حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
زوارنا الكرام ..هرمنا ترحب بكم .. وتدعوكم لاستكمال الثورة الثقافية ..اضموا الينا ثورة وابداعا
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةالأحداثالمنشوراتأحدث الصورالتسجيلدخول
عدد الزوار


 

 عندما يحاكم جان دورميسون أقطاب الأدب الفرنسي بقلم: هاشم صالح

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
باسل
ثـــــــــــــــائر محــــرض
ثـــــــــــــــائر محــــرض
باسل


الجنس : ذكر
عدد المساهمات : 259
معدل التفوق : 770
السٌّمعَة : 21
تاريخ التسجيل : 15/12/2011

عندما يحاكم جان دورميسون أقطاب الأدب الفرنسي  بقلم: هاشم صالح  Empty
18122013
مُساهمةعندما يحاكم جان دورميسون أقطاب الأدب الفرنسي بقلم: هاشم صالح

عندما يحاكم جان دورميسون أقطاب الأدب الفرنسي  بقلم: هاشم صالح  Arton621-941d0
اطلعت بمتعة شديدة على كتابات جان دورميسون عن الأدب الفرنسي. فأنا من قرائه المداومين. وحب الأدب يجمعني به على الرغم من كل الاختلافات الفكرية أو السياسية. وجان دورميسون غني عن التعريف بالنسبة للفرنسيين. فهو عضو في الأكاديمية الفرنسية ومستشار كبير في صحيفة “الفيغارو” التي يكتب فيها منذ سنوات طويلة. يضاف إلى ذلك أنه يظهر كثيراً على شاشات التلفزيون، وبخاصة في البرامج الأدبية الكبرى كبرنامج برنار بيفو الأسبوعي سابقا أو غيره من البرامج حاليا. وقد كان مديراً لقسم الفلسفة والعلوم الإنسانية في اليونسكو لفترة طويلة حيث كان مجاورا لمكتب المفكر المغربي محمد علال سي ناصر و حيث لمحته مرة من بعيد.
باختصار فإنه أحد الوجوه الثقافية البارزة، بل والمدلَّلة في الساحة الفرنسية. فمن لا يعرف جان دورميسون في فرنسا؟ انها لمتعة حقيقية أن ترى كيف يستعرض أعمال كبار الكتاب الفرنسيين من أمثال لامارتين، فولتير، روسو، ديدرو، شاتوبريان، أراغون، موليير، باسكال، بودلير، بروست، سارتر، رامبو وعشرات غيرهم. والشيء المدهش هو اطلاعه الواسع على الآداب الفرنسية منذ نشأتها وحتى اليوم. والواقع أنه أمضى حياته في دراسة الأدب والشعر والرواية. فالأدب هو متعته الكبرى كما يصرح في أكثر من موضع. بإمكانك أن تسأل دورميسون عن أي كاتب أو أديب فرنسي فيجيبك على الفور من هو.. ومن هي عائلته.. وما هي أهم الأحداث التي حصلت في حياته... وما هي مكانته داخل الآداب الفرنسية كلها... يقول عن شاتوبريان مثلاً أنه مؤلف الكتاب الواحد: مذكرات ما بعد الموت. كل كتبه الأخرى سقطت على الطريق في مهاوي النسيان أو اللامبالاة، وبقي هذا الكتاب صامداً يتحدى الزمن. إنه كتاب يشبه المعجزة. إنه يعبر القرون ويصلح لكل الفصول.
ثم يضيف دورميسون بما معناه: على أنقاض حياته الحقيقية وفشلها بنى شاتوبريان حياة أخرى خيالية، حالمة ، جميلة. صحيح انه ارتكز على الأحداث الواقعية التي عاشها لكي يكتب مذكراته ولكنه حورها وزينها لكي تصبح كما يحب أن تكون لا كما كانت في الواقع. ومن خلال سرده لحياته الشخصية راح يسرد الحياة التاريخية والسياسية لعصر بأسره: أي عصر الثورة الفرنسية والملحمة الإمبراطورية لنابليون بونابرت. وجمع المؤلف في مذكراته هذه بين أعمق التحليلات وأكثرها نفاذا من جهة، وبين الرؤى الاستشرافية النبوئية والذكاء الحاد من جهة أخرى. وهكذا حلق شاتوبريان عاليا حتى وصل إلى الذروة التي لا ذروة بعدها. وقد ألف بذلك واحدا من أهم الكتب في تاريخنا الأدبي بل والتاريخ الكوني ككل. وإذا كان ينبغي أن تحتفظ لديك بستة كتب فقط من روائع الأدب العالمي لكي تقرأها عند الضرورة قبل أن تنام، أو لكي تعزي نفسك عن نوائب الزمان في لحظة خلوة فإني أنصحك بمذكرات شاتوبريان هذه. فمذكرات ما بعد القبر لا تقل أهمية عن روائع دانتي أو شكسبير أو غوته..
ثم يضيف جان دورميسون قائلا: كل شيء ابتدأ مع جان جاك روسو فيما يخص كتابة السيرة الذاتية وتدشين العصور الحديثة. فقد أنجب ولدين كبيرين، الأول يساري هو روبسبيير زعيم الثورة الفرنسية والعدو اللدود للإقطاع والأغنياء، والثاني يميني هو شاتوبريان الذي ظل متعلقا بالشرعية المسيحية والنظام الملكي القديم الذي أطاحت به الثورة الكبرى.والواقع أن شاتوبريان شخص متمزق بين عصرين: عصر مضى وانقضى ولكنه لم يمت بعد، وعصر جديد مليء بالفوضى والعنف والمخاضات الثورية التي لا تعرف كيف تنتهي، عصر لم تتبلور ملامحه كليا بعد. من هنا عذاب شاتوبريان الذي فقد كل عائلته تقريبا إبان الثورة الفرنسية. من هنا تمزقه على نفسه أو انقسامه إلى شخصين كل واحد يدين الآخر أو يدخل في صراع مرير معه. وكل ذلك انعكس على مذكراته المفعمة بالعذاب واللوعة والحنين إلى ماض لن يعود.
وأما عن فولتير فيقول دورميسون ما يلي: لقد كتب مسرحيات شعرية كثيرة سوف تذهب إلى مزبلة التاريخ على عكس ما كان يظن. ولكنه كتب “زاديغ” التي تتموضع في مكان ما بين ألف ليلة وليلة وبين الرواية البوليسية. ثم كتب “كانديد” التي يسخر فيها من فلسفة لايبنتز المتفائلة بالتاريخ البشري على الرغم من كل الكوارث البشرية والطبيعية. وكانت رائعته الكبرى التي اخترقت العصور والأجيال دون أن يبليها الزمن حتى لكـأنها كتبت البارحة. وعلى الرغم من ان فلسفته كانت تبسيطية وغير عميقة على عكس جان جاك روسو إلا انه ترك أثرا لايستهان به على الفكر والأدب الفرنسيين. ثم إنه كرس حياته للدفاع عن ضحايا التعصب الديني الذي كان متفاقما في عصره. وأسس بذلك مفهوم الأدب الملتزم قبل سارتر بزمن طويل. وقد سار على خطاه مثقفون كبار ليس أقلهم فيكتور هيغو وإميل زولا وأندريه جيد وسارتر نفسه الخ..وكان ينهي رسائله إلى الآخرين بالعبارة التالية: لنسحق العار والشنار: أي الإخوان المسيحيين أو اليسوعيين أو الكنيسة الكاثوليكية أو الأصوليين. ولذلك حقد عليه رجال الدين كثيرا.
وفي إحدى طلعاته الكبرى استطاع أن يستشرف المستقبل ويتنبأ به. يقول بما معناه:كل ما أفعله الآن يزرع بذور ثورة كبرى سوف تحصل لا محالة ولكني لن أكون هنا لكي أراها واستمتع بها. الأنوار تنتشر شيئا فشيئا إلى درجة أن هذه الثورة سوف تندلع في أقرب فرصة. وسوف تحصل فرقعة رائعة. وهنيئا للشباب الذين سيعيشون حتى يروا كل ذلك بأم أعينهم..وبالفعل فقد اندلعت الثورة الفرنسية بعد موت فولتير بسنوات قليلة. وفي التقييم الأخير يقول دورميسون: كان فولتير مؤرخاً جيداً للماضي والمستقبل. وفيلسوفاً لا بأس به، ومصرفياً كبيراً يملك ثروة هائلة. كان حكواتيا لا مثيل له، ومراسلاً من الطراز الأول. ولكن موهبة الشعر هجرته ولم تمسه أبداً. فولتير ليس شاعراً. فولتير صحافي ولكن عبقري.
وأما عن جان جاك روسو، غريم فولتير ومنافسه على الشهرة والمجد، فيبتدئ جان دورميسون بكلمة مشهورة لغوته يقول فيها: مع فولتير ينغلق العالم القديم، ومع روسو ينفتح العالم الجديد. ثم يضيف: لقد كان ذا خيال ضخم وجبار. وقد استطاع خلال بضعة أشهر فقط أن يؤلف ثلاثة كتب حاسمة في تاريخ الفكر هي: رواية بعنوان: جولي أو هيلويز الجديدة، ثم إميل أو في التربية، ثم العقد الاجتماعي الذي أصبح لاحقا إنجيل الثورة الفرنسية.فالإعلان الشهير لحقوق الإنسان والمواطن مستمد منه إلى حد كبير. وقد أسالت روايته بحرا من الدمع في باريس بعد صدورها وكان الناس يتسابقون على قراءتها زرافات ووحدانا. لقد أصاب روسو العصب الحساس للناس في عصره وربما في كل العصور. ثم يردف دورميسون: لقد توقفت عنده مطولاً، بل وأكثر مما توقفت عند غيره. فهل ذلك لأني أحبه أكثر؟ بالطبع لا. ولست واثقاً من أنه قريب إلى القلب. إنه لا يُحتَمل بدون شك. وأفضل عليه أديباً مثل كورنيه، أو راسين، أو شاتوبريان، أو بروست. ولكن أياً يكن الحكم الذي نطلقه عليه فإنه يظل ذا أهمية حاسمة بالنسبة لنا. فقد أرهص بحزب البيئة أو الخضر بشكل رائع. وأرهص بهيغل، وماركس وما نتج عنهما. وفتح الطريق أمام شاتوبريان الذي لم يكن يحبه أبداً، وكذلك فتح الباب أمام الرومانطيقية.أفتح هنا قوسا وأقول: مفهوم تماما ألا يحب شخص بورجوازي أو حتى ارستقراطي كبير مثل دورميسون كاتبا من نوعية جان جاك روسو، فهما يقفان على طرفي نقيض. ولا استطيع أن أتوسع في الأمور أكثر من ذلك. فقط أريد أن أشير إلى نقطة واحدة: وهي أن اليمين الفرنسي لم يغفر لروسو حتى هذه اللحظة انه دشن الثورة الفرنسية وقلب فرنسا عاليها سافلها وقسمها إلى قسمين، قسم معه وقسم ضده أو قسم جمهوري علماني حديث وقسم ملكي أصولي قديم. هذا الشئ يمر عليه دورميسون مرور الكرام ولكن هو الذي يفسر سبب كرهه لجان جاك روسو..
وأما عن الشاعر الرومانطيقي الفريد دوموسيه الذي قتله الحب فيقول دورميسون ما معناه: قد نحبه، وقد نكرهه، ولكن يبدو أن أحداً لم يعد يقرؤه اليوم. فهل أصبح ألفريد دوموسيه قديما بالياً إلى مثل هذا الحد؟ على أي حال فإني أشعر بتأثر حقيقي إذ أقرأ هذه القصيدة التي أوصى بأن تكتب كشاهدة على قبره:
يا أصدقائي الأعزاء، عندما أموت
ازرعوا شجرة صفصاف على قبري
أحب أوراقها الحزينة
وشحوبها ناعم وغالٍ على قلبي
وظلها سيكون خفيفاً
على الأرض التي تضمني...
ثم ينتقل جان دورميسون إلى فيرلين ويقول: لقد كتب بعضا من أجمل قصائد الشعر الفرنسي على الرغم من انه كان سكيرا عربيدا عنيفا بل وحاول أن يخنق أمه أكثر من مرة..وقد وصفه بورخيس مرة بأنه اكبر شاعر فرنسي. ولكن ربما كان في ذلك بعض المبالغة. لنستمع الى هذا المقطع اذن:
يتساقط البكاء على قلبي
كما يتساقط المطر على المدينة
ما سر هذه الكآبة التي
تتغلغل إلى أعماق قلبي؟
آه أيتها الضجة الناعمة للمطر
على الأرض والأسقف
لقلب مليء بالضجر
آه ما أجملك يا نشيد المطر
أتعس شيء في العالم
ألا تعرف
لماذا بدون أي حب أو كره
قلبك مليء بالحزن
والآن ماذا يقول جان دورميسون عن رامبو؟ منذ البداية تنطلق العبارات من فمه كالشرر: إنه أسطورة عصرنا وطفولته. إنه صحراء النار في أدبنا. بإمكاننا أن نفضل أدباء آخرين عليه كراسين، أو بودلير، أو أراغون، أو مونتيني، أو رابليه، أو بروست، أو كلوديل. ولكن لم يذهب أديب واحد في مجال المغامرة الشعرية ومغامرة الحياة الحقيقية مثلما ذهب رامبو. فلدى رامبو ينصهر الشعر بالحياة في بوتقة واحدة. ومن المستحيل أن نتحدث عن شعره دون أن نتحدث عن حياته، أو دون أن نتحدث عن هربه وصمته الطويل حتى مات. فرامبو لم يكتب الشعر بعد سن العشرين. ومن المستحيل أن نتحدث عن مغامراته دون أن نموضعها داخل تلك الانطلاقة العارمة التي كانت تشدّه نحو شيء آخر، نحو المجهول... يوجد لدى رامبو سر حارق يضعه في مكانة خاصة داخل تلك التلال المتناسقة جدا لحدائق أدبنا ورياضه الغناء.
ثم يردف عضو الاكاديمية الفرنسية قائلا: من السوريالية الى انطلاقة ثورة مايو الطلابية الرائعة عام 1968بل و حتى إلى ما بعدها أي حتى الآن في الواقع فان جزءا كبيرا من تاريخنا ليس فقط الادبي والشعري وإنما أيضا الفكري والأخلاقي يخرج من ديوانه: فصل في الجحيم. رامبو هو شباب الشعر الفرنسي وانطلاقته المتحررة الرائعة. لكن لنستمع الى هذه الابيات:
شباب ضائع
لكل شيء مسخر
لياقة“
ضيعت حياتي
آه لو يرجع الزمن
حيث تشتعل القلوب!
وأما عن بودلير فيقول جان دورميسون تحت عنوان: روعة العبقرية وبؤسها: لقد ولد ولم يعش أكثر من ستة وأربعين ربيعاً في حين أن هيغو تجاوز الثمانين. كل شيء في الحياة كان يبتسم لفيكتور هيغو، وكل شيء كان يعبس في وجه بودلير. لقد عاش بودلير ومات كأتعس ما يكون. وأما حياة فيكتور هيغو فكانت تشبه روائع الأدب العالمي، ومماته كان بمثابة الانتصار. فقد مشت في جنازته الملايين وتوقف قلب فرنسا عن الخفقان ولو للحظة. لقد عاش ممجداً ومات ممجداً على عكس بودلير. ولكن لا يمكن لفيكتور هيغو أن يحتل لوحده الفضاء الشعري لعصره، هذا الفضاء الذي كان مسحوقاً تحت وطأة عبقريته. فبودلير يقف هناك صامداً. كان بودلير مهدَّماً من قبل الحياة، ومجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. بل وقد استهزأوا به وأدانوه. ولكنه يمثل بالنسبة للكثيرين منا نحن المعاصرين واحداً من أكبر الشعراء، وربما أكبر شاعر في آدابنا الفرنسية... لقد أرهص بودلير بالعالم الحديث، وبثّ قشعريرة جديدة في حياتنا...انه شاعر السأم والضجر والقرف من الحياة. انه شاعر النزول إلى الطبقات السفلية التي لم يتجرأ أي شاعر آخر على النزول إليها.
بودلير شاعر الضياع والتمزق والتيه، شاعر الإحساس العميق بالذنب والمرارات..إنه المؤسس الأول للحداثة الشعرية الفرنسية وربما العالمية. إنه أكبر شاعر رجعي في تاريخ فرنسا بقدر ما إن فيكتور هيغو كان أكبر شاعر تقدمي. ولكن هل تنطبق عليه مثل هذه التصنيفات الإيديولوجية المريضة؟ هل للشعر علاقة بالتقدم والتأخر؟ لنقل بأنه كان شاعرا سلبيا منشغلا بتصوير قفا الأشياء أو الجانب المعتم والمرعب من الوجود. بودلير هو الشاعر الملعون، الشاعر المدان بامتياز. انه شاعر الأقبية التحتية والزوايا المظلمة والحقائق الممنوعة. أليس هو القائل:لقد غذيت جنوني الشخصي بالكثير من المتعة والرعب..ثم يقول لأحد أصدقائه الذي يريد أن يرسم صورته: اتركني لجحيمي، لأمراضي التي لا علاج لها..لكن لنستمع إلى هذا المقطع الصغير بعنوان: نافورة ماء
سماء مقمرة،ماء مسقسق، ليلة مباركة
أشجار ترتعش من حولنا دائر ما اندار
حزنك العميق الصافي
ليس إلا مرآة لحبي
هذا هو بودلير في نظر جان دورميسون، ولكن ماذا عن أراغون وكيف يقيمّه؟ من المعلوم أن أراغون شيوعي وجان دورميسون ينتمي إلى عائلة أرستقراطية كبيرة ويعتبر أحد منظّري اليمين الفرنسي إلا أن الأدب جمع بينهما، فيما وراء الخلاف الإيديولوجي الكبير. يقول جان دورميسون: لقد أعجبت كثيراً بأراغون المليء بالنواقص والعيوب. وبما أننا لم نكن متفقين على أي شيء، فإنه علَّمني أن الأدب أقوى من كل شيء. وكالملايين من الفرنسيين حفظت أشعاره عن ظهر قلب. وكنت مجنوناً بكتابه”فلاح باريس“. وقد بقي لفترة طويلة على طاولتي، ككتاب همنغواي”الشمس تشرق أيضاً“. كنت أقلبّ صفحاته وأشعر باليأس والخجل لأني لست قادراً على تأليف كتاب مثله. كم كنت أتمنى لو أني قادر على تأليف مثل هذا الكتاب!... إنه كتاب عن”اللاشيء“، ومن هنا عظمته. فالمؤلف يكتفي بان يتجول في شوارع باريس فقط، ثم يسجل انطباعاته بشكل عفوي لا على التعيين، هنا أو هناك، وينتج عن ذلك فن حقيقي، تنتج لوحات وصور أخاذة. آه من الادب.. انه السهل الممتنع، إنه الفن الذي ينتج عن الاحتكاك المباشر مابين الواقع والخيال: احتكاك ممتزج بهذيان اللغة، بآثار الفلسفة المثالية الألمانية من شيلنغ إلى هيغل، بالشهوانية الخيالية للمدن الكبرى. وعن هذا الاحتكاك الخلاق تتولد الشرارة الكهربائية للإبداع، يتحول العادي اليومي إلى عجيب مدهش أو ساحر خلاب..إنه كتاب فذ لا مثيل له. انه: فلاح باريس، فاقرأوه..
والآن ماذا عن فيكتور هيغو؟ كيف ينظر جان دورميسون إليه؟ على هذا السؤال يجيب: لقد سألوا مرة أندريه جيد: من هو أكبر شاعر فرنسي؟ فرد عليهم: فيكتور هيغو للأسف الشديد! (ينبغي العلم بان فيكتور هيغو بلغ شهرة واسعة تشبه شهرة المتنبي عندنا). وقد بلغ المجد من كل أطرافه، وأصبح اسمه على كل شفة ولسان. ولذلك يضجر منه البعض ومن شهرته التي طبقت الآفاق. كان فيكتور هيغو شاعراً هجائياً وغنائياً وملحميا. وكان روائياً ومؤرخاً وناقداً ومسرحياً، ورساماً، وزعيم مدرسة في الفن، وصحفياً. كان كل شيء تقريباً... ثم كان رجل سياسة من الطراز الأول. كل الثورات الأدبية التي حصلت في نهاية القرن التاسع وبداية العشرين كانت موجهة ضده وضد فصاحته وبلاغته، ولكنها خرجت من معطفه أيضا. لقد جسَّد الشعب في”البؤساء“و”أحدب نوتردام“، وحرَّر اللغة من أغلالها التقليدية. ثم يضيف دورميسون قائلا: إن هيغو يحتل المكانة الأولى في أدبنا بدون منازع، وكلنا يحفظ منه قصيدة أو قصيدتين عن ظهر قلب. لا يوجد فرنسي واحد إلا ويعرف شيئا من شعر فيكتور هيغو. إنه موجود في كل بيت أو مدرسة فرنسية. ينبغي العلم بأن عائلته كانت منقسمة على نفسها: فالأب جنرال في جيش نابليون ولا يحلف إلا باسم الثورة الفرنسية، والأم كانت متدينة جدا ولا تحلف إلا باسم البابا والكنيسة والحق الإلهي للملوك..وهكذا تربى الأولاد في جو من التناقض الرهيب: الأب يشدهم في جهة والأم تشدهم في جهة أخرى مضادة تماما. ليس غريبا إذن ان يكون أخوه قد جن، في حين هو استطاع أن يتجاوز التناقض الأعظم ويصبح عبقريا.. ونلاحظ ان هذا الوضع انعكس على فيكتور هيغو بشكل كامل. فقد كان في النصف الأول من حياته محافظا، مسيحيا، مقربا من الملوك. ثم فجأة أصبح جمهوريا، تقدميا، معاديا للكهنوت المسيحي دون أن يتخلى عن إيمانه بالله. فجـأة راح ينفصل عن الطبقات البورجوازية العليا ويرتبط كليا بقضية الشعب. وبالتالي فحياة فيكتور هيغو مقسومة إلى قسمين: ما قبل التحول الكبير وما بعده، أو ما قبل الخامسة والأربعين وما بعدها.
والآن ماذا عن مالارميه، الشاعر الأكثر غموضاً وصعوبة في اللغة الفرنسية؟ يقول دورميسون: على الرغم من صعوبته الشديدة وأنه لا يُترجم حتى إلى الفرنسية! كما يقول جول رومان، فإن مالارميه شاعر ميتافيزيقي يعبد الجمال من أجل الجمال. إنه من أتباع مدرسة الفن للفن. ويريد أن يفرِّغ القصيدة من كل معنى أو من كل موضوع لكي يركّز فقط على جماليتها الأدبية واللغوية. فاللغة هي كل شيء بالنسبة لمالارميه، كما ستكون كل شيء بالنسبة لفاليري. إن مالارميه يمارس غياب المعنى في قصيدته لكي تمتلئ بالمعنى أكثر! إنه الأب الهادئ لأدب متعالٍ، صعب، لا يصل إليه إلا الخلصّ من الأدباء. وقد فتح الطريق أمام الشعر الباطني الملغز، ولكن أحفاده لم يكونوا على مستواه. فراحوا يتقصدون الغموض من أجل الغموض فقط، ولم يعد للشعر أي معنى...
وأما عن جان بول سارتر فنجد التقييم التالي: كان يمتلك جميع المواهب بالإضافة إلى سهولة عجيبة في الكتابة. كان فيلسوفاً وروائياً، وقد كتب القصص القصيرة والمسرحيات. وكتب السيرة الذاتية، وكان صحفياً على طريقته الخاصة. وكان ناقداً أدبياً وفنياً على السواء. وكان يهتم بالسياسة والتنظير الإيديولوجي. باختصار فإنه كان كاتباً عبقرياً أو”مثقفاً كلياً“بحسب تعبير عالم الاجتماع بيير بورديو. كان يمثل ضمير عصره على طريقة فولتير أو فيكتور هيغو. وبالتالي فيمكن القول بأنه وريث الرجال العظام في تاريخنا. كان المعاصر الحاسم والأساسي لأجيال متتالية من الشبيبة الطامحة إلى الانخراط في الحياة والفلسفة الوجودية. كانت باريس ممتلئة به والكل يتضاءلون أمامه. بهذا المعنى فهو يشبه أندريه جيد، ولكنه أكثر أهمية منه. وعندما مات في مستشفى”بروسيه“في باريس، كان ذلك حدثاً وطنياً وعالميا. وجاء رئيس فرنسا فاليري جيسكار ديستان لكي يخشع ولو للحظة أمام جثمانه بعد أن طلب الإذن من عائلته. ومشى وراء جنازته أكثر من خمسين ألف شخص في شوارع باريس... في الواقع أن سارتر منذ طفولته الأولى كان يطمح إلى المجد الأدبي. وهذا ما نلمحه من خلال قراءة كتابه الذي يشبه السيرة الذاتية والذي يدعى: الكلمات. وربما كان أجمل ما كتبه.
ولكن من المشكوك فيه أن يكون سارتر عديلاً لهوسيرل، أو لياسبرز، أو لهيدغر على المستوى الفلسفي. صحيح أن”الوجود والعدم“كتاب لامع، ولكنه يقع على هوامش الطريق الملكي للفلسفة لا في متنها العريض. وعلى الرغم من فلسفة الحرية التي أشاعها بعد الحرب العالمية الثانية إلا أن سارتر ليس هو أصل الفلسفة الوجودية أو الفينومينولوجية، وبالتالي فلا يمكنه أن ينافس هوسيرل ولا هيدغر فلسفياً.ولكنه عوض عن ذلك بإبداعه في مجالات أخرى كالمسرح حيث لقي نجاحا كبيرا من خلال الذباب والغثيان والأبواب المغلقة الخ.. اما نجاحه في مجال الرواية فكان اقل بكثير فلم يعد احد يقرأ اليوم ثلاثيته الطويلة والمملة: دروب الحرية. ولكن في مجال النقد الأدبي كان له باع طويل عريض من خلال كتابه الجميل عن بودلير أو كتابه الضخم عن فلوبير”أبله العائلة“أو كتابه عن جان جنيه الخ..ولا ينبغي أن ننسى كتابه الضخم في الفكر السياسي: نقد العقل الجدلي.
ثم يردف دورميسون قائلا: كان سارتر منذ نعومة أظفاره يحلم بالأمجاد الأدبية. وقد عبر عن ذلك في واحد من أكثر كتبه جاذبية ومرحا وربما أفضل كتبه: الكلمات. وهو عبارة عن نوع من السيرة الذاتية. ولكنه عندما كبر وأصبح هذا الرجل العظيم الذي طالما حلم به راح ينكر وبكل قوة إمكانية وجود رجل عظيم في التاريخ! وهنا تكمن أولى تناقضاته. فالواقع انه أصبح أكبر مثقف فرنسي في القرن العشرين ومع ذلك فقد صرح قائلا: لا يوجد كاتب كبير ولا منقذ على وجه الأرض ولا خلاص. كل هذه أوهام.. ثم يردف سارتر قائلا: ولكن إذا كنت أرمي لإنقاذ المستحيل في مزبلة التاريخ فماذا يتبقى لنا؟ يتبقى رجل مخلوق ككل البشر، ويساويهم جميعا، ويساويه أي شخص كائنا من كان..يبقى الإنسان وحيدا في مواجهة قدره ومصيره. والإنسان ما يفعله ولا شيء آخر. الإنسان حر يصنع بحياته ما يشاء.
لقد تشكلت أسطورة سارتر بناء على التضاد مع شخصيتين عظيمتين في عصره: ديغول المحاط بأديبين كبيرين هما فرانسوا مورياك واندريه مالرو، ثم صديقه اللدود: ريمون ارون الذي كان دائما في المعسكر الآخر من الناحية السياسية: أي المعسكر اليميني الرأسمالي. ومن خلال مجلته الشهيرة”الأزمنة الحديثة“ما انفك سارتر يحارب ديغول ويدين ديكتاتوريته المزعومة ويشبهه بستالين بل وأحيانا بهتلر! وكان يقف في مواجهة ديغول كالند للند. كان يمثل عبقرية الفكر في مواجهة عبقرية السياسة. ولذلك فان ديغول كان يحترمه على الرغم من كل الكلمات البذيئة التي قالها بحقه. وعندما طلبوا منه أن يسجنه بعد أن نزل إلى الشارع ضده وتجاوز كل الحدود في معارضة حكمه رد عليهم بعبارته الشهيرة التي ذهبت مثلا: لا أحد يسجن فولتير! وهي تدل على عظمة ديغول قبل سارتر..
أفتح هنا أيضا قوسا صغيرا وأقول:
ولكن على الرغم من كل أخطائه السياسية وتهوره إلى جانب الشيوعيين والاتحاد السوفياتي إلا انه يسجل له نضاله ضد الاستعمار الفرنسي ووقوفه إلى جانب الشعب الجزائري عندما كان يناضل من اجل استقلاله. كما ووقف ضد حرب فييتنام القذرة وسياسة جونسون الإجرامية واعترف بحقوق الشعب الفلسطيني على الرغم من ضغط المثقفين اليهود عليه. وبالتالي فمواقفه ليست كلها خطأ على عكس ما يزعم اليمين الفرنسي الذي حقد عليه بسبب هذه المواقف بالذات. ولا أعرف من أين جاءت هذه العبارة: أن تكون على خطأ مع سارتر أفضل من أن تكون على حق مع ارون؟ لا ريب في أن معارضته لديغول كانت خاطئة في قسم كبير منها لأن ديغول عرض نفسه للخطر الأعظم من أجل إنقاذ فرنسا واستقلال الجزائر. ولا ريب في أنه بالغ في مسايرة الشيوعيين عندما قال: كل مضاد للشيوعية فهو كلب! أو عندما قال بان الماركسية هي الأفق الفكري الذي لا يمكن تجاوزه في عصرنا..ولكن لا يمكن أن نقيس ارون به من حيث الكرم والأريحية والتضحية من أجل المضطهدين أو المنبوذين لسبب أو لآخر.سارتر أهم منه بما لا يقاس من حيث العظمة الفكرية والإنسانية. يضاف إلى ذلك أن سارتر كان كاتبا كبيرا على عكس ارون الذي يظل أكاديميا مهما ومفكرا سياسيا متعمقا في فلسفة التاريخ ولكن بدون أسلوب متميز..ارون لا علاقة له بالأدب، هذا في حين أن سارتر كاتب من أعلى طراز.
لننتقل الآن مع دورميسون إلى البير كامو الذي يقول عنه ما يلي: السؤال الأساسي بالنسبة لالبير كامو كان هو التالي: هل تستحق الحياة أن تعاش فعلا؟ هل لها معنى؟ والواقع أن هذا الكاتب الكبير يطرح الأمور بكل وضوح منذ بداية كتابه الجميل”أسطورة سيزيف" على النحو التالي: المسألة الفلسفية الوحيدة التي تستحق النقاش فعلا هي الانتحار.كل ما عدا ذلك تفاصيل. فهناك فجوة بين الإنسان والعالم ، هناك هوة سحيقة. ومن المستحيل ردمها. من المستحيل أن نتصالح مع العالم. ولذلك فان الفلسفة العبيثية أو العدمية هي وحدها الفلسفة الممكنة أو التي لها معنى..والعبثية تعني أساسا حصول طلاق بين الإنسان والعالم. ثم يردف دورميسون قائلا: والغريب العجيب في الأمر هو أن البير كامو طبق فلسفته حرفيا عندما مات بشكل عبثي ولكن دون أن يشعر. فقد كان مقررا أن يعود إلى باريس من جنوب فرنسا بالقطار. ولكن صديقه من عائلة غاليمار مر عليه هو وزوجته في آخر لحظة وأقنعاه بان يعود معهما في السيارة..وفي الطريق بالقرب من مدينة ليون اصطدمت سيارتهم بشجرة وقتلوا على الفور. وعندما فتشوا جيب البير كامو وجدوا فيها بطاقة قطار لم تستخدم بعد.. وهكذا ذهب البير كامو في عز الشباب، أي في السابعة والاربعين، وبعد أن نال جائزة نوبل للآداب..لقد طبق فلسفته حرفيا أو قل طبقت عليه حرفيا من قبل قدر أعمى لا يرحم..ألم يقل لكم البير كامو بأن الحياة عبثية؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

عندما يحاكم جان دورميسون أقطاب الأدب الفرنسي بقلم: هاشم صالح :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق
 

عندما يحاكم جان دورميسون أقطاب الأدب الفرنسي بقلم: هاشم صالح

الرجوع الى أعلى الصفحة 

صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» عندما يرثي نيتشه نفسه...قلم: هاشم صالح
» الوجه الآخر لديكارت بقلم: هاشم صالح
» بيتهوفين بين المجد والعذاب بقلم: هاشم صالح
» فيكتور هيغو ومعاصروه بقلم: هاشم صالح
» سبينوزا: فيلسوف التنوير الأول بقلم: هاشم صالح

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
حركة التنويريين الاحرار لشمال افريقيا :: الحــــــــــــــــــداثـــة-
انتقل الى: