لنتفق على الأمور منذ البداية: كل كاتب كبير وراءه مشكلة. قد تختلف نوعية هذه المشكلة من كاتب إلى آخر. ولكن تظل هناك مشكلة، أو جرح غائر لا يندمل. وكثيراً ما تتموضع هذه المشكلة في مرحلة الطفولة الأولى. فالطفولات الجريحة أو السوداوية هي التي تصنع الكتَّاب الكبار. وبودلير ليس استثناء على القاعدة ولن يكون.
لكن ما هي مشكلة بودلير؟ إنها تتلخص بكلمة واحدة: زواج أمه بشكل مفاجئ بعد وفاة والده بفترة قصيرة جدا. وممن تزوجت؟ من الجنرال أوبك قائد المنطقة العسكرية لباريس.. كان يعتقد أنها له وحده بعد أن مات أبوه. وسوف تسبغ عليه حبها وحنانها إلى أبد الدهر. كان الزمن يتوقف في حضرتها. ولكنه نسي أن الدودة في الثمرة، أن الدهر غدّار لا يؤتمن. أو قل أنه لم ينس شيئا. فالواقع أنه كان صغيراً جداً ولا يعرف ماذا يحصل له.
كانت الأحداث تتلاحق وشريط الأيام مر بسرعة البرق. فأبوه الكبير في السن أصلاً مات وهو لما يتجاوز السادسة. وأمه تزوجت بعد بضعة أشهر أو أكثر بقليل. وفي تلك المرحلة الانتقالية الفاصلة بين موت أبيه وزواج أمه عاش بودلير أجمل لحظات عمره. ولذلك شعر بزواجها وكأنه خيانة أو ضربة غدر لا تحتمل. وقال لها فيما بعد عبارته الشهيرة: من كان لها ابن مثلي لا تتزوج... ولكنها تزوجت وانقضى ذلك العصر الذهبي القصير الذي عاشه بودلير في الجنة. بعدئذ ابتدأ السقوط. وقد كان صعباً، مدوياً، تدريجياً. فقد نزل شارل بودلير إلى أعماق سفلية قلّ أن نزل إليها كاتب آخر. ربما نيتشه وصل إليها، أو دوستيوفسكي، أو وحش آخر من أمثال ادغار آلان بو، أستاذه وقدوته. ولكن هل كان بودلير سيصبح بودلير الذي نعرفه، أي أكبر شاعر في تاريخ فرنسا، لولا ضربة الغدر تلك؟ أشك في ذلك كل الشك. شكراً إذن لضربات الغدر...
يقول لها من رسالة كتبها بعد سنوات طويلة، وبعد أن تجاوز الأربعين، مذّكراً إياها بذلك الفاصل القصير من السعادة العابرة الذي كأنه سرق من الزمن سرقة: “كانت هناك في طفولتي فترة حب ووله تجاهك. استمعي إلى ما سأقوله واقرأي هذه الكلمات دون خوف. في حياتي كلها لم أقل لك هذا الكلام. أتذكر نزهة في عربة الخيول قمنا بها أنا وأنت. وكنتِ قد خرجت للتوّ من أحد المصحَّات، ثم أريتيني الصور التي رسمتيها لي وأنت هناك لكي تبرهني بأنك فكرتِ فيّ أثناء غيابك. هل تعتقدين بأني أمتلك ذاكرة رهيبة إذ أقول لك كل ذلك؟ فيما بعد سكنّا في ساحة سانت-اندريه-ديزار وسط باريس،قبل أن ننتقل إلى ضاحية نويّي. وقمنا بنزهات طويلة لا تنتهي، وعشنا الحنان الأبدي! لا أزال أتذكر أرصفة المحطات التي كانت حزينة جداً في المساء. آه! كان ذلك بالنسبة لي هو عصر الحنان الأموميّ. وأعتذر لك إذ أدعو تلك الفترة بالطيبة لأنها كانت حتماً قاسية بالنسبة لك.كنت أرملة عندئذ. ولكن كنت دائماً عائشاً فيك. كنتِ لي وحدي. كنتِ معبودتي وصديقتي...”.
تلك الفترة من جنة الطفولة المنصرمة، والتي تشبه لحظة مشمسة أو إشراقة رائعة في دياجير الحياة البودليرية، هي التي خلَّدها في قصيدة مطلعها:
لم أنس بيتنا الأبيض
المجاور للمدينة
بيتنا الصغير ولكن الهادئ...
بعدئذ كبر بودلير وعرف أن الشر يقع في صميم العالم. لم يعد يجد فيه حدثاً عارضاً أو صدفة، وإنما حقيقة جوهرية تنخر في أحشاء العالم. وحتى عندما يقبل عليك العالم بوجه أبيض ضاحك ينبغي أن تشتبه به لأنه لن يدوم، ولأنه قد يختبئ وراءه نحس أو شؤم لا تعرفه.
بعد تلك الضربة أصبح العالم إشكالياً بالنسبة لشارل بودلير.أصبح غامضا غير مضمون العواقب.. وبعدها راح يتقصَّد الشر تقصداً: في الكحول، أو الفتيات العاهرات أو المخدرات. راح يعانقه، ينحني أمامه، يقبِّل يديه ورجليه، ويقول له: أنت سيد العالم وأنا انحني أمامك! هكذا انتصر التعكير على الصفاء، والتلوُّت على النقاء، وأصبحت كلمة “شيطان” تشكل إحدى المفردات الأساسية للمعجم الشعري لبودلير. نادراً أن تفتح صفحة واحدة من ديوانه “أزهار الشر” دون أن تجد كلمة شيطان، أو هاوية، أو جثة، أو جيفة، أو ضجر، أو جحيم، أو خطيئة، أو ذنب، أو عهر، أو عذاب، أو ألم، أو سأم، أو سقوط، الخ... بالطبع، فإن الكلمات المضادة كالجمال، والمثال الأعلى، والأثير اللازوردي، والبحر اللانهائي، والله، موجودة أيضاً. ولكن تبقى الغلبة لقوى الشر والسقوط. لقد حطمت قوى الشر حياة شارل بودلير قبل الأوان أو قل تألبت عليه قوى أكبر منه حتى قصمت ظهره، فراح ينحني. راح ينفث نفثات هائلة ويكتب بعضاً من أجمل قصائد الشعر الفرنسي. وأثبت مرة أخرى أن الفن هو صديق العذاب لا الفرح، والشقاء لا السعادة، واليأس القاتل لا الأمل... الفن هو صديق المهاوي السفلية السحيقة والدهاليز المعتمة... لنستمع إلى هذه القصيدة الصادرة عن أعماق بودلير، والتي تكفي، وحدها، لتبرير آلامه وعذاباته:
الإنسان والبحر
أيها الإنسان الحر، أنت دائماً تعشق البحر!
البحر مرآتك، فيه تتأمل بنفسك
داخل الانبساط اللانهائي للجّته
وروحك ليست بهاوية أقل مرارة
****
يطيب لك أن تغوص في أعماق صورتك
تقبّله بالعينين والذراعين، وقلبك
يتلهّى أحياناً عن همهمته وضوضائه
على ضجة تلك الشكوى الجموحة والمتوحشة للبحر
****
كلاكما مظلم ومحتشم
أيها الإنسان، لا أحد استطاع أن يسبر أعماق هاويتك
أيها البحر، لا أحد استطاع ان يكتشف كنوزك الداخلية
من كثرة حرصكما على كتم الأسرار!
****
ومع ذلك فها قد مرت القرون اللانهائية
وأنتما لا تزالان تتصارعان بلا شفقة ولا تأنيب ضمير
من كثرة ما تحبان المجازر والموت
آه، أيها المناضلان الأبديان، آه أيها الأخوان العنيدان.
نلاحظ أن النقطة الأساسية التي ركز عليها فيما يخص العلاقة بين الإنسان والبحر هي تجربة العمق. كلاهما يشكل هاوية سحيقة لا قرار لها. ومن يستطيع أن يسبر تلك الهاوية؟ من يجرؤ على النزول إلى الأعماق السفلية؟ وإذا نزل، أو غاص، فهل يستطيع أن يطلع إلى السطح معافى مرة ثانية؟ وهل أعماق البحر أو هاويته أكثر عمقاً أو اختلاجاً من أعماق الإنسان؟... متاهات في متاهات...
في عام 1861 يكتب بودلير هذه الرسالة إلى أمه: “آه! يا أمي العزيزة. هل بقي أمامنا وقت لكي نكون سعداء؟ لم أعد أجرؤ على تصديق ذلك. عمري: أربعون سنة. فوق رأسي: وصاية قانونية. عليّ ديون ضخمة. وأخيراً، بل والأسوأ من كل شيء هو أني فقدت إرادتي وعزيمتي. من يعلم؟ فربما كان عقلي هو الآخر قد أصيب أيضاً... لا أعرف، ولم أعد أستطيع أن أعرف، لأني فقدت حتى القدرة على بذل أي جهد. قبل كل شيء أود أن أقول لك شيئاً لا أقوله غالباً، وتجهلينه بدون شك، وبخاصة إذا كنتِ تحكمين عليّ من خلال المظاهر. سوف أقول بأن حبي لك يزداد يوماً بعد يوم. من العار الاعتراف بأن الحب لا يعطيني القوة الكافية لكي أنهض على قدميّ. أتأمل في السنوات القديمة، في السنوات المرعبة، وأقضي كل وقتي في التفكير بهشاشة الحياة. ولا شيء غير ذلك.
ومع ذلك فعندي رغبة كبيرة في أن أحيا. وأتمنى لو أعرف الأمان والاطمئنان ولو قليلاً. أتمنى لو اعرف المجد، والرضى عن النفس. هناك شيء مرعب يقول لي: أبداً لن تعرف ذلك. وهناك شيء آخر يقول: حاولْ.
من آلاف المشاريع والخطط الأدبية المتراكمة في علبتين أو ثلاثة من علب الكرتون التي بين يدي والتي لم أعد أجرؤ على فتحها، ما الذي سأنفّذه؟ ربما، لا شيء...
لقد سقطت في نوع من الرعب العصبي الدائم. نعاس بشع، استيقاظ أبشع. عجز عن الحركة أو فعل أي شيء. في مثل هذه الحالة المرعبة من العجز والوسواس النفسي، عادت فكرة الانتحار لكي تراودني من جديد. أستطيع أن أقول لكِ الآن بأنها قد مرت. ولكنها كانت تعذبني في كل ساعة من ساعات النهار. كنت أرى فيها الخلاص المطلق، الخلاص من كل شيء. وفي ذات الوقت، وطيلة ثلاثة أشهر، وعن طريق تناقض عجيب من نوعه، ولكنه تناقض ظاهري فقط، كنت أصلّي في كل ساعة لكي أنال شيئين: لي القدرة على الحياة ، على الاستمرار في الحياة، ولكِ العمر، العمر الطويل...”.
رسالة جميلة جداً، ومعبِّرة جداً جداً، وليست بحاجة إلى شرح. ولكن يعجبني ذلك التعليق الذي قدمه عنها شارل مورون في كتابه: “بودلير في سنواته الأخيرة”. فقد راح الناقد الكبير يفرّق بين الأنا الاجتماعية/والأنا الإبداعية للفنان. وقال بما معناه: الأنا الاجتماعية لبودلير مسحوقة، منهارة، فاشلةكما نلاحظ بوضوح من خلال الرسالة.. لم يحقق بودلير أي شيء في حياته الشخصية على صعيد المادة، أو العمل، أو الوظيفة، أو الثروة، أو الجاه. إنه عاطل عن العمل ولا يعرف شيئاً آخر غير التسكّع في شوارع باريس. ولكن أناه الفنية أو الإبداعية كانت متحفزة، مشتعلة. فالأنا الاجتماعية هي المحبطة، وهي التي تقول له: أبداً لن تعرف الشهرة والمجد، ولا الطمأنينة المادية. إنك فاشل وعاجز وستظل كذلك. ولكن أناه الفنية لم تمت بدليل أنها تقول له: حاول، لا تيأس، فربما وصلت.. هذا الصراع بين الأنا الاجتماعية/والأنا الإبداعية موجود لدى معظم الكتاب الكبار. أقصد الكتاب الحدّيين الذين يخوضون التجارب القصوى الخطرة التي لا تجارب بعدها. فهم أحياناً محبطون، وأحياناً مستثارون بكل حماسة، ولا يعرفون سبب هذه الازدواجية العجيبة. أحياناً يشعرون بالذل والمهانة ويصلون إلى حافة الانتحار. وأحياناً تجيئهم لحظات خارقة فيصعدون من أسفل سافلين إلى أعلى عليين بضربة واحدة. أحيانا في القمة وأحيانا في الحضيض.. في الحالة الثانية يفقدون الثقة بأنفسهم ويصبحون أقل من حشرة... وفي الحالة الاولى يتحولون، بقدرة قادر، إلى جبابرة.
ثم يضيف شارل مورون قائلاً: هذه الرسالة تكشف عن وضع بودلير عام 1861 (أي قبل ست سنوات فقط من موته). فهو كان لا يزال قادراً على كتابة صفحات رائعة، شعرية كانت أم نثرية. وهذا يعني أن أناه الإبداعية كانت لا تزال هي هي، لم تنقص أبداً. ولكن أناه الاجتماعية كانت شبه منهارة: فلا منزل مستقر، ولا زوجة، ولا عائلة، ولا حالة وظيفية أو مادية. على العكس فقد كان مديوناً إلى درجة مخيفة. لكن بودلير كان يعرف أن المستقبل له. صحيح أن الحاضر كان لفيكتور هيغو، ولكن المستقبل، كل المستقبل، لشارل بودلير.