اطلعت مؤخراً على كتابات مدهشة عن أشهر فيلسوف أنجبته فرنسا في تاريخها كله: رينيه ديكارت. فنحن كنا نتخيل أن الفيلسوف شخص منقطع عن العالم. كنا نتوهم أنه يعيش في برجه العاجي، ويتأمل في الحياة والكون من علٍ ويكتب المؤلفات الكبيرة التي تهدي البشرية إلى طريق الحقيقة. وهذا صحيح بالطبع ولكن الصورة تظل ناقصة. وكنا نتخيل أنه بالكاد يعيش، أو يأكل ويشرب.. كبقية البشر.. ولكن هذه الكتابات المختلفة المشارب تعطينا صورة أخرى مختلفة تماماً عن الفيلسوف الفرنسي الأشهر. فهي لا تتردد في التحدث عن: ديكارت الفضائحي! وهذا ما قد يثير الاستهجان لدى محبي ديكارت ومبجليه. بالطبع، فان ذلك لا يعني أن هذه الكتابات والآراء المتفرقة هي ضد ديكارت، أو تجهل عبقريته وأهميته في تاريخ الفكر. على العكس فإنها تعترف بكل ذلك وأكثر. ولكنها تقدم عنه صورة مختلفة تماماً عن الصورة الشائعة. إنها صورة ديكارت الحقيقي، ديكارت من لحم ودم. وهذا كشف لم يُسْبق إليه حتى الآن.
لقد كان ديكارت فيلسوفاً ضخما بدون شك، ولكن فيلسوفاً حراً يقع خارج الأنظمة والمدارس الفكرية. ونحن نقول عنه اليوم بأنه كان هامشياً. وكان عالم رياضيات وفيزياء في ذات الوقت. ولكنه بالإضافة إلى ذلك كان رجلاً مليئاً بالحيوية، ومنخرطاً في الحياة، واللعب، والملذات، بل والمعارك والحروب. وهذا شيء نجهله تماماً. وكانت له عشيقات كثيرات، ومنهن أميرات مشهورات من أمثال الألمانية اليزابيت، والسويدية كريستين.. والأولى مثلت آخر حب وأكبر حب في حياته، وأما الثانية فكانت مجرد علاقة. وكان ديكارت ضارباً بالسيف لا يشقَّ له غبار.. وقد خاض الحروب في بداية حياته الأولى وأبلى فيها بلاء حسناً كما يقال. وهي الحروب المذهبية التي جرت بين الكاثوليك والبروتستانت واكتسحت معظم أنحاء أوروبا في ذلك الزمان. كانت أوروبا آنذاك متعصبة جاهلة تشبه ما يحصل حاليا في العراق أو غيره من أنحاء العالم العربي والإسلامي.
بهذا المعنى فإن ديكارت كان مغامراً في الحياة كما كان مغامراً في الفكر، ولا يمكن فصل هاتين المغامرتين عن بعضهما البعض. فجرأته الفكرية آتية من جرأته الاقتحامية، وفتوحاته الغرامية لا تقل أهمية عن فتوحاته الفلسفية.. لقد كان ديكارت رجل عصره: أي النصف الأول من القرن السابع عشر. وكان عصر الجنون، والحرية، وقعقعة السلاح في الحروب المسيحية. وبالتالي فحياته تصلح لكتب المغامرات أكثر مما تصلح لكتب الفلسفة. فلماذا خبأوا عنا هذه الصورة؟ لماذا أخفوا عنا صورة ديكارت الحقيقي؟ لماذا قدموه لنا وكأنه فوق البشر؟
ولكن ألا ينطبق ذلك على معظم الفلاسفة الكبار كأفلاطون وأرسطو، أو كانط وهيغل؟ لقد آن الأوان لكي نتعرف على ديكارت الواقعي، وأن نتخلص من تلك الصورة الأسطورية أو المثالية التي رسخوها في أذهاننا. يقول بعضهم: نحن فرنسيون، وبالتالي “ديكارتيون”. وكل فرنسي هو ديكارتي بالضرورة، سواء أكان فلاحاً، أم مثقفاً، أم طبيباً، أم زبالاً، أم عالما كبيرا، أم إنسانا عاديا...في فرنسا ينبغي أن تكون قبل كل شيء ديكارتيا. حتى القصاب يقطع اللحم على الطريقة الديكارتية.. والديكارتي المثالي في جميع بلدان العالم هو شخص عقلاني، وضعي، يسير على منهاج العلم بالضرورة. انه شخص رصين، رزين، لا يعرف الأهواء والعواطف الجامحة أو على الأقل هكذا صوروه لنا. انه إنسان لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه...
ولكننا نعرف الآن أن ديكارت كان شخصا متمردا وهامشيا.كان عصاميا عبقريا.فقد تعلم الرياضيات مثلا في فراشه وحيدا. وكان يحب أن يبقى كل فترة الصباح في سريره لكي يشتغل ويفكر في العلم والفيزياء والرياضيات والفلسفة. وكان يحب الشعر، نعم الشعر، من يصدق ذلك؟ كنا نعتقد أنه فيلسوف عقلاني مائة بالمائة، بل وجاف. ولكننا اكتشفنا أن هذا الرجل الذي بلور المنهجية العقلانية للغرب لم يكن عقلانيا جدا في حياته الشخصية..فقد كان يحب الكأس والشراب ومغازلة النساء والمغامرات بل والقيام بالمهمات السرية الخطرة. وكان ملاحقا من قبل البوليس والمخابرات باستمرار. فقد كان متهما في دينه ومرميا بالزندقة. ولذلك فان الأصوليين المسيحيين كانوا يلاحقونه ويقضون مضجعه في بعض الأحيان. ولهذا السبب كان يختفي فجأة من باريس ويغير عناوينه باستمرار. ولهذا السبب أيضا عاش معظم حياته خارج بلاده في المنفى وبالأخص في هولندا حيث كان يوجد هامش من الحرية للعلماء والفلاسفة. وبالتالي فقد حصل له ما يحصل للمثقفين العرب حاليا عندما يضطرون للعيش في البلدان الأوروبية لكي ينجوا برؤوسهم من محاكم التفتيش الأصولية ويفكروا وينشروا بحرية.
كان ديكارت يعيش في عهد الكاردينال الشهير ريشيليو مؤسس الأكاديمية الفرنسية وأحد كبار الدهاة في تاريخ فرنسا كله. وقد اضطر الكاردينال العتيد إلى التعاون مع الأصوليين المسيحيين الذين كانوا يسيطرون على عامة الشعب آنذاك. وكانوا يمثلون غلاة المذهب الكاثوليكي ويضمهم تنظيم خطير يدعى: جمعية القربان المقدس. وكان هذا التنظيم مرتبطا بالمخابرات الملكية وتكمن مهمته في ملاحقة أعداء الدين أو المنحرفين عن الصراط المستقيم. والحق أن مهمتهم كانت تكمن في ملاحقة أعداء الله: أي العلماء والمثقفين الذين يريدون أن يفكروا خارج إطار الأصولية المسيحية أو الامتثالية الاجتماعية الخانقة. وهكذا حرقوا فيلسوفين ايطاليين في مدينة تولوز عام 1619، وكان عمر ديكارت آنذاك لا يتجاوز الثالثة والعشرين عاما. وكانت التهمة الموجهة إليهما هي ممارسة السحر والإلحاد.
وأما ديكارت فقد لا حقوه ليس لأنه ملحد، فقد كان مؤمنا بالله، وإنما لأنه كان متحررا أو متحللا من الطقوس والشعائر المسيحية. يضاف إلى ذلك أنه كان مهووسا بالبحث عن الحقيقة كأي شخص عبقري، هذا في حين أن الحقيقة موجودة ، جاهزة ، في نظر الأصوليين ولا داعي للبحث عنها في مكان آخر. إنها موجودة في الكتب المسيحية القديمة: أي الكتب الصفراء التي علاها الغبار والتي كانت تشكل القاعدة الإيديولوجية للمجتمع الكاثوليكي الارستقراطي الملكي الذي حكم فرنسا أكثر من ألف وخمسمائة سنة متواصلة..
يضاف إلى ذلك أن ديكارت كان يشعر بحزن عميق بسبب الحالة الاجتماعية المزرية للفقراء في عصره وبسبب عددهم الكبير. وكان يتمنى لو يستطيع أن ينقذهم من براثن الجهل والفقر ولكنه لا يستطيع. كان يحس بالآم الشعب أكثر مما نظن. ينبغي العلم بأن معظم الناس في عصره كانوا محكومين من قبل الإقطاع والعائلات الأرستقراطية الغنية. ويا ويلك إذا لم تكن ابن عائلة! فمستقبلك مسدود سلفا.. وكانوا يشتغلون كالدواب طيلة النهار ويشعرون بالانسحاق تحت وطأة الضرائب الثقيلة التي تأخذ منهم ما تبقى من عرق جبينهم. كانوا يقفون عزلا مستسلمين أمام الفقر والمرض والجوع والموت. ومنذ أن كان ريشيليو قد وصل إلى السلطة فان الحريات العامة أخذت تتدهور وتضيق. فالسلطة بطبيعتها تشك بالناس، وتشعر بالقلق بسبب أو بدون سبب، وتعتقد بأنها محاطة بالمؤامرات والمتآمرين. ولذلك فإنها تشدّد من قبضتها على السكان.
وكان لويس الثالث عشر الذي يحكم فرنسا في عهد ديكارت شخصاً كئيباً، معكَّر المزاج، ولا يثق بأحد. كان يشتبه حتى بأقرب المقربين إليه. والواقع أن العصر كان مضطربا واغتيال الملوك واردا. وهذا ما زاد من رقابة السلطة على المواطنين. يضاف إلى ذلك أن العقيدة الرسمية التي كانت مسيطرة آنذاك كانت تتمثل بالمذهبية الكاثوليكية الضيقة والظلامية. وأي شخص ينحرف عنها ولو قيد شعرة كان يُنْبَذ أو يُحاكم بتهمة الزندقة. وأحياناً كانوا يقتلونه حرقاً بعد أن يطلقوا فتوى لاهوتية بتكفيره. كانت أوروبا لا تزال تعيش في عهد محاكم التفتيش، ينبغي ألا ننسى ذلك. وكانت جمعية القربان المقدس تشكل أخطر جهاز مخابراتي شديد السرية. كانت منبثّة في جميع طبقات الشعب، ولكن غير مرئية. وكان هدفها الوشاية بأي شخص تبدر عنه أي رغبة في التحرر، حتى ولو كان تحرراً محدوداً جداً. وكان فقهاء السوربون، أو علماء اللاهوت المسيحي، يراقبون جميع الكتب التي تصدر ويحذفون منها كل ما يعتقدون أنه مخالف للدين، وفي أحيان عديدة كانوا يمنعون الكتاب منعاً باتاً.
ولكن عملاء ريشيليو كانوا يشكلون مخابرات على المخابرات. فقد كانوا يتجسسون على جميع الناس بمن فيهم البوليس وجمعية القربان المقدس ذاتها! فكيف يمكن لرينيه ديكارت أن يعيش في مثل هذا الجو؟ كيف يمكن له أن يكتب، أو يتنفس، أو يبدع الفكر الجديد؟ لهذا السبب غادر بلاده ولم يعد إليها إلا بشكل مفاجئ بضع مرات فقط ولفترات قليلة متقطعة. في الواقع إنه غادرها تحت جنح الظلام بعد أن سمع بأن الكاردينال ريشيليو يخطط لاغتياله عن طريق أحد رجالات القربان المقدس.. ولم يعرف أحد وجهته للوهلة الأولى، ولم يعط عنوانه فيما بعد إلا لبعض أصدقائه الخلَّص بعد أن أمرهم بالحفاظ على السرية المطلقة. وكانوا حريصين عليه أكثر من حرصه على نفسه، لأنهم كانوا يعرفون بأنه المفكر الوحيد القادر على خلافة فرانسيس بيكون وبلورة فلسفة عقلانية جديدة للغرب كله. إنه المنقذ المنتظر، أرسطو العصور الحديثة. بل انه هو الذي سيقوم بأكبر انقلاب على أرسطو ويجعله في خبر كان.. وبالتالي فحياته لم تعد ملكه وحده وإنما أصبحت مصلحة قومية عليا: أي تهم كل المفكرين والشخصيات المستنيرة في فرنسا أو حتى في أوروبا كلها.
وهكذا أقسم اليمين أمام أصدقائه المقربين بأنه سيكون حذرا منذ الآن فصاعدا وانه سيحافظ على نفسه بقدر المستطاع وسيكرس كل جهوده من أجل كشف الحقيقة العلمية-الفلسفية وخدمة الجنس البشري. ووعدهم بالتوصل إلى المنهج الصحيح في أقرب وقت ممكن. وقد توصل إليه وعمره واحد وأربعون عاماً عندما ألف كتابه الشهير “مقال في المنهج”. ولكنه نشره بدون توقيع خوفاً من غضب الكنيسة وبعد أن سمع بمحاكمة غاليليو. وهكذا صدر في 8 يونيو 1637 واحد من أهم النصوص الفلسفية على مدار التاريخ. كل شيء كان جديداً في هذا النص، شكلا ومضمونا. فهو أولا لم يُكتَب باللغة اللاتينية، لغة العلماء والمثقفين آنذاك، وإنما باللغة الفرنسية التي كانت تشكل لهجة عامية أو سوقية لا تليق إلا بالأطفال والنساء... بمعنى آخر فانه لم يكتب بالفصحى وإنما بالعامية إذا ما استخدمنا لغة هذا الزمان. وهو ثانياً لم يُكتَب على الطريقة الأكاديمية الباردة أو الجافة التي تستخدم ضمير “النحن” كبرهان على الموضوعية. وإنما كتب بلغة الأنا الشخصية، كتب وكأنه سيرة ذاتية تروي المسار الفكري لصاحبه: أي لرينيه ديكارت بالذات. وهذا ما خلع عليه طابعاً إنسانياً محبَّباَ ومؤثرا.
نقول ذلك على الرغم من أن النص الفلسفي يتميز عادة بالوعورة والغموض وطمس كل أثر شخصي للمؤلف. ثم يبرر ديكارت كتابته بالفرنسية قائلاً بأنه يريد أن يفهمه الجميع بمن فيهم النساء! ثم إنه كتبه بلغة بلاده لكي يحكم الناس على أفكاره من خلال عقلهم الطبيعي فقط، وليس من خلال الكتب القديمة الصفراء المكتوبة باللاتينية. في الواقع إن ديكارت أراد تسهيل العلم أو تبسيطه لكي يصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس فلا يبقى محصوراً في فئة النخبة المثقفة التي لا تكتب إلا باللاتينية. وكان عمله هذا يمثل ضربة سياسية، أو قل كانت له أبعاد سياسية وتاريخية ضخمة. فبدءاً من ذلك الكتاب الذي بلور لأوروبا منهجيتها العلمية والعقلانية ابتدأ عهد جديد في تاريخ البشرية. وبدءاً منه أصبح كل إنسان قادراً على أن يتثقَّف بحرية وأن يساهم في تقدم العلم والتكنولوجيا. لقد أصبح قادراً على أن يفعل ذلك بكل استقلالية ذاتية، وبغض النظر عن رأي التقليديين ومدرستهم السكولاستيكية (أي الاجترارية التي تحتمي بهيبة أرسطو والكنيسة المسيحية وتكرر أفكارها ومعتقداتها إلى ما لانهاية).
وهكذا يمكننا أن نؤرّخ لبداية العصور الحديثة بذلك اليوم الذي شهد ظهور كتاب ديكارت بدون اسم المؤلف!.. حقاً إنه مقال كبير في المنهج. فقد قدم ديكارت للبشرية المنهجية الضرورية من أجل بلورة العلوم التجريبية والسيطرة على الطبيعة واختراع الآلات التكنولوجية الحديثة التي تبهرنا الآن بقوتها وفعاليتها. كل الحضارة الحديثة التي تشكلت فيما بعد هي من نتاج المشروع الديكارتي. وهكذا نفهم لماذا كرس ذلك الرجل كل وقته من أجل العلم وبلورة فلسفة جديدة تحل محل الفلسفة القديمة: أي فلسفة أرسطو وأناس القرون الوسطى الكنسية المسيحية. وعندئذ نفهم لماذا طرح ديكارت شعاره الشهير: ينبغي أن نسيطر على الطبيعة ونصبح أسيادها الذين يتحكمون بها عن طريق العلم والتكنولوجيا.
وهذا ما كان..فقد تحقق مشروعه بعد مائة أو مائتي سنة على موته وأصبحت أوروبا سيدة العالم بدون منازع. وبالتالي فمن قال بأن الفلاسفة لا معنى لهم؟ وما معنى أوروبا بدون فلاسفتها الكبار؟ وهل كان العرب سيتراجعون إلى مؤخرة الأمم لولا أنهم دخلوا في عصور الانحطاط التكرارية الاجترارية وقضوا على فلاسفتهم وحرقوا كتبهم أو منعوها؟ وفي أي عصر نعيش الآن نحن المثقفين العرب؟ هل نعيش في عصر سارتر وريجيس دوبريه حيث ترسخت الحريات وأصبحت مضمونة أم في عصر ديكارت وغاليليو حيث كان كل مثقف يخاف على نفسه ما أن يمسك بيده قلما؟