، بصورة جدية، بوساطة دراسة المرحوم “صبري أولغنر” التي حملت العنوان: “الانحطاط الاقتصادي ومسائل الأخلاق والذهنية العامة في مجتمعنا”. لقد كان الرجل عالماً بالمعنى الحقيقي للكلمة ويتمتع بثقافة واسعة راكمها في وسطه العائلي، أهّلته للقدرة على تفسير ما بين سطور تراث غني يمتد من كتب السيرة (المناقب نامات) إلى دواوين شعراء الديوان التقليديين، ومن كتب (النصيحة نامة) إلى كتب تنظيم طوائف الحرف (فتوّة نامات). طبّق “أولغنر” أطروحة فيبر على حقبة انحطاط الدولة العثمانية، وانتهى إلى نتيجة فحواها أن “أخلاق القرون الوسطى” السائدة في تلك الحقبة، أعاقت الانتقال إلى الرأسمالية. من الممكن نقد “أولغنر” بسبب افتراضه علاقة ميكانيكية بأكثر مما ينبغي، بين السلوك الاقتصادي والأخلاق، مشيحاً بذلك النظر عن ملاحظات برينتانو وتاوني على أطروحة فيبر. من الممكن أيضاً القول إن أطروحة “أولغنر” تنتقل من التاريخ الثقافي إلى الواقع الاقتصادي بطريقة مغالية في ميكانيكيتها، لأنها تفترض انعكاس المقاربات السائدة في عالم الفكر في الممارسة الاقتصادية اليومية أو في سياسات الدولة، انعكاساً مباشراً. اللافت أن الشكل المبسط للنتيجة التي توصل إليها “أولغنر” قد أثّر فعلاً، في الحياة الفكرية في تركيا، أكثر مما فعل النسيج الرقيق الذي نسجه كتاب “أولغنر” الذي هو أهم كتاب تناول التاريخ الثقافي التركي. عنينا بذلك الافتراض الرائج في مجتمعنا طيلة قرن مضى، والقائل بوجود عوائق فكرية أمام التطور الاقتصادي للمجتمعات الإسلامية، وبأن الإصلاح الديني وحده الكفيل بتجاوز تلك العوائق. والحال أن “أولغنر” لم يطلق افتراضاً كهذا. لقد سعى الرجل إلى بحث مدى تأثير المنظومة الأخلاقية السائدة في فترة محددة وصفها بـ“مرحلة التفكك” على السلوك الاقتصادي، ممتنعاً عن أية أحكام عامة تتعلق بما قبل تلك المرحلة أو ما بعدها. بعبارة أخرى، لم يتناول “أولغنر” الموضوع في إطار العلاقة المطلقة بين الإسلام والسلوك الاقتصادي، ولم يشر أبداً إلى ضرورة الإصلاح الديني، ولا زعم بأن المنظومة الأخلاقية التي وصفها ممتدة إلى يومنا بلا أي تغيير. ولكن ما حدث مع فيبر، حدث أيضاً مع “أولغنر” الذي عمل على تطبيق أطروحات الأول على مرحلة معينة من تاريخ المجتمع العثماني \التركي، ففسرت فكرته الرئيسية على أنها دعوة إلى الإصلاح الديني الذي من دونه لا سبيل إلى أي تقدم، وضمناً التطور الاقتصادي.
لذلك علينا ألا ننظر إلى التزامن في السجال المتعلق بالكالفنيين الإسلاميين مع الأخبار المتعلقة بصلاة النساء في الجوامع حاسرات الرؤوس، بعدّه مجرد مصادفة. إذ تتم مقاربة كلا الموضوعين انطلاقاً من خلفية فكرية، سواء كانت واعية أم لا، تقول باستحالة استجابة الإسلام لتحديات الحداثة بذاته، وبأن نجاحه في الاستجابة المذكورة رهن بتغيّره بما يشبه الإصلاح الديني المسيحي. هذه المقاربة عاجزة عن فهم أن الإصلاح المسيحي لم تكن له أية مزاعم من نوع الاستجابة لتحديات الحداثة، وأن تعاليم كل من الكالفنية واللوثرية عارضت التغيير بصلابة تفوق جمود الكاثوليكية نفسها، وذلك بسبب تمسكهما الشديد بالمصادر المسيحية الأساسية؛ عجزها عن فهم الأجوبة التي قدمها الإسلام والمجتمع العثماني \التركي، على مدى قرن مضى، على تحديات الحداثة من دون الانفصال عن التراث والتقليد.
هذه المقاربة التي ترى في ثقافتنا وقيمها عقبة أمام التحديث، بل نقيضاً لها، وعجزت أصلاً عن فهمهما إلا بوساطة مماهاتهما مع “الآخر”، تدافع، بمعنى من المعاني، عن وجوب أسلمة الحداثة، بدلاً من استجابة الإسلام لتحدياتها. ليس هذا موقفاً ينبغي نقده، لأنه لا ينطوي، بحد ذاته، على قوة كامنة من شأنها خلق صراع اجتماعي. بل تكمن الخطورة في الرغبة في تعميم هذه المقاربة على المجتمع بعد تحويلها إلى عقيدة أرثوذكسية جامدة، منذ تيار التغريب في عهد المشروطية الثانية وصاعداً. ففي كل مجتمع ثمة أفراد متطرفين أو جماعات متطرفة، يخرجون على القيم العمومية ويفسرون الدوغما كما يحلو لهم. إن قمع هؤلاء بسبب خروجهم على العقيدة السائدة، ليس بالطبع، شيئاً مرغوباً. ولكن علينا ألا ننسى أن السعي إلى فرض أفكار متطرفة من هذا النوع على عموم المجتمع كعقيدة إلزامية، بدعوى أنها تؤمّن التوافق الأقصى مع التحديث، ينطوي على صراعات اجتماعية كامنة.
لقد تجسد هذا التطرف في أشكال متنوعة لا أحد يتذكرها اليوم، تمتد من مقاربة تسعى إلى أسلمة المادية كما في نموذج المسلم الجديد الذي يؤدي فروض عبادته بالتدريب على تسديد السلاح الناري بدلاً من ارتياد الجامع يوم الجمعة، كما عبّر عنه “كلج زادة حقي بيك”، ... وصولاً إلى جهود “عبيد الله أفغاني” الهادفة إلى خلق “أنغليكانية إسلامية” باسم “القوم الجديد” عن طريق تغيير شروط الإسلام. إن سبب عجز الجمهورية عن تحقيق مشروعها الخاص بالإسلام وإخراجه من هامشيته (طرفيته marginal)، على الرغم من كل ما بذلته من جهود، يعود إلى سعيها إلى إعادة بناء التراث الإسلامي بوساطة قيم حداثة افترضت أحاديتها وعرّفتها في مستوى الملبس وما شابه، وذلك بدلاً من التوفيق بين التقليد والحداثة. أما الأساس الفكري لذلك فهو افتراض عجز التقليد والتراث عن مواجهة تحديات الحداثة ما لم يخرجا على قوالبهما، وأنه لا يمكن تمثّل قيم الحداثة إلا بتصفية التراث أو تغييره تغييراً تاماً (مماهاته مع الآخر).
لذلك فإن السجال الدائر حول مفهوم “الكالفنيين الإسلاميين” يقوم على افتراض استحالة قيام المبادرة الاقتصادية الرأسمالية في بيئة إسلامية محافظة، ما لم يجر تحوّل هام في الذهنية العامة. إن مجرد مناقشة مثل هذه الأفكار، تظهر لنا مدى تأثير افتراضات تحولت، بفعل التكرار، إلى دوغما، كالافتراض القائل إن “المسلمين لا يهتمون بالحياة الاقتصادية”. في حين أن تاريخنا القريب يثبت خطأ الافتراض المذكور، كما يمكن أن نرى ذلك سواء في الميدان الفكري الذي نجد تعبيره الأكثر شعبية في رسالة “أحمد مدحت أفندي”: “حب السعي والعمل” (1879)، أو في الواقع العملي، في ازدياد أعداد المستثمرين الأتراك والمسلمين والشركات التي أسسوها، ازدياداً سريعاً في أعقاب صدور “قانون تشجيع الصناعة” (1913)، وخاصة بعد التغييرات التي أدخلت على القانون المذكور في العام 1915.
يظهر لنا النقاش المذكور، من جهة ثانية، الضحالة الفكرية لأوساط المثقفين في تركيا، ومدى بعدهم عن انتاج مفاهيم من شأنها أن تتجاوز العلاقات السببية الميكانيكية. إن تناول أطروحة فيبر، كما لو كانت أحد نواميس الطبيعة، وافتراض أنها قدمت علاقة سببية ميكانيكية – الأمر الذي لم يقل به حتى أشد المدافعين عنها حماسةً -، لا يمكن تفسيرهما إلا بهذه الضحالة الفكرية. الواقع أن الوهابيين الذين هم أكثر من يمكن أن تنطبق عليهم فكرة “الكالفنيين الإسلاميين”، هم، في الوقت نفسه، أكثر الناس بعداً عن “الروح الرأسمالية” المزعومة. هذا المثال وحده يظهر لنا مدى افتقاد النقاش المذكور إلى المعنى. بل لعلنا لم نكن بحاجة إلى المثال المذكور، إذا تذكرنا أن تقرير المؤسسة الأوروبية المذكور في أول هذا المقال، يزعم منذ صفحته الثانية أن منطقة الأناضول الأوسط تكشف عن ملامح “تذكّر بالمعجزة الاقتصادية لنمور شرق آسيا”، الأمر الذي يتعارض مع أطروحة التقرير الأساسية. لعل أفضل ما كان يمكن فعله حيال هذا التقرير، هو حرمانه من الاهتمام لأنه كتب بلغة أجنبية. لكن توقع هذا الموقف من بيئة ثقافية زوّدت الأدب بمصطلحات من نوع “رأس المال الأخضر”، لا ينطوي على معنى ذي بال.
[1] المذهب الأرميني: منسوب إلى “أرمينيوس” (1560 – 1609) وهو لاهوتي هولندي بروتستانتي انتقد تعاليم كالفن، بخاصة في مسألة القضاء والقدر، وقال بإمكانية الخلاص لجميع البشر. (المترجم)
[2] البريسبيتيرانية: كنيسة بروتستانتية يدير شؤونها شيوخ منتخبون يتمتعون جميعاً بمنزلة متساوية. (المترجم